العدد 3248 - الجمعة 29 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ

تعريف الكتابة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

يَفْرَحُ المتتبع لحركة النشر في العالم العربي بارتفاع عدد الكتب المُباعة كل عام، وقد يعزى الفضل في ذلك إلى انفتاح المنطقة على العالم وتفاعل أفرادها مع الناس في كل مكان، إلى جانب الدور الكبير الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد في الترويج للقراءة والكتابة معاً، حيث عرفتنا على كُتّاب كنا نجهلهم، وقرّبت إلينا كتباً فريدة كانت منسية على أرفف المكتبات.

ولكن النسق السائد في معظم الكتابات العربية (الجديدة)، وأعني هنا النصوص الأدبية على وجه الخصوص، يدل على أنها مازالت تعاني من مراهقة فكرية وأدبية، ليس من ناحية الكُتّاب فقط بل من ناحية القرّاء أيضاً. فمعظم هذه النصوص تتأرجح بين الشبق الجنسي الصِّرْف وبين التلاعب بالألفاظ اللغوية دون أن يحمل النص فكرة واضحة، حيث يصعب على القارئ أن يجد رواية أو عملاً قصصياً يتحدث عن قضايا فكرية أو اجتماعية أو تاريخية إلا النزر اليسير.

والغريب هو أن القُرّاء يُقْبِلون على التهام هذه الأعمال ويُعلون من قدرها في أحاديثهم ونقاشاتهم حتى تظن بأنهم يتحدثون عن الإلياذة! وأتساءل هنا: هل على الكاتب أن ينقاد للمجتمع ويكتب «كما يريد الجمهور»؟ أم أن مهمّته تكمن في صناعة الذوق العام وقيادة دفّة الرأي في مجتمعه؟

إن قيمة النص ليست في طريقة كتابته بل في طريقة قراءته، ولذلك فإن النصوص العظيمة هي التي تحتمل أكثر من تأويل تبعاً للمكان والزمان والحالة الشعورية والمستوى الذهني لقرائها، ولذلك فإنها تسافر عبر التاريخ وتُحدث فوضى فكرية كلما توقّف عندها مجموعة من الناس، وبمعنى مُخفف فإنها «تُثير الجدل» على مر الزمن. النص الذي يحتمل تأويلاً واحداً لا يصلح إلا لزمن واحد، ولذلك فإنه لا يعيش بعد صاحبه طويلاً.

النصوص مثل خشبة المسرح، عليك أن تذهب إلى الكواليس لتكتشف أسرارها، ولم تعد القراءة بين السطور تكفي، بل نحتاج إلى القراءة وراءها أيضاً. لا شيء أجمل من كاتبٍ يُثير غريزة التحدي عند قُرّائه ويدفعهم لعبور ذهنه حتى يصلوا به أو بدونه إلى الضفاف البعيدة.

تنتشر اليوم نصوص مبهمة يحب أصحابها أن يُطلقوا عليها لقب (فلسفة). الفلسفة ليست الغموض بل هي السعي إلى تفكيكه، إنها محبة الحكمة والبحث عنها بشغف. إن إغراق الكاتب في الإبهام هو دليل على تغلب النص على كاتبه، وبالتالي يفقد كل معاني الحكمة ويصبح كالنمر الذي تمرد على مدربه فأكله.

النص الذي يستمد طاقته من التحصيل اللغوي ومن المحسنات البديعية والمفردات المقعرة هو نص لا يعيش طويلاً، ولا يمنح القارئ فرصة للغوص فيه أو حتى للسباحة، وهذه إحدى إشكالات النصوص الأدبية العربية الحديثة، فبعضها تخلو من فكرة، وتكتفي بمداعبة مشاعر القارئ وذائقته الأدبية، ولذلك فإن تاريخ صلاحيتها قصير جداً.

الفكرة أهم من اللفظ، فقد تجد من لا يملك حصيلة لغوية كبيرة ويكتب نصوصاً مليئة بالأخطاء، إلا أن طرحه سلس وعميق لأن فكرته واضحة ومتماسكة، ولكن حتى هذا عليه ألا يهمل تهذيب نصه والتمكن من قواعد اللغة، وإلا كان كالنجار الذي يحسن نحت باب رائع إلا أنه لا يحسن تركيبه.

لا أؤمن بأهمية ترابط الأفكار في النصوص، فالفيلسوف الألماني «نيتشه» كان مُبعثَراً ومُشتَتا ولكنه كان عميقاً، فعلى الأفكار أن تكون واضحة ولكن ليس عليها أن تكون مترابطة. فلنعطِ القارئ فرصة لكي يرسم خطوطاً بين الأفكار ويربطها ببعضها البعض، فالقارئ الكسول لا يستحق أن يُكتَبَ له، والقارئ الذي لا يُعمِل عقله ولا يستفز حواسه لفهم النص هو أحد أسباب تراجع المعرفة في مجتمعه.

النصوص الفريدة هي التي يتعلم منها كاتبها أكثر مما يتعلم منها قارئها، إنها النصوص التي تباغته في النوم وتسرق منه أشعة الشمس في وضح النهار، وكلما قرأها تعلّم منها شيئاً جديداً.

النصوص الجيدة هي التي تحرك المياه الراكدة في ذهن القارئ، والنصوص العظيمة هي التي تسكب الأمطار على عقله. مهمة النص لا تكمن في دغدغة أفكار قارئها وعواطفه، بل في إعادة إحياء ما مات بداخله، وأعظم النصوص هي من تشكل إنساناً جديداً.

أجمل النصوص هي التي لا تُقيدها أطر ولا محددات، وأعني هنا الأطر الدلالية، فقد يُستَدَل على نص ما بفكرة معينة في البرازيل تختلف عن الاستدلال الذي توصل إليه قارئ في الكويت، والأجمل من ذلك أن يكون كلا الاستدلالين صحيحين.

إن القارئ الذي ينطلق من أحكام أيديولوجية مسبقة عند قراءته لنص ما فإنه يضيع كل فرصة للفائدة، والقارئ الذي يُسبغ ذوقه الأدبي على النصوص التي يقرأها يضيع فرصة الاستمتاع بها. القراءة هي مغامرة في عقل الكاتب، والمغامر الحقيقي هو الذي لا يخاف ولا يتردد.

إن من يحمل قلماً يحمل العالم بين يديه. يقول ميلان كونديرا: «ليس الروائي مؤرخاً أو نبياً، إنه مستكشف للوجود». ولكي نستكشف الوجود فإنه علينا أن نحمل رسالة في حياتنا حتى وإن كانت بسيطة، فوحدهم أصحاب الرسالات قادرون على النظر أبعد من غيرهم، وهم فقط من يستشعرون الحكمة الإلهية التي وُضعت في ماهيّة الحروف، ويفقهون أسرارها. الكتابة هي البحث عن بوابات السماء، ثم تعبيد الطرق المؤدية إليها عن طريق سفلتتها بالأفكار ورصفها بالكلمة الجميلة

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3248 - الجمعة 29 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:42 ص

      رائع يا أستاذ حارب، شكرا لكم

      بعد ما قلته عن الكتابة والقراءة، جعلتني اشعر برغبة في القراءة على الطريق الصحيح، فهلا تشير لنا في كتاباتك المستقبلية على نماذج من هذه الكتب التي ترتقي بقارئها كما أشرت إلى ذلك في المقال بمعنى نضع قدمنا على الطريق الصحيح، نكون لك من الشاكرين

اقرأ ايضاً