العدد 3359 - الخميس 17 نوفمبر 2011م الموافق 21 ذي الحجة 1432هـ

مصر بين الدكتاتورية الجديدة والديمقراطية الصحيحة: سباحة ضد التيار

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لعلني أبادر للتأكيد أنني لست ولم أكن عضواً في أي حزب من الأحزاب ولا أنوي الدخول في أي انتخابات، وليست لي طموحات أو انتماءات سياسية حزبية وإنما لدي فكر سياسي ومنطق قانوني وفلسفة عملية واقعية. ولذلك فإن الهدف هنا، هو توضيح عدة حقائق فكرية وثقافية ترتبط بطبيعة الفكر الديمقراطي والممارسات السليمة وتتمثل في الحقائق الخمس التالية:

الحقيقة الأولى: إن الديمقراطية هي إجراءات واضحة ومحايدة تجاه الشعب بأسره ولا يمكن تفصيل نظام سياسي، يوصف بأنه نظام ديمقراطي، على مقاس أي قوة من القوى السياسية في المجتمع، وخاصة إذا كانت هذه القوى ليست لها قواعد شعبية، وأنها قوى متعددة ومتصارعة، وليس لها قيادة واحدة لأن مؤدى ذلك نتيجتين:

أولهما: توزع المجتمع بين تلك القوى ولن يظهر حزب أو عدد قليل من الأحزاب تكون له غالبية يستطيع بمفرده أو بائتلاف محدود أن يشكل حكومة مستقرة تكون لها رؤية واضحة في تحقيق التطور السياسي والتنمية والوفاء باحتياجات الشعب الذي عانى كثيراً في العقود الماضية، ولعل هذا ما ظهر في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية حتى العام 1958، عندما تم التخلي عما وصف بالجمهورية الرابعة في بداية عهد الرئيس الأسبق شارل ديغول وإقامة الجمهورية الخامسة التي حققت استقراراً سياسياً للدولة وللنظام السياسي الفرنسي، وأدت لحدوث تناوب واضح ومستقر على السلطة إعمالاً لإرادة الناخبين.

ثانيتهما: إن المجتمع المشتت والنظام السياسي المفكك سيؤدي إما إلى دكتاتورية الفرد وإما إلى دكتاتورية عسكرية لإنقاذ النظام والمجتمع وكلا الحالتين غير مرغوب فيهما.

الحقيقة الثانية: إن قوانين العزل المطلقة ضد أي فرد أو فئة، ولو انتمت إلى نظام قديم هي وصفة غير ديمقراطية، وعندما أعلن ديغول في فرنسا إقامة الجمهورية الرابعة لم يعزل أنصار الجمهورية الثالثة، وفي بريطانيا لم يعزل نظامها السياسي الملكي دعاة الجمهورية على رغم قلة عددهم واستمرار دعوتهم، وكذلك في أميركا لم يعزل النظام دعاة الشيوعية أو الماركسية على رغم تعارض فكرهم مع فكر الغالبية الساحقة من الشعب. إن الذي عزلهم هو الشعب لأنه رفض فكرهم.

ومن ثم فإن قانون الغدر الذي أصدرته حكومة ثورة 1952 لم يكن قانوناً دستورياً سليماً، ولو كانت هناك محكمة دستورية مستقلة آنذاك لكان قد رفض، ولهذا فإن نظام ثورة 1952 انتهى إلى نظام غير ديمقراطي على رغم ما تمتع به زعيمه جمال عبدالناصر من شعبية كبيرة واخفق النظام في تطبيق أحد أهم مبادئ الثورة وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة وانتهت القوانين الاشتراكية بقدر كبير من الانحرافات والفساد. بالطبع، لم ترق إلى مستوى الإبداع في الفساد الذي وصله النظام في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، ومن ثم فإن الحل الوسط هو إصدار قانون رشيد بعزل من يثبت إفساده للحياة السياسية ويصدر بذلك حكم قضائي وأن يكون العزل أو المنع من دخول الانتخابات لمدة لا تزيد عن خمس سنوات.

الحقيقة الثالثة: إن الصراع السياسي الراهن في مصر بين القوى الإسلامية والقوى الثورية يعكس ثلاثة أمور:

أولها: عدم ثقة هذه القوى في سلامة الحكم من قبل أفراد الشعب في اختياراته المستقبلية، وسعي كل منها لتزوير إرادة الشعب الحقيقية سواء عبر استخدام الدين في إطار سياسي، أو عبر وضع قيود شديدة على الانتخابات للوصول إلى نتائج مسبقة.

ثانيها: إن الادعاء، بأن النظام الفردي سيؤدي لعودة نظام مبارك وفلوله، أو لسيطرة الإسلاميين أو لبروز العصبيات والقبلية، هو ادعاء ترد عليه عدة تحفظات تتناقض مع كل ما كان يُنشر ويُكتب قبل ثورة 25 يناير، من قبل شخصيات مهمة من المفكرين والمثقفين والسياسيين الذين كانوا معارضين لنظام مبارك وممارساته، فعلى سبيل المثال كان يقال إن الحزب الوطني ليست له قواعد، وان فوزه بالانتخابات كان نتيجة ضغط الإدارة والشرطة والتزوير. والآن النظام السياسي ليس لديه إدارة تحابي مرشحين من فلول الحزب الوطني، والشرطة ضعفت، ولن تتدخل، والتزوير توضع قواعد لمنعه. إذاً، ماذا تخشى قوى الثورة؟ إنها تخشى أن يكون للحزب قواعد حقيقية، وهذا يعبر عن عدم ثقة الثورة في نفسها، وعدم ثقتها في وعي الشعب، وهي عملية خداع ذاتي وقراءة غير صحيحة للواقع السياسي، إذ إن فلول النظام السابق لن يستطيعوا الصمود في وجه الشعب وقواه الواعية. ومقولة أخرى إن الشعب كان يتعاطف مع التيار الإسلامي، وبالذات الإخوان المسلمين، كراهية في الحزب الوطني، وليس حباً في الإخوان المسلمين، والآن تخشى القوى الجديدة من أن الإخوان المسلمين والتيارات الدينية ستسيطر على الساحة.

وهنا نشير إلى تحفظين، إما ان مقولة تأييد الشعب في ضوء النظام السابق للإخوان هي اقتناع بهم صحيحة، ومن ثم فإنه سيكون لهم تأييد حقيقي في ظل النظام الجديد، ولا يمكن لأية قوانين استثنائية الحيلولة دون ذلك، وإما ان هذه المقولة القديمة خاطئة ومن ثم فإن الشعب لن يصوِّت بصورة كبيرة لمصلحة الإخوان المسلمين، وهذا يعني عدم المبالغة في قوتهم.

الحقيقة الرابعة: إن المجتمع – أي مجتمع – ليس متجانساً في مواقفه السياسية أو مصالحه الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا لابد أن تفرز الانتخابات النزيهة في أي دولة شخصيات لا ترضى عنها شخصيات أخرى، وتكون متنافسة ومتنازعة وهذا هو ما يميز الديمقراطية عن الدكتاتورية، ومصر ليست بدعاً من الدول والمجتمعات. فالعصبيات القبلية قائمة وهي موجودة بصورة أو بأخرى. في أميركا، أكثر الدول ديمقراطية، (أو في بريطانيا أو غيرها)، هناك مثلاً دوائر في أميركا محسومة تماماً للحزب الديمقراطي، ودوائر أخرى محسومة مسبقاً للحزب الجمهوري، والشيء نفسه في بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وتتنافس الأحزاب أساساً في الدوائر غير المحسومة، أما ما يتردد من بعض المثقفين والسياسيين الحاليين في مصر، فهو نوع من عدم الدقة، وعدم الوضوح في الفكر السياسي لديهم بشأن معنى الديمقراطية والانتخابات.

إن هدف الديمقراطية أن يكون هناك تنوع معقول، يحقق الاستقرار، وفي الوقت نفسه يحقق مصالح أكبر قطاعات الشعب، وهذا ما يحدث في دولة مثل الهند، بها عصبيات وقبليات، ومع ذلك فهي تفتخر بأنها أكبر دولة ديمقراطية ومستمرة على رغم كل صراعاتها وتنوعها. إن ثمة مقولة هندية تردد كثيراً وهي ضرورة الوحدة مع التنوع، والتنوع مع الوحدة. إن الإيمان بالوطن مبدأ أساس وواحد، ولكن التعبير عن ذلك مختلف ومتنوع.

الحقيقة الخامسة: إن الخوف من الأحزاب الدينية هو خوف غير مبرر، ويمكن الحيلولة دون استغلال هذه الأحزاب للعاطفة الدينية بمنع طرحها شعارات سياسية دينية تثير القوى والطوائف والأحزاب الأخرى، وذلك أمر يسير قضائياً، لأن الدستور والإعلان الدستوري الجديد يمنع إنشاء أحزاب على أسس دينية أو طائفية. ومن ثم فإن القواعد ينبغي أن تكون واضحة أنه حزب سياسي وليس حزباً دينياً، وأن يكون برنامجه واضحاً وصريحاً مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا. وهذا لا يعني أنه ضد الدين، لأن الدين في مصر سواء الإسلامي أو المسيحي هو جزء من ثقافة المجتمع ومن تراثه، ولكن إثارة مفاهيم دينية لجذب الناخبين، أو الطعن في مرشحين آخرين، أو في مكون أساسي من مكونات المجتمع، تتعارض مع القانون والدستور ومبادئ حقوق الإنسان ووثائقه التي انضمت لها مصر.

الخلاصة أن مصر، كشعب وكدولة وكقوى سياسية، أمام تحد حقيقي ومهم، يتمثل في إقامة نظام ديمقراطي سليم، بفكر ديمقراطي صحيح، ومقاومة أي إغراءات ذات طابع دكتاتوري أو سعي للهيمنة أو للمصالح الشخصية لبعض الشخصيات الباحثة عن أدوار بلا قواعد شعبية، إن المظاهرات والاعتصامات المليونية أصبحت مسألة تثير التساؤل، والمطلوب ليس التظاهر المستمر في ميدان التحرير، وإنما النزول للشارع السياسي وللريف المصري، ومحاولة بناء قواعد شعبية حقيقية، والعمل من أجل مصالح الشعب بغض النظر عن أن يكسب هذا الحزب أو ذاك الجولة القادمة في الانتخابات، وليست هناك سوابق كثيرة أن ينشأ حزب من نخبة من المثقفين المتميزين ثم يستطيع أن يصل للسلطة أو تكون له شعبية كبيرة بين عشية وضحاها. إن أعظم المفكرين مثل أفلاطون وجمهوريته الفاضلة لم يتول منصباً، ومع ذلك يذكره التاريخ، وينسى المئات ممن كانوا أعضاء في برلمان أثينا القديمة، وفي التاريخ الإسلامي فإن من تولوا السلطة ليسوا جميعاً كانوا مستحقين لها، ولم يكونوا جميعاً من العلماء الأتقياء والمثقفين الأذكياء الأنقياء. إن للسياسة قواعدها المتعارف عليها في كل دول العالم، والمدينة الفاضلة، والديمقراطية الكاملة، والنظام الانتخابي الأمثل، هي أمور لا وجود لها إلا في عالم المثل والأحلام.

إن العمل السياسي والديمقراطي هو عملية مستمرة ومتطورة، ويتعلم المواطن والناشط السياسي عبر الممارسة، وتصحيح الأخطاء، وثورة 25 يناير جاءت بعناصر بالغة النقاء، وعناصر أخرى تفكر بمنطق انتهازي، على غرار النظام السابق، ولابد أن نترك الممارسة الديمقراطية وفقاً للقواعد القانونية لكي تفرز بين الغث والثمين، وان تصحح نفسها، وتطور ممارساتها عبر اللجوء للجماهير ونشر الوعي الديمقراطي السليم.

إن الثورة يصنعها الحالمون فكرياً، والمغامرون سياسياً، ولكن التنمية يصنعها الواقعيون الراسخون السائرون وفقاً لقواعد قانونية ثابتة، وتنظيمات إدارية واضحة لا تتغير بتغير الأفراد والجماعات وأهوائها. وتجارب العالم بأسره تثبت هذه المقولة، لقد قاد غاندي الثورة السلمية في الهند التي أدت لاستقلالها، ولكنه عاش حالماً مثالياً وقتل على يد هندوسي متعصب، بينما حقق نهرو بفلسفته الواقعية بناء الهند الجديدة بديمقراطية متعددة تتسامح مع الجميع. ولقد حقق ماوتسي تونغ الثورة الصينية وأقام النظام الشيوعي بعد نضال طويل، ولكنه لم يكن رجل إدارة وفكر واقعي، ولذلك دمر كثيراً من إنجازاته، بينما دنج سياو بنج قاد مسيرة التنمية، وأثبت أن شعب الصين يمكنه أن يحقق معجزة التنمية كما حقق معجزة الثورة. واليوم مطلوب من الشعب المصري الذي حقق معجزة الإطاحة بنظام مبارك بكل قواه الأخطبوطية أن ينتج إدارياً متميزاً يقودها للاستقرار والتنمية

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3359 - الخميس 17 نوفمبر 2011م الموافق 21 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً