العدد 3411 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ

التواطؤ الجماعي ونظرية العنف الرمزي

حسين محمد حسين comments [at] alwasatnews.com

.

تناولنا في الفصول السابقة طقوس علاج المبدّل ولاحظنا تصاعد حدَّة تلك الطقوس وقد سبق أن ذكرنا أن هذه الطقوس تختلف عن طقوس غالبية المعتقدات الخرافية كتعليق الملح أو تقديم العذرة وهي الطقوس التي انتشرت باعتبارها «تأميناً رخيصاً»؛ فطقوس علاج المبدّل تشمل أخطر الطقوس والتي كانت تهدّد حياة الطفل أو وربما تودي بحياة الطفل. وعلى رغم خطورة هذه الطقوس إلا أن هناك نظريات تبرر وجود مثل هذه الطقوس، أو بمعنى آخر هناك تواطؤ بين أفراد الجماعات الشعبية لممارسة مثل هذه الطقوس الشاذة ومن ثم تبرير القيام بها. ومن المحتمل أن التواطؤ الحادث بين أفراد الجماعة تم تعزيزه عن طريق العنف الثقافي الرمزي الممارس عليها من قبل رموز أو زعماء الجماعات الشعبية. إذاً، لكي يمكننا فهم شياع طقس شاذ وخطير بين أفراد جماعة ما لابد لنا أن نفهم آلية عمل العنف الرمزي.

التواطؤ ونظرية العنف الرمزي

هناك تواطؤ جماعي بين أفراد الجماعة لتبرير أعمال معيّنة، ولكي تبدو هذه الأعمال الشاذة وكأنها أعمال طبيعية يتوجّب أن تكون مقبولة من جميع أفراد الجماعة، ولا يجب أن تكون هناك معارضة ضد هذه الأعمال لكي يتم تمريرها وكأنها من المسلمات الطبيعية في المجتمع. ولكن السؤال كيف يمكن إقناع جميع أفراد الجماعة أو المجتمع ككل على تقبّل هذه الأعمال؟، تقدّم لنا نظرية العنف الثقافي الرمز أو العنف الرمزي إجابة منطقية؛ إذ تقوم قيادات الجماعة باستخدام سلطتها لفرض تلك التبريرات وجعلها مقبولة، ومع مرور الزمن تتحول تلك الأعمال الشاذة إلى طقوس مسلم بها. وتنص نظرية العنف الثقافي الرمزي على:

«قدرة الغالبين أو الجماعة الغالبة في مجتمع ما على حجب أي تعسف أو ضرر ناتج عن أي منتج من منتجاتهم الثقافية والرمزية وإظهاره على أنه شرعي، وعلى المغلوبين أو الجماعة المغلوبة في المجتمع نفسه تقبّل شرعية هذا التعسف والترويج لشرعيته».

وهذه النظرية تم تطويرها من قبل الباحثين الفرنسيين بيير بورديو وجان – كلود باسرون في العام 1970م وذلك في كتابهما La reproduction والذي ترجم العام 2007م من قبل ماهر تريمش تحت عنوان «إعادة الإنتاج»، إلا أن هذه النظرية ارتبطت بصورة أساسية ببورديو الذي روَّج لها في العديد من مؤلفاته؛ إذ طبق هذه النظرية في العديد من المجالات، كالمجال السياسي، وفي نقد وسائل الإعلام، وكذلك طبقها لتوضيح صورة المرأة في التراث الشعبي في المجتمعات الذكورية، وقد سبق أن تطرقنا إلى كتابه «الهيمنة الذكورية» في سلسلة سابقة، وفي هذا الكتاب يصف بورديو الرجل بأنه «المهيمن» الذي يفرض قوانين وتصورات خاصة به على المرأة التي تعتبر تلك القوانين والتصورات من المسلمات، ويصف بورديو هذا الفرض بالعنف الثقافي الرمزي الممارس ضد المرأة وهو «ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهم» (بورديو 2009، ص 16).

وفي كتابه «Sur la télévision» والذي ترجمه للعربية درويش الحلواجي في العام 2004م تحت عنوان «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول»، يرى بورديو أن التلفزيون يشكل أداة للقمع الرمزي نظراً إلى المستوى الثقافي أو المعرفي المتدنِّي للمشاهدين الذين يميلون إلى تصديق ما يعرض عليهم، فالقنوات «التلفزيونية وخاصة الفضائية منها لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف (حتى وإن كانت برامجها تتضمن ذلك) إنما هي كما يؤكد ذلك بورديو قد أصبحت أدوات الضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة، أو هي وفقاً للمصطلح الذي يستخدمه بيير بورديو عبارة عن أدوات «للعنف الرمزي» الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على وتسيّر هذه الأدوات» (بورديو 2004، ص 21، مقدمة المترجم).

وقياساً على ذلك يمكننا أن نرجّح ممارسة رموز الجماعات الشعبية لنوع من العنف الرمزي وذلك لتحدث نوعاً من التواطؤ الجماعي لتبرير حدوث أفعال معينة ضمن الجماعة، وذلك إما لحماية أفراد معينة ضمن الجماعة أو لحماية التركيب الداخلي للجماعة وذلك بالحفاظ على التوازن بين معتقداتها، ويرى بورديو أنه في حال حدث تساؤل من قبل بعض أفراد الجماعة أو نقد لبعض المسلمات المفروضة على الجماعة؛ ما يؤدي إلى نشوء فرضيات جديدة حينها تحدث المجابهة بين الفرضيات القديمة والفرضيات الجديدة، وتصبح حينها الصراعات الفكرية والسياسية بين الفئات المهيمَن عليها والفئات المهيمِنة نتيجة طبيعية للاختلاف في المصالح والمنافع والأوضاع (سالم 2002). وسنعرض هنا بعض الأمثلة لعملية التواطؤ بين أفراد الجماعات الشعبية لتبرير حدوث فعل مشين.


التواطؤ لتبرير قتل الأطفال

يمكن ملاحظة التواطؤ الجماعي لتبرير قتل الأطفال بصورة واضحة في وأد البنات عند العرب في الجاهلية وذلك لكثرة تناوله في العديد من الدراسات المختلفة، ولكن هناك صمتاً عن تواطؤ جماعي آخر لقتل الأطفال حديثي الولادة عند المسيحيين واليهود منذ القرون الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر، ومن الكتب الحديثة التي وثقت ذلك كتاب The Origins of War in Child Abuse للمفكر الاجتماعي الأميركي Lloyd deMause، وبالتحديد الفصل التاسع من الكتاب والذي تم إعادة نشره في دورية The Journal of Psychohistory في العام 2010م. يذكر الكاتب أن قتل الأطفال حديثي الولادة كان يحدث وكأنه حدث روتيني، وأن هناك من النساء من تلقي بالطفل في النهر، ولم تكن هناك عقوبة للأم التي تقوم بقتل طفلها حديث الولادة وإن أقصى عقوبة لها هي حرمانها من دخول الكنيسة لمدة أربعين يوماً (deMause 2010، pp. 178 - 179). وهذا يعني أنه ليس من الغريب أن يقتل طفل بسبب أنه معوق أو مريض بحجة أنه مبدل.


التواطؤ لتبرير الاغتصاب

سبق أن ذكرنا أسطورة «الكابوس» Incubus وهو في التراث المسيحي جني أو شيطان يتصور في صورة أحد الأشخاص ويقوم باغتصاب النساء أو معاشرتهن وهن نيام، وقد وجد العديد في هذه الأسطورة عذراً لتبرير أفعالهم، وقد ذكر Scot في كتابه «Discovery of Witchcraft»، والذي طبع للمرة الأولى العام 1584م، عدداً من القصص عن الكابوس منها أن راهبة زعمت أن أحد الأساقفة قام باغتصابها، إلا أن الأسقف زعم أن «كابوساً» تصور في هيئته، وقد تم تصديقه (Edition 1886، pp. 62 - 63)، وقد أجمع عدد من الكتاب أن هذه القصص تمثل عملية استغلال لأسطورة «الكابوس» وأن هناك تواطؤاً لقبولها (انظر على سبيل المثال Tylor 1954 في كتابه Sex in History).


التواطؤ لتبرير الخيانة الزوجية

في حال حملت الزوجة أثناء غياب زوجها عنها لفترة طويلة من الزمن فهناك العديد من القصص التي تبرر هذه الخيانة الزوجية، منها أسطورة الكابوس إلا أنها قديمة جداً، أما من القصص الباقية حتى يومنا هذا فهناك قصة الحمل من «سروال الزوج» وكذلك قصة «الطفل الراقد». ومعتقد الطفل الراقد قديمة الذكر فقد ذكرت في كتاب «الرحمة في الطب والحكمة» المنسوب للسيوطي الذي عاش في القرن الخامس الميلادي (طبعة دار الكتب العربية، مصر، 1908م، ص 195)، أما في الوقت الراهن فقد ذكر هذا المعتقد مصطفى واعراب في كتابه «المعتقدات السحرية في المغرب» (النسخة الإلكترونية غير المرقمة):

«ترقيد الجنين هو تنويمه لفترة طويلة قد تبلغ أضعاف فترة الحمل الطبيعية، ويعود أصل الاعتقاد في وجود حالات الجنين الراقد لدى بعض النساء إلى المراحل التاريخية التي سبقت ظهور وانتشار وسائل منع الحمل، ففي مجتمع ساذج وسهل التصديق كمجتمعنا والعبارة للطبيب الفرنسي «موشون» يصدق الناس، خصوصاً في المجتمعات القروية المنعزلة أن امرأة غاب عنها زوجها منذ سنين بعيدة (بسبب الوفاة أو الهجر) اكتشفت متأخرة أنها حامل منه وأن حملها كان «راقداً» في رحمها طول تلك السنين، إما تحت تأثير صدمة الفراق أو بعمل سحري من خصومها وأعدائها (...) ويبدو أن منشأ الاعتقاد في «الراكد» (الراقد) يعود إلى أزمنة سابقة كان خلالها المجتمع يمارس نوعاً من التواطؤ الجماعي بنسب الحمل الذي يقع لفتاة أو امرأة خارج إطار الزوجية، إلى الجن، أو أن يتم في حالة المرأة التي سبق لها الزواج، ادعاء أن حملها شرعي من زواجها السابق وأنه كان راقداً ... إلخ. ومع مرور الوقت، ترسخ الاعتقاد لدى الأجيال في حقيقة «الراكد»، لكن يبدو أن الانتشار الواسع لوسائل الحمل، جعل المفهوم طوراً يدخل الانقراض كممارسة وإن كان لايزال حاضراً كمعتقد»

إقرأ أيضا لـ "حسين محمد حسين"

العدد 3411 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً