العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ

حائط شارون!

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

يقول الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه «نقد العقل السياسي»، في فصل «الاستراتيجيّة في مقابل الطوباويّة»: الطوباويّات هي جوهريّ لا مكانيّات. فإذا غاب المكان غاب المستقبل. الطوباويّات، تحذف عامل الحرب من حساباتها. وعدم حسبان حساب للعدو، هو ذلك النسيان المحبّب المستمر لدى صانعي قصص الحب البريء. والمجتمعات التي لا تخوم لها، معفيّة منذ بداية الامر من الاعتداءات. وإذا غاب الجيران، غابت الجدران.

تولد الطوباويّات من الحروب، وهي ردّة فعل عليها، وعلى مجازرها. من هنا كان التناوب المستمرّ في الظهور بين الفكر الطوباوي والحرب. عادة، كل النظريّات تتساوى على الورق. يبقى المهمّ في التنفيذ العملي على الأرض.

يمثّل شارون دون شكّ، البُعد المتمثّل بالحرب. تاريخه دليل على ذلك. وهو يعي أن الآخر، سيردّ عليه ببُعدين، لا يمكن لهما أن يشكّلا خطرا عليه وعلى استراتيجيّته، هما: الاول، بُعدٌ سياسي مدعوم بقوّة (عنف) غير كافية، ترتكز على ما توفّر وتيسّر، وعلى المبدأ الذي يقوم على «إذا لم تستعمله، تخسره»، لان الموضوع أصبح موضوع وجود، إما انا، او انت. أما الثاني، فهو الطوباويّة، والتي قد تمثّل وتعكس مدى العجز الذي وصل إليه هذا الآخر، والتي ترتكز على القانون الدولي وكل ما يمثّله، أي بمعنى آخر، نظريّات على الورق من دون تطبيق فعلي على أرض الواقع.

يعي شارون هذا الواقع. فالجيران موجودون، ويريدون استرداد ما لهم من حقوق. وهم موجودون بكثرة، ولهم عمق استراتيجي كبير. ومع الوقت، قد يصبح هو وبلده مطوقين من قبلهم. إذا هو يتعامل مع المستقبل إنطلاقا من هذه المعطيات. لا يوتوبيا في العقل الشاروني. هناك فقط الواقع القاسي، والذي تراكم على فترة قرن من الزمن تقريبا، إذ الدم هو السلعة الوحيدة المتوافرة، وبكثرة.

إذا مع وجود الجيران، كان لابد من بناء الجدران. فالفصل والانفصال هما جزء لا يتجزّأ من التراث اليهودي، والذي تمثّل بنظريّة الغيتو. في الغيتو، أبدع اليهودي، لانه كان صرفا من اليهود. في الغيتو، كان الخارج يمثّل دائما المحيط المعادي، والذي لابد من التعامل معه على هذا الاساس. نجح اليهودي في إدارة الشأن الداخلي لهذا الغيتو، لانه كان من جنس واحد. لكنه فشل في التعامل مع الخارج. انتج الغيتو عقليّة «المُحاصر» لدى اليهودي، حتى ترسخّت في جيناته، ومنها واستنادا إليها، راح يبني طريقة التعامل مع الآخر.

ما الجديد في الواقع اليهودي الحالي؟

- لاوّل مرّة في التاريخ اليهودي، هناك الغيتو الأكبر، والمتمثّل بالدولة العبريّة. لكنه الغيتو الاول الذي يحوي من غير اليهود. فالعرب موجودون داخل هذا الغيتو، ولا يعرف اليهودي كيفيّة التعامل معهم، لأن تجربته غير مكتملة في هذا البعد. وبسبب الصراع ما بين الاثنين على ما أطلق عليه حرب وجود، كان لابد من التضحية بالأغلى من دون حساب. يندرج ما يقوم به شارون في خانة عزل الآخر، ضربه، ترحيله وإذا استدعى الامر إبادته.

ماذا عن الجدار الشاروني؟

- قسّم الجيش الاسرائيلي الضفة الغربية إلى ثلاثة قطاعات أمنيّة هي:

من جنين في الشمال وحتى القدس في الوسط

من القدس وحتى أقصى الجنوب للضفّة

أما المنطقة الثالثة فهي المنطقة المتمثلة بأريحا ومحيطها المباشر

إن القسم الذي يبنى من الجدار، هو القسم الذي ينطلق من قلقيلية، صعودا حتى طولكرم، جنين ونزولا حتى نابلس.

القسم المُكمّل للاول والموافق عليه من قبل الحكومة الاسرائيلية، هو القسم الممتد من قلقيلية، نزولا حتى القدس.

أما القسم المقترح كمشروع، فهو الجدار الممتد من نابلس في غرب الضفة، نزولا حتى رام الله، والذي قد يلتف على مدينة الخليل. يستمر هذا الجدار المشروع نزولا نحو الجنوب الاقصى للضفة، ليعود بعدها إلى الصعود باتجاه الشمال، فيلتقي بذلك بالجدار الموافق عليه حول القدس.

إن طول القسم الموافق عليه حتى الآن هو حوالي 360 كلم. وفي حال استكماله، فقد يصل إلى 700 كلم.

هناك اقسام من الجدار ستكون من الباطون، وبعضها قد يكون من الاسلاك الشائكة. إن ارتفاع جدار الباطون، قد يصل إلى 8 أمتار.

ستكون هناك مناطق عازلة أمام الجدار يتراوح عمقها ما بين30 و100 متر.

إذا اكتمل بناء الجدار، سيعزل هذا الأمر حوالي 95000 فلسطيني.

10 في المئة من الضفة سيُصادر فقط بسبب الطريق التي سيسلكها الجدار

في بعض المناطق، يدخل الجدار حوالي 6 كلم داخل الخط الأخضر.

يطلق الرئيس الاميركي جورج بوش على هذا الجدار تسمية السياج، تجنبا لمقارنته بجدار برلين. لكن الأكيد ان هذا الجدار، وفي حال استكماله، فهو سيكون أطول من جدار برلين بثلاث مرات، وأعلى منه بمرتين.

قد تطول لائحة التأثيرات السلبية لهذا الجدار على الفلسطينيين كثيرا. لكن ما اهداف «إسرائيل» من هذا المشروع؟

من خلال بناء هذا الجدار، يبدو ان «اسرائيل» تهدف إلى ما يأتي:

السيطرة على المنطقة الممتدة من البحر المتوسط وحتى الحدود مع الأردن.

عزل الدولة الفلسطينية - والمزمع إقامتها - عن كل من الاردن ومصر.

إفهام الكل انه لا عودة إلى حدود الـ 67.

يبدو ايضا ان «اسرائيل» قد بدأت بترتيب أمور الداخل بتفاصيلها الصغيرة. فهي قد وعت ان الخطر العراقي اصبح إلى غير رجعة. وأنه اصبح من اهتمامات الولايات المتحدة. وأن اميركا اصبحت تطوق ايران، وتهدد سورية ولبنان. إن هذه التحولات الجيواستراتيجية في المنطقة، قد اراحت «اسرائيل» الامر الذي جعلها ترتد إلى تدبير امور الداخل.

من المعروف ان نظرية الأمن القومي الاسرائيلي تقوم على الأسس الآتية: أمن الداخل، تفكيك دول المحيط، الأمن الغذائي واحتكار اسلحة الدمار الشامل. يتقدم حاليا البعد المتعلق بالأمن الداخلي. من هنا كان الجدار.

يبدو ان الجدار يشكّل جزأ بسيطا من منظومة كاملة متكاملة تتعلق بالأمن الداخلي. تقوم هذه المنظومة على الاسس الآتية: زرع المستوطنات ذات الصفة والمهمة الامنية داخل المجتمع الفلسطيني. تحقيق امن هذه المستوطنات عبر الطرق الالتفافية واغتصاب المزيد من الأرض. إن وجود هذه المستوطنات يحتم وجود القوة العسكرية اللازمة لحمايتها. وقد خلقت «اسرائيل» الوحدات المتخصصة في مقاتلة الارهاب بحسب توصيفها. ووجود هذه القوة العسكرية، يعني السيطرة الامنية على الأرض. يضاف إلى هذه المنظومة السيطرة على الطريق التي تفصل الضفة عن قطاع غزّة.

وكي تستكمل «اسرائيل» هذه المنظومة الامنية، تسعى «إسرائيل» وبالتعاون مع اميركا إلى تركيب جاهز سياسي فلسطيني مستعد لقبول مشروعاتها. على ان يستكمل هذا الجهاز السياسي الفلسطيني، بتركيبة امنيّة فلسطينية تقوم مهمتها الاساسية على تطويع المعارضين، وحتى ضربهم.

قد يستتبع بناء الجدار ترتيب ما هو ضمن المنطقة التي يطوقها هذا الجدار. فإسرائيل ستنظف المنطقة داخل الجدار، خصوصا في بعدها الأمني. وستسيطر على الأمن الغذائي الفلسطيني خصوصا المياه.

سيعكس هذا الجدار صورة وشكل الدولة الفلسطينية المستقبلية. فهي ستكون شبه دولة. لا جيش ولا سلاح لها للدفاع عن نفسها. لا سيطرة جوية على فضائها القانوني، ولا قرار حتى على ما تبقى لها من أرض

العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً