العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ

واشنطن فقدت الثقة في المتأمركين العرب

إصلاح عقولنا الفاسدة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

فشلنا في تغيير افكارنا واصلاح عقولنا، فجاءت أميركا الآن لتتولى الأمر بيدها، وعلى هواها، بما يحقق مصالحها.

وتغيير الافكار واصلاح العقول، بما يعني ايضا تغيير السياسات واصلاح النظم السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة، أصبح شعار وعنوان استراتيجية العمل الأميركية في المرحلة الحالية، كما هو معلن على ألسنة كل المسئولين الأميركيين، وليس ادعاء أو افتراء من جانبنا... اذن فالامر جدٌّ لا هزل فيه، هذا من ناحية.

أما من الناحية الأخرى، فمن الواضح ان ولاة الامور في واشنطن، فقدوا الثقة بـ «المتأمركين العرب» خلال المرحلة الاخيرة مرتين، مرة في العمل العسكري، وأخرى في العمل السياسي الثقافي... في المرة الأولى، راهنت السياسة الأميركية على مدى العام الماضي خصوصا، عندما كانت تعد العدة لاجتياح العراق على ما كان يسمى منظمات المعارضة العراقية في الخارج، فسلحتها ومولتها ودربتها، لتكون هي رأس الرمح في «تحرير العراق» من نظام الرئيس المخلوع صدام حسين، ومضت في سبيل ذلك إلى آفاق بعيدة.

لكن واشنطن اكتشفت ان معظم هذه المنظمات عالية الصوت، لأنها كانت تعيش في المهاجر الاوروبية والأميركية والعربية، لكنها لا تملك التأثير في الداخل، إما لضعف روابطها بالداخل، وإما لقوة قبضة النظام البعثي على الأقل من الناحية الامنية، فضلا عن اكتشافها حجم الخلافات والفساد بين هذه المنظمات.

هكذا صدمت في حلفائها من المتأمركين العرب، وفشل رهانها على ان يتولوا بأنفسهم الانقلاب من الداخل على نظام حديد صارم لا يرحم، فقررت كما نعلم ان تأخذ الامور بيديها وان تغزو هي بجيوشها الجرارة وترسانتها العسكرية التكنولوجية العراق، لتسقط النظام وتستولي على بغداد في التاسع من ابريل/نيسان الماضي كما يعلم الكافة.

وفي المرة الثانية راهنت السياسة الأميركية - مرة أخرى - على اصدقائها المتأمركين العرب، العاملين في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاعلامية خصوصا، ليبشرونا بالقيم الأميركية ويروجوا للسياسات والاهداف الأميركية «التنويرية التحررية» باعتبارها اهم الرسالات الكونية، ابتداء من العولمة وانتهاء بحرية الزواج المثلى، وفيما بينهما الحرية على الطريقة الأميركية!

وعلى رغم كثرة المتأمركين العرب المنتشرين في وسائل الاعلام المؤثرة، وعلى رغم وفرة آرائهم وفتاواهم خلال السنوات الماضية، فإنهم فشلوا لأسباب كثيرة، في اداء الرسالة المطلوبة، وبالتالي اكتشفت واشنطن للمرة الثانية، ان اصدقاءها غير اكفاء وغير قادرين على تحقيق ما تريد من تأثير في شعوبنا.

لذلك قررت ان تأخذ هذه الأمور بيدها مباشرة، كما فعلت في المرة الأولى، وها هي قد بدأت الهجوم الكبير عبر الصحف والاذاعات والتلفزيونات والسينما والفنون، أهم وسائل تغيير الافكار وتشكيل المواقف واصلاح العقول الفاسدة، التي ران عليها التخلف والانغلاق والتمسك بتراثيات تاريخية منقرضة، مثل الدين والتاريخ والثوابت الوطنية والانتماءات القومية، التي أصبحت في مزابل التاريخ، كما قال وكتب احدهم!

ومثلما غزت الجيوش الأميركية العراق واستولت عليه، لتقيم «نظاما ديمقراطيا نموذجيا على الطريقة الأميركية»، فهي الآن تغزو شعوبنا بترويج مبادئ وأفكار جديدة، من خلال أكثر من وسيلة، ربما كان اهمها على الاطلاق، الضغط على حكوماتنا الرشيدة لتعديل مناهج التعليم وتطوير الثقافة، وتقليل التركيز على مناهج الدين والتربية الوطنية والتاريخ الوطني، الامر الذي اصبح معروفا للكافة.

لكن الجديد في هذا المضمار هو نزول السياسة الأميركية مباشرة إلى ميادين الصحافة والاعلام والسينما والتلفزيون، باعتبارها وسائل تشكيل الوعي وصناعة العقل وتربية الوجدان، ولذلك فإن المطروح - المنشور - هو ان تتولى هيئات أميركية اصدار صحف واقامة محطات اذاعة وشبكات تلفزيون، تتحدث باللغة العربية، وتصدر من العواصم العربية مباشرة، وليس على غرار اذاعة وتلفزيون «سوا» التي تذيع من واشنطن، أو مجلة «هلا» الجديدة... انما المطلوب هو ان يشعر القارئ المصري مثلا بأن هذه الصحف تصدر من بلاده، وان ينتشي المستمع والمشاهد العربي ببرامج تلبس «العقال والغترة» وتتحدث إليه بلسان عربي مبين، حتى وإن كان مضمونها أميركيا.

وعلى رغم انني اعرف من قبل خطوطا عامة عن هذا التوجه الأميركي، فإنني قرأت حديثا، تفاصيل أكثر تحديدا، نشرتها أكثر من صحيفة، ومنها صحف عربية، تتحدث عن اتخاذ إجراءات قانونية وفنية، لاصدار صحف واقامة محطات اذاعة وتلفزيون أميركية، في عدد من الدول العربية، منها مصر والسعودية والبحرين ولبنان والمغرب والجزائر وتونس، تمولها هيئة المعونة الأميركية، خصما طبعا من قيمة المساعدات الأميركية المعروفة، وتحت الاشراف والإدارة السياسية والفنية والمهنية لخبراء أميركيين، مع استقطاب عناصر صحافية واعلامية عربية.

ولابد ان القارئ النابه يبادر إلى سؤال: ما الهدف؟، وهل يمكن لمثل هذه الصحافة والاعلام الأميركي ان يكتسب ثقة القارئ وصدقية الاداء المهني، ام انه سيبقى في النهاية - كما هو في البداية - مجرد اعلام دعائي فج؟!

قول الأميركيين، ان الهدف من مثل هذا المشروع «الجريء» هو اصدار صحف ووسائل اعلام حديثة، تتمتع بالحرية والمهنية والحرفية العالية، وتستفيد بأحدث وسائل تكنولوجيا الاتصال، مثلما تتمتع بالاستقلال بعيدا عن قبضة الحكومات المعروفة بعدم تسامحها مع حرية الرأي والتعبير، وبالتضييق على حرية اصدار الصحف، وبالتشدد الصارم مع الصحافيين المحليين وصولا إلى سجنهم في قضايا الرأي والنشر!

وبهذ الشكل تساعد أميركا دولنا وشعوبنا في تخطي القيود السياسية والحواجز القانونية المفروضة على الصحافة والإعلام حتى الآن عن طريق تقويم نموذج جديد ومختلف للصحافة والإعلام الأميركي، مثلما تساعد - وهذا هو الأهم - في كسر حاجز الكراهية بين هذه الشعوب وأميركا الرسمية، وفي الترويج للقيم والمبادئ والسياسات الأميركية، وفي تلميع الوجه الأميركي المكروه، وتغيير صورة «اليانكي القبيح والكاوبوي الشرير» التي ترسبت في عقولنا عبر الزمن، ومن خلال الممارسات الكثيرة، بعد أن فشلت جحافل المتأمركين العرب في أداء الرسالة حتى الآن.

ومثلما تساءلنا من قبل عن مدى قدرة مثل هذه الصحافة الأميركية المزروعة في تربتنا وبيئتنا، على اكتساب ثقة القارئ والمشاهد والمستمع العربي، نتساءل الآن عن رد فعل حكومتنا الرشيدة، وعن موقفها من المسارعة بالموافقة على إعطاء تصاريح لمثل هذه الصحف وشبكات التلفزيون لتنطلق من فوق أرضها، خضوعا لضغط الهجوم الأميركي، أو المجازفة بالرفض حفاظا على بعض ما تبقى من علامات السيادة الوطنية حتى لو كانت شكلية.

ولكي لا نخدع أنفسنا وندعي أن ما تريده السياسة الأميركية هو مشروع جديد، نقول إن معظم بلادنا العربية، وفي طليعتها مصر، شهدت منذ الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، مشروعات وجهودا أميركية حثيثة للعمل في مجالات الصحافة والنشر، وليس المقصود تلك التي تصدر في الخارج وتصدَّر إلينا، ولكن المقصود التأثير المباشر وخصوصا عن طريق التمويل السري والإعلانات البازخة في صحف محلية، كما شهدت إقامة دور نشر تقدم الكتب المروجة للسياسات الأميركية والجاذبة إلى الحلم الأميركي بأسعار رخيصة، وهو الأمر الذي فعله أيضا الاتحاد السوفياتي السابق، بهدف التأثير في صوغ الأفكار والعقول وتشكيل المواقف المؤيدة والمشجعة...

ولم يكن ذلك قاصرا على بلادنا، كما أنه لم يكن مجرد مشروعات تجارية، لكنه جاء في إطار صراع القطبين خلال الحرب الباردة لكسب الأصدقاء وربط الحلفاء، وفي هذا الإطار تطورت أهداف ووسائل وكالة المخابرات المركزية الأميركية تحديدا، في المجال الإعلامي والثقافي أهمها هدف «الاستيلاء على عقول البشر» والسيطرة على أفكارهم واتجاهاتهم، وتقديم النموذج الأميركي الجذاب، باسم الحرية والديمقراطية المبهرة بالنسبة إلى شعوب فقيرة تعاني الفساد والاستبداد، وقد لعبت «منظمة الحرية الثقافية» تحت إشراف المخابرات الأميركية دورا بارزا في هذا الصدد (راجع كتاب الحرب الباردة الثقافية - تأليف ف. س. سوندرز - ترجمة طلعت الشايب - من إصدارات المجلس الأعلى للثقافة في مصر).

فما الجديد إذن؟...

الجديد هو ذلك الزلزال السياسي الأمني الثقافي، الذي هز أميركا بعد هجمات سبتمبر 2001، وفي ظل الحرب الأميركية على أفغانستان ثم غزو واحتلال العراق... إذ اكتشفت أميركا حجم الكراهية التي تكنها شعوب كثيرة لها، ومدى الصورة السوداوية التي تلون وجهها، والاعتوار الذي أصاب ديمقراطيتها المثالية واكتشفت أن سياساتها غير عادلة بل منحازة - انظر على سبيل المثال انحيازها الأعمى لـ «إسرائيل» والصهيونية - واكتشف الشعب الأميركي أن قواته المسلحة، خاضت حروبا وتدخلت في 68 دولة في العالم خلال أقل من ثلاثة عقود، على غير إرادة الشعوب.

وجاءت الوصفة السريعة - بطريقة إعداد الوجبات السريعة نفسها في السلوك الأميركي - متمثلة في ضرورة تزامن الهجوم الإعلامي الثقافي مع الهجوم العسكري لتكتمل منظومة التأثير في الشعوب الأخرى، والسيطرة على العقول والتأثير على الأفكار والمواقف، وخصوصا عن طريق أكثر وأقوى وسائل الإعلام تأثيرا، ألا وهي الصحافة والإذاعة والتلفزيون، ناهيك طبعا عن إجبار الحكومات على تغيير وتعديل مناهج التعليم كما ذكرنا سالفا...

كان لقيام 19 عربيا ومسلما بالهجوم على قدس الأقداس في قلب أميركا يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أضخم الأثر، في تنبيه أميركا، حكومة وشعبا، إلى أن التفوق العسكري والتقدم الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والهيمنة باسم العولمة، وحدها لا تكفي لاكتساب صداقة الشعوب حتى المقهورة البائسة، واكتشفت أن تحالفاتها الوثيقة ومعاهداتها العسكرية ومساعداتها الاقتصادية لمعظم الدول العربية والإسلامية، لم تضمن أمنها الداخلي، فضلا عن مصالحها الحيوية الخارجية، ولم تمنع بذور الإرهاب من النمو ولا رياح الكراهية من أن تهب، مثلما اكتشفت أن كل جهودها في جذب الأصدقاء وتجنيد الحلفاء من كتائب المتأمركين العرب باءت بالفشل...

الآن هي تنفذ بيديها ما عجزت عن تنفيذه بأيدي هؤلاء، لكنها لا تدرك - كما يبدو - أنها تدخل في تحديات خطيرة، بفرضها ثقافة وصحافة أجنبية في بيئة لا تقبلها حتى ولو كانت مبهرة، وبالمنطق نفسه فإن حكوماتنا الرشيدة - وصحفها وإعلامها - تتعرض لتحديات خطيرة مقابلة، فهي إن قبلت بالمشروع الأميركي لإصدار صحف وإذاعات محكومة فرَّطت في السيادة الوطنية، وإن رفضت تكون وقعت في أسر الغضب الأميركي الذي لم يعد يرحم...

رحمنا الله ورحمكم...

خير الكلام، يقول الشاعر:

احرص على ود القلوب من الأذى

فرجوعه بعد التنافر يصعبُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً