العدد 346 - الأحد 17 أغسطس 2003م الموافق 18 جمادى الآخرة 1424هـ

وجه جديد لـ «الداخلية» ووجوه كثيرة للمشكلة

في مسألة سجن جو

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

حتى ساعة كتابة هذا المقال، أي بعد مضي 13 يوما على إضراب سجن جو المركزي الذي اشترك فيه عشرات السجناء المحكومين في قضايا جنائية مختلفة، كذّبت وزارة الداخلية كل الأقوال التي تنحو إلى استخدام القوة لفك الإضراب، سواء تلك التي كتبت في الصحافة، أو التي «تلاعبت» بها جهات - لاشك معلومة - في التصويت على موقع «الوسط»، والتي دأبت على تسويق آراء بطريقة تخلو من الذكاء والحنكة.

«الداخلية» في هذا الاختبار الجديد كشفت عن وجه آخر لم يكن مألوفا لدى البحرينيين، ولا عند الكثير من المنتمين إلى دول العالم الثالث، التي لا ترى في الشرطة إلا عيونا حمراء وشوارب مفتولة وعصا غليظة، فأسفرت عن وجه آخر فيه شيء من الكياسة من غير ضعف، وحزم من غير قسوة، وهذا ما أوقع «المتصيدين» لأعمالها في بلبلة، فصعب عليهم أن يقروا بأن الوزارة مارست ضبط النفس في هذا الظرف العصيب، وأنها تعاملت مع الموضوع بحكمة، وأرجع البعض منهم الأمر إلى «نجاحهم» في الضغط على «الداخلية» لكي تتراجع عن استخدامها القوة.

والمتتبع لتداعيات ما حدث، يرى أن «الداخلية» لم تتحدث عن استخدام القوة في إنهاء الإضراب كخيار أخير بعد استنفاد أساليب الحوار كافة - برأيها - إلا في اليوم السابع من الإضراب، وهذا - وحده - يعطي مؤشرا حسنا على النهج الجديد الذي تنتهجه الوزارة تجاه اختبارات هذا العهد، في حين أن بإمكانها الاستناد إلى جملة من الحوادث المشابهة التي حدثت في السجون العربية والعالمية - والتي تبرع البعض بعرضها والتذكير بها - لتتخذ منها ذريعة كافية لاستخدام القوة، إلا أن قراءة أخرى للحدث بدت أكثر تأنيا من ذي قبل مارستها السلطة التنفيذية إزاء ما حدث وما يحدث.

فالشواهد التي سيقت على استخدام القوة في فك الاعتصام كانت - كعادتها - خالية من قراءة الحوادث على حقيقتها، إذ كانت إضرابات السجون تلك مصحوبة بحوادث عنف واغتيالات وتصفيات وانتقام وتكسير وحرق وتخريب، ولو حدث هذا - أو بعضه - في سجن جو، لما توانت «الداخلية» عن اقتحام المبنى رقم 4، الذي يتمترس به المضربون مستخدمين ثلاجات للمرطبات فقط في إغلاق أبوابه، ولا تلام حينها على استخدام القوة لخروج الأمر عن نطاقه، وانتقاله إلى الاعتداء على الأنفس وتدمير الممتلكات العامة.

النقطة الأخرى الحرِيَّة بالتأمل، هي أن تلك الدول التي أنزلت قواتها للتعامل مع هكذا حوادث، إما أن سجلها في مجال حقوق الإنسان ملطخ ومجلل بالعار، وإما أن سجلاتها أشد سوادا من القطران، ولكنها مغلفة بالقوة.

فأميركا - التي تشن حروبا باسم الحفاظ على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان، ولا تتعامل مع الدول تجاريا إلا على هذا الأساس - تنهال المعلومات من أفراد مخابراتها بأنهم قاموا بتسميم الأطفال في كوبا لإحراج كاسترو، وأنهم نسفوا جسورا أثناء مرور المشاة عليها في كمبوديا، وأن طائراتها الحربية قصفت متعمدة طابورا من المدنيين العزّل الذين أجبروا على السير ضمن القضيبين المتوازيين لسكة حديد أثناء الحرب الكورية حتى تتم إصابتهم بدقة، ولكن من يجرؤ أن يوقف أميركا في قفص اتهام أمام محاكم جرائم الحرب في العالم؟ كما أن أميركا ذاتها التي تلمّع أسلحتها ضد كوريا الشمالية لشكوك في امتلاكها قنبلة نووية أو قنبلتين، لا تقول للعالم من أعطاها هذا الحق في تحديد من يمتلك أو لا يمتلك هذه الأسلحة... وبالتالي، فألف تقرير عن انتهاك حقوق الإنسان في أميركا أو في غيرها من الدول العظمى البالغة القوة لن يؤثر في ميزان قوتها، ولن يجعل الدول الأخرى تنفك عن السباحة في فلكها، شاءت أم أبت.

أما الحال هنا فتختلف تماما، فالبحرين بالكاد تحاول جاهدة أن تقلل عدد الصفحات «السلبية» التي تتضمنها التقارير السنوية لمراقبة الحريات وحقوق الإنسان، وأن تجربتها ككل على المحك على أكثر من صعيد، ولا تزال تجربتها هشّة في محاولتها للبرهنة على مضيها في مشروع يقوم فيه الإنسان مقاما عاليا، وبالتالي، فإن أي تصرف باستخدام القوة المفرطة لفك إضراب كالحادث في السجن، لن يحسب على أنه أتى بعد «استنفاد وسائل الحوار»، بل سيؤخذ بالخاتمة السيئة من الحدث، من دون الأخذ بمقدماته.

غير أن هذا لا يعني أن كل ما قامت به «الداخلية» في هذا الشأن كان حسنا في المطلق، فقد كان أمامها خيار إشراك عدد من ممثلي الجمعيات الحقوقية ليكونوا شهداء على ما يجري، كوسيط في التفاوض - وليس طرفا - في الأمور المطلبية الحياتية التي اشتكوا منها، كتحسين المعاملة، والارتقاء بعدد من نواحي الظروف المعيشية التي يقاسونها في السجن، إذ سيكون من شأن هذا «الاستئناس» أن يخفف كثيرا من تعنت السجناء الذين باتوا يخافون الآن من نقل مرضاهم للتشافي خشية حبسهم في «الحبس»! ويفضلون تعريض الضعفاء منهم للموت طوعا بدلا من ذلك، إذ من شأن هذا التوسط أيضا أن يعد من تنامي هذه المطالب وتجاوز البسيط منها إلى الأكثر صعوبة، والأقرب إلى الرفض مع مرور كل يوم من أيام الإضراب والاعتصام.

فقد أدى منع «الداخلية» لممثلين من جمعيات رخصت لها السلطات المحلية للقيام بدور تفقد حقوق الإنسان في البلاد من المشاركة - بشكل أو بآخر - في هذا الأمر إلى ما يشبه «الاستعداء» بدلا من التعاون بين الجهتين، وإتاحة المجال لها لكي تعمل على «تفريج» الباب ليمر منه الطرفان (الداخلية والسجناء) من دون ضرر.

فالسجناء قد دخلوا في ورطة عندما قاموا بالتمركز في المبنى المذكور وإغلاقه، (وقد لا يجد المرء وصفا مناسبا لما حدث ألطف من «إشغال» المبنى بغير الشكل الذي خصص له)، وربما اكتشفوا أن مطالبهم الاعتيادية لا تستأهل كل ما حدث، فقاموا بتغليفها بمطالب أكثر صعوبة حتى يكون لما فعلوه معنى، ولكن لا سبيل إلى تنفيذ هذه المطالب، ولم يبق أمام «الداخلية» (الطرف الأقوى) إلا ترك فسحة لكي يمروا منها ويخرجوا مما دخلوا فيه، محتفظين ببعض من كرامتهم في كل ما حدث.

وربما لو أدير حوار بين السجناء أنفسهم ولجنة من المحامين توضح لهم مباشرة الصعوبات التي تواجهها مطالبهم «الوردية» - كما وصفها عبدالله هاشم - بإعادة النظر في الأحكام القضائية، لبطلت هذه الحجة، وأصبح للإضراب جوانب ممكن التفاهم بشأنها.

وربما لو سمحت «الداخلية» للهيئات الحقوقية المحلية - أساسا - بزيارة السجن وتفقد خدماته والاطلاع على أحوال النزلاء، ورفع التوصيات، ومراجعة تطبيقها، لما آل الوضع إلى ما آل إليه اليوم.

فالتفاوض المباشر بين الطرفين («الداخلية» والسجناء) قد لا تتوافر فيه شروط الحل، فهناك سنوات من انعدام الثقة بين الطرفين، وهذا الأمر «يفوح» أيضا من جوانب تصريحات بعض الحقوقيين والجمعيات السياسية، ولا سبيل لإزالة هذه العقدة بين عشية وضحاها وفي ظل ظرف عصيب كهذا.

لاشك أن وزارة الداخلية في تعاطيها مع هذه المشكلة كانت أمام تحديها الخاص بين تاريخ طويل في نوعية معتادة من التعامل في الخروج عن النظام والقانون، وبين المتغيرات على الساحتين المحلية والدولية، بيد أن للمشكلات - عادة - وجه آخر، وهو الدرس الذي يمكن للوزارة أن تخرج به من كل ما حدث، إذ ان خطواتها المساوقة للمشكلة لا تعد لينا أو ضعفا أو «تنازلا» - كما همس أحد موظفيها المعتقين - بل هي إلى خانة الحكمة والإنسانية أقرب، ولكن الدرس يكمن في معالجة ما حدث حتى لا يتكرر، بالبحث في جذور المشكلة، والنظر في الشكاوى التي دأب السجناء على رفعها منذ سنين، وإيجاد الآليات الكفيلة بتطبيق ما أمكن منها، فما يحدث ليس مغريا بإعادة تكراره من جديد

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 346 - الأحد 17 أغسطس 2003م الموافق 18 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً