العدد 3489 - الإثنين 26 مارس 2012م الموافق 04 جمادى الأولى 1433هـ

الثورة هي أنثى الثور!

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يحكى أن ملكاً عشق العرش والحيوانات الضخمة كثيراً أتى بفيل إلى مدينته، فكان هذا الفيل يضايق سكان المدينة، فقام رجل من الرعية وقال: «يجب أن نقوم بمظاهرة حتى نخرج الفيل من مدينتنا كي لا يؤذينا». وبالفعل تجمع عدد كبير جداً من سكان المدينة استنكاراً لوضع الفيل ورفعوا الشعارات المعادية للفيل: «لا للفيل، لا للفيل، يسقط الفيل». وكان الرجل الثائر في مقدمة الحشود الغاضبة. فعندما اقتربوا من قصر صاحب العرش، خرج الأخير غاضباً وصرخ في الحشود وفي الرجل القائد: «ماذا تريد؟»، فنظر الرجل خلفه فلم يجد إلا عدداً بسيطاً جداً من سكان المدينة، فخاف من صاحب العرش وقال:«الفيل يا سعادة الملك»، فرد الملك عليه: «ما به»؟ قال الرجل: «نريد أن نزوجه بفيلة»!

فلماذا يخاف الناس من الجالس على الكرسي أو العرش في كل زمان ومكان؟ وما هو الكرسي أو العرش أساساً؟

بكل بساطة العرش هو ركن الشيء، سرير المُلك، وورد اللفظ في عدة آيات من القرآن الكريم «ثم استوى على العرش» (الأعراف: 54)، «سبحان رب السموات والأرض، رب العرش، عما يصفون» (الزخرف: 82)، «ورفع أبويه على العرش» (يوسف- 100)، «فلما جاءت قيل أهكذا عرشك» (النمل: 43). واختلف العلماء المسلمون في تفسيرهم للعرش هنا بين التجسيد أو ما يفيد رموز العزة والغلبة.

لكن كلمة العرش التي يتم تداولها في كل زمان، لها وقع السحر هذه الأيام على امتداد البساط العربي. فتلك الكلمة أراد لها المولى عز وجل دنيوياً، أن تكون رمزاً للعدل الإلهي وقمة العطاء الدنيوي والتسامح الديني بين الحاكم والمحكوم ولتكون شفيعاً للحاكم العادل أخروياً. ولذلك فهذه الكلمة لعظمتها وقدسيتها وردت في القرآن الكريم وهي ملتصقة بقدرة الله وعظمته، وليس بنظام سياسي بشري ديكتاتوري كما فهمها بعض الطغاة من مدمني شهوة السلطة، في أن تكون مجرد سلطة زمانية ومكانية محدودة خالية من أي عدل أو صلاح.

وبما أن العرش بمفهومه الدنيوي زائل والكرسي الدنيوي، وإن غلا ثمنه وعلا شأنه، بفعل الأيام أو السنين مصداقاً لحكمة ربك في بني البشر لمن اعتبر وآمن وكبر؛ لكن ما أن اعتلى بعض البشر، بطريقة وأخرى، هذا العرش ضمن السلطة الدنيوية، حتى قرأ الكلمة بشكل معكوس كما فعل الحجاج الثقفي، فأضحت قراءتها (شرٌ علا) وليس العرش؛ لتعطي عكس المعني الرباني المراد منها.

وهناك العديد من السلطويين تبوأوا العروش فأضحوا فعلاً (شرٌ علا). ومنهم ذاك الذي ثمُل وهو يحلُم بالعرش ولكنه لم يهنأ به سوى أشهر قليلة. فقد تولى عرش السلطة في ظروف عجيبة بعد أن ورث من والده المعتضد العباسي صفات ذميمة مثل، سفك الدماء وحب النساء والشهوات المحرمة. فتزوج هذا المعتضد عشرات المرات ومنها زواجه بفتاة سماها «شغب» فولدت له المقتدر، ثم تزوّج بفتاة سماها «فتنة» وولدت له القاهر.

والقاهر هو الخليفة التاسع عشر في سلسلة خلفاء الدولة العباسية، ويكنى بأبي محمد بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل، وقد تولى الخلافة بعد أخيه المقتدر بالله. وكي يثبت واقعاً أنه (شرٌ علا) فقد كان هو الوحيد بين أبناء المعتضد الذي ورث جرأة أبيه في سفك الدماء ولذا مارس هذا الخليفة ساديته ووحشيته حباً في الانتقام ورغبة في التسلية كما يحلو له، فقال عنه بعض المؤرخين: «إنه كان يخرج ومعه حربة محماة فلا يرجع بها حتى يقتل بها رجلاً»، كما قال عنه المسعودي: «اتخذ القاهر حربة عظيمة يحملها في يده إذا سعى في داره، ويطرحها بين يديه في حال جلوسه ويباشر الضرب بتلك الحربة لمن يريد ضربه».

ولكن لله في خلقه شئون، فقد جاءت نهايته بتدبير الوزير المختفي عنه ويدعى «ابن مقلة»، إذ أقنع مرتزقة الحاكم بأن الخليفة القاهر ينوي سحقهم. واستعان ابن مقلة بعملاء له داخل قصر الحكم يكرهون الخليفة الجديد ويصيبهم الرعب من حربته وقسوته. أولئك العملاء أكّدوا للمرتزقة بأن الخليفة يعد العدة للقضاء عليهم، وأنه أقام لهم تحت الأرض مقابر بأسماء قادتهم، فعزموا على أن يبدأوا به قبل أن يبدأ بهمز ودبروا له مكيدة بالهجوم على القصر ليلاً واعتقاله وطلبوا منه التنازل عن الخلافة لابن أخيه الراضي ابن المقتدر، فرفض، فما كان من هؤلاء المرتزقة إلا أن سملوا عينيه بمسمار محمى، فسالت عيناه على خده، ثم عزلوه عن العرش الذي سفك الدماء من أجله، يوم السبت الثالث من جمادى الأولى سنة 322 هـ بعد خلافة قصيرة استمرت ثمانية عشر شهراً وسبعة أيام فقط، وتولى مكانه الراضي بن المقتدر.

ولله حكمة في أمثال هؤلاء الطغاة، فقد ظل القاهر محبوساً مكفوف البصر حتى سنة 333 هـ، ثم تم الإفراج عنه بلا تدخل من منظمات حقوق الإنسان، فوقف في جامع المنصور يتسوّل من الناس ويقول لهم: تصدقوا عليّ فأنا من قد عرفتم... وكان ذلك في خلافة المستكفى حتى يشنع عليه أهله من البيت العباسي. فمنعوه من الخروج إلى الطرقات إلى أن مات في بيته العفن سنة 339 هـ عن ثلاث وخمسين سنة...! إنه شرٌ علا.

أما من ملوك الشر في أوروبا فقد كان الملك لويس الحادي عشر الذي بذّر أموال الشعب في بناء قصر أطلق عليه «المجنون» في إحدى المدن الفرنسية، وذلك من أجل مهرجانه الخاص الذي أدخل السرور إلى قلبه بنكتة واحدة فقط !

أما أطرف من طبق أنواع (شرٌ علا) بطرافته الجنونية فذاك الذي قال: «خيار التنحي بالنسبة لي هو خيار مخلل. وأنا لست ديكتاتوراً لأغلق الفيسبوك... لكنني سأعتقل كل من يدخل عليه. وإن الديمقراطية تعني ديمومة الكراسي، والثورة هي أنثى الثور»! فقضى نحبه بشكل لم يتصوره هو بذاته. وهكذا هم من اعتلوا عرش الدنيا الزائل واستبدلوه بمقعد صدق عند مليك مقتدر فصدق عليهم القول بأنهم (شرٌ علا) ثم تهاوى.

وقبل إقفال الكلام نقول كما قال خاتم رُسل البشرية وهو عازف عن العروش الدنيوية ويحذرنا من شرور عشاق العروش وأسباب وصولهم إلى قمة الشر: «يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق القوي فيهم تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد». وفي التاريخ حكايات وعبر، سنقف معها عند بوابة التاريخ التي لا تكذب أبداً.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3489 - الإثنين 26 مارس 2012م الموافق 04 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 7:35 ص

      نعي جيّداً ما ترمي إلي أستاذنا الكريم, و لكن من يعنيهم الأمر:

      لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا.

    • زائر 7 | 3:17 ص

      قل حكما وكلاما من ذهب لكنه لدى في سوق الفحم لا قيمة له

      إنه سوق الحقد والبغضاء الذي يعمي العقول والنفوس والقلوب عن ان تعرف قيمة الكلام وتفهم معانية
      قل ما شئت واضرب امثالا وعبرا وعظات لكنها تغدوا وتمضي كما أن شخصا يصرخ في الصحراء من دون ان يسمعه احد

    • زائر 6 | 2:04 ص

      استهتار فظيع بالشعوب

      هذا ما يفعله الطغيان. فالقذافي هو الذي وصل ب(ثورة) الفاتح من سبتمبر، وبعد 40 سنة من التحكم في رقاب الشعب الليبي اصبح يتهكم على الثورة. انه منتهى الاستهتار بالناس والشعب.

    • زائر 5 | 2:03 ص

      عاد اخوها؟

      والبوك فيس اخو لتويتر يا دكتور!!!!!

    • زائر 4 | 1:45 ص

      نعم يبن السلمان انها انثى الثور

      كذلك ينظر لها المتمصلحون في الوطن على انها انثى الثور بقره حلوب تدر على البعض او تدر على البعض مبالغ لم تكن في الحسبان ولا حتى يحلم كان بها يبن السلمان المبالغ التى اخذت من الناس بغير وجه حق تقدر بلملايين التلفونات الثمينه صارت يصدرها سارقيها خارج الوطن وكل ما غلا ثمنه صودر بدون وجه حق ما ادري هل يكون من ضمن قائمه الغنائم او تحت بند اخر والطلعه الا اخس من اختها الكفالات التى توخذ من الناس في اي دوله في العالم يغرم السياسي مبلغ لقاء الافراج عنه بعد تبرئته وين اتصير؟؟؟؟ديهي حر

    • زائر 2 | 1:04 ص

      نمط جميل في الكتابة

      زدنا يا استاذ محمد بهذا الأسلوب لأنه كما يقال أن الكناية أبلغ من التصريح ، فكما أن قلوبنا تشتاق إلى الكتابة الصريحة فهي تشتاق بين الفينة والأخرى للأسلوب القصصي الساخر والمعبر و الهادف.

    • زائر 1 | 11:33 م

      موضوع يستحق القراءة

      سلمت يداك لما تحمل من عبر ،وعبرة لمن اراد ان يعتبر وخ

اقرأ ايضاً