العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ

عن آياتنا لغافِلُون

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ارجع الخطى رويداً، إنه عصر موسى وإنهم لسحرة فرعون، «فلمَّا جاء السَّحرَةُ قال لهم موسى أَلقُوا ما أَنتم مُلقُون، فلمَّا ألقَوا قال موسى ما جِئتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عملَ المُفسدِين، ويُحِقُّ اللهُُ الحقَّ بكلماتِهِ ولوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ» (يونس: 80-82).

إن السحر من صفات المفسد كما تبين الآيات الكريمة، والسحر كالمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. والسحر الذي يمارسه بعض البشر صغاراً أم كباراً في العمر بضحكهم به على بعض الناس؛ لن يضر إلا صاحبه في نهاية المطاف، وإن قبض مقابله آلاف الدنانير التي تفرحه قليلاً ثم تتعسه طويلاً.

والسحر، كما نعلم، من الجرائم العظيمة، بل إنه عند بعض المتشددين من أنواع الكفر، ومما يبتلى به الناس قديماً وحديثاً، في الأمم الماضية وفي الجاهلية، وفي هذه الأمة. ومعناه في الشرع: ما يتعاطاه السحرة من التخييل والتلبيس والتمويه الذي يعتقد المشاهد أنه حقيقة وهو ليس بحقيقة، كما قال الله سبحانه عن سحرة فرعون: «قالوا يا موسى إِمَّا أنْ تُلقِيَ وإِمَّا أَن نكونَ أوّلَ منْ أَلقى، قال بل ألقُوا فإِذا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخيَّلُ إليهِ من سِحرِهِم أنَّها تسعى، فأَوجسَ في نفْسِهِ خِيفةً موسى، قلنا لا تَخَفْ إنَّكَ أنتَ الأعلى، وَألقِ ما في يمينك تلْقَفْ ما صنعُوا إنَّما صنعوا كيدُ ساحرٍ ولا يُفلِحُ السّاحرُ حيثُ أتى» (طه: 65-69).

إلا أن سحر اليوم يطلق عليه «السحر السياسي»، ذاك الذي يُفتن به بعض الناس ثم بعد الدفع المعلوم يفتن به الآخرون من حولنا؛ وأهم أسبابه هو الحسد وعشق المال السياسي لدى البعض! ولذا فساحرنا بات يُعلم غيره مواصفات الساحر وكيفية بيع حياته ونفسه وكل ما يملك للشيطان ولا أحد غيره. وكبيرهم الذي علمهم السحر لا يضجر أو يتذمر إذا منع عنه الشيطان مساعدته، وبدل أن يستغل ذلك بالتوبة إلى الله ويصلح في دنياه قبل فوات الأوان؛ صار يُلح على شيطانه وبقوة لإعادة المساعدة ولكن ليستخدمها ضد الساعين لإبطال سحره عليهم.

فساحر اليوم تفوّق على سحرة موسى لأنه ساحر سياسي، يخالف كل الأديان والآداب والأعراف. تراه حاد الطباع لا يعرف الرحمة ولا العاطفة في حياته أبداً، بل كلما استعطفه الناس من حوله من أجل أمور بسيطة، ازداد غياً وتصلباً وصفاقة. وهو عدو لكل الأديان فلا تصدقوا ألاعيبه، لأنه يظهر خلاف ما يبطن. فهل يقف الساحر أمام المرآة ذات يوم ليرى بشاعة منظره ووجهه الحقيقي وما فعل بالناس في دنيا الله، لأن المرآة لا تكذب. والغريب أن ساحر اليوم يقضي أغلب وقته منعزلاً فلا يختلط بالناس إلا للضرورة التي تحتمها مصالحه الدنيوية وحبه لجمع المال لآخر ساعات من حياته.

نعم هؤلاء هم مثال سحرة زمن موسى وكل زمان وإن اختلفت الأقنعة والعناوين والرموز، لكن الأساليب والأهداف واحدة بلا ريب. فتأمل وأنت في حراكك بقول الباري عز وجل وهو يخاطبك بقوله: «فلمَّا جاء السَّحرةُ قالوا لِفرعونَ أئِنَّ لنا لأجراً إن كنا نحنُ الغالبين، قال نعم وإنَّكم إذاً لَمِنَ المقرَّبينَ، قال لهم موسى ألقوا ما أنتم مُلقون، فألقَوا حِبَالَهُم وعِصِيَّهُم وقالوا بِعزَّةِ فرعونَ إنَّا لنحنُ الغالبون، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقفُ ما يأفِكون، فأُلقِيَ السحرةُ ساجدين، قالوا آمنَّا بربِّ العالمين» (الشعراء: 41-47).

إذاً مصداق لقول الباري عز وجل، لابد أن يأتي اليوم الذي يسجد فيه كل السحرة وتلاميذهم، ليذعنوا للحقيقة الربانية الأزلية التي لن تغيّبها أية ظلمة مصطنعة على يد هؤلاء الذين أضلوا الناس سنيناً وأوجدوا الفرقة بينهم حين استرهبوهم بسحرهم الكاذب. لابد أن تُمرغ جباههم وأنوفهم في التراب الرباني على الأرض التي خلقها الله لعباده الصالحين. ونجد أن من السحرة من عرف الحقيقة أخيراً واستبصر جلياً، لكنه حصد لعنة فرعون وتوبيخه، بل وناله الصلب والقتل والتشريد، فقط لمجرد أنه فِهم ما يدور حوله من زيف ودجل وضحك على الذقون وكشف حقيقة الاستبداد، فحلّ عليهم غضب الفرعون. أما من بقي على ضلاله من السحرة، فالفرعون تجاوز عنه وأمده بالمال الوفير والحماية أيضاً ليكون مصيدةً للآخرين.

تأملوا كل صباح دعوة موسى بين الحق والباطل، فقد جاء موسى بالحق ليظهره على الملأ ويزهق الباطل المستبد بقوة المدد الإلهي والمنطق الطبيعي للأمور ضد اللاعقلانية. ولذا لم تنفع صرخات فرعون ولا استغاثته رب العباد وهو في عرض اليم، بل جاءه الجواب الإلهي الصاعق لأنه أوغل فساداً في الأرض: «آلآن وقد عصيْتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين، فاليوم نُنَجِّيكَ ببدنكَ لتكون لِمَن خلفك آيةً وإنَّ كثيراً من النَاسِ عن آياتنا لغافلونَ» (يونس: 91-92). فالله أنجاه ببدنه فقط، لكن بلا حياة ولا أحاسيس.

فإلى آكلي المال السياسي وسحرته بين الناس، ألا تتعظون من زمن موسى؟ لمَ لا تستمعون للقول وتتبعون أحسنه لعلكم تتبعون طريق الحق وتنبذون الباطل وتخلّصون أنفسكم من العذاب الذي لا ريب فيه، لقوله تعالى: «ويا قومِ اعملوا على مكانتكم إني عاملٌ سوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ومن هو كاذبٌ وارتقبوا إني معكم رقيب» (هود: 93).

وإلى الطيب الذين يستيقظ في الصباح ويذكر الله عز وجل، اعلم أنه لو أُغلقت كل الأبواب واستعصت الأمور إلى درجة اللاعودة، فتأكد أن باباً واحداً لن يستطيع أعتى البشر وأشر الناس مهما أوتي من قوة وبطش أن يغلقه؛ ألا وهو باب الله. على هذا توكل، وبإيمانك اعمل، وبحول الله استقوِ وامضِ لتصيب مطلبك ولتنجح. واعلم أن أمرين لا يدومان للإنسان كائناً من كان: ماله وقوته التي يتجبر بهما على الناس الضعفاء.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 8:32 ص

      يقول احدهم المكر السياسي ولكن نسوا مكر الله

      قال الله عن نفسه انه خير الماكرين لأن من يعتقد انه يتذاكى ويمكر بخلق الله الضعفاء

    • زائر 11 | 6:40 ص

      المراتب

      للجنة مراتب وللنار مراتب ومن يخالف الله وآياته دعه يتخيل مرتبته في النار فهم لن يضرون غير انفسهم فكل شي زائل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وللناس في قصص القرآن الكريم عبر ومن لايستفيد منها فلن يضر الله شيئا فبعضنا يعجبه طريق السحر والسحره مع علمه بأنهم مهزومين في النهايه

    • زائر 9 | 3:49 ص

      ثعالـــــب ... السياســـــة

      الطماعون الذين تضطرم في أنفسهم آمال عريضة ويحسبون " يوهمون بالأصح " أمنيتهم مبعث الإستقرار ، وهذا الصنف من البشر أفاكين يؤثرون الكذب على الصدق ولا يستحيون من الصياح به ، ويؤثرون الجور على العدل ولا يخجلون من رمي العالم بأوزاره ، وكيّ المستضعفين بنيرانه ؛ لغلبة الهوى و سيطرت الشهوات، قال تعالى " وتبغونها عوجا " . وتحياتي لكم ... نهوض

    • زائر 7 | 3:06 ص

      بسم الله الرحمن الرحيم

      ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )

    • زائر 6 | 1:11 ص

      مالك حل استاذي الفاضل الكبير

      اقولها انك مكسب وصوت ضمير حي لايخاف واكرر شكري على ماتكتبة وما مقالك الحالي الامصداق لكلامي واقول لك والله ماكتبته في مرثية امراة بحرينية عن لسانها فانه ابكى الحجر وابكاني وانا شديد التحمل للمصائب والبلاوي فانه مؤثر جدا استمر على هذا المنوال فانت طالب حق واخرة ولست دنيويا طالبا للمال حفظك الله من كل شر وسدد خطاك

    • زائر 5 | 1:11 ص

      لتحذون امتي حذو بني اسرائيل-مالعلاقة بين هذا الحديث وتكرار قصص فرعون

      لقد تكررت قصص فرعون في كثير من السور كل سورة تتناول جانبا معينا من قصة النبي موسي ع وفرعون، وهذا التكرار لقصص بني اسرائيل لاخذ العبر من هذه القصص وتحذير النبي ص في حديثه(لتحذونّ امتي حذو بني اسرائيل) يعني ان هذه الامة سوف تقتفي آثار بني اسرائيل مهما كانت التحذيرات الا من عصم الله وهم قلة
      والعبر كثيرة ولكن الناس بدل ان تعتبر تجعل من العبر سخرية واستهزاء حتى اذا جاء اجلهم قالوا امهلنا فيجيبهم الخالق (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) يعني اننا اعطيناكم عمرا تذكر فيه غيركم وتاب ولكنكم لم تعتبروا

    • زائر 4 | 12:36 ص

      شكراً لكم

      أستاذي الفاضل شكراً لكم على هذا المقال الرائع الذي يذكرنا بآيات الله في هذا الصباح

    • زائر 3 | 12:32 ص

      السحر السياسي

      انت كاتب رائع في تحليلك وطريقة الربط بين احداث تاريخية دينية ووقائع من عالمنا المتردي اليوم ولكن هل تعتقد ان السحرة السياسيين يعون ما قلت وما كتبت ؟ ان هذا المستوى الأدبي الرائع فوق مستواهم نتمنى ان يستمروا في غيهم وظلمهم لينتقم الله منهم في اعز ما يملكون وسنرى جميعا في الايام القادمة ماذا ستحمله الاحداث فقصص التاريخ تروي نهايات السحرة والمفسدين ونحن منتظرون

    • زائر 2 | 11:45 م

      اين المتعظ يبن السلمان

      ماله وقوته التي يتجبر بهما على الناس الضعفاء.لا يدومان كما ان صحته ممكن ان تتدهور اي لحظه ولا يمكن ان ترجعها كل املاك الدنيا كما ان الخلود لم يكتب لاحد ولهذا قال الباري يا ايها الانسان انك كادح لربك كدحا فملاقيه فهذا قسما من الرب بانك مهما عشت وطال بك العمر فهناك نهايه وما عملت في دنياك سواء كان خيرا ام شرا فملاقيه مافيه مفر لكن اين من يعمل لاخرته وكانه يموت غدا الواضح من ان الناس تتصرف تقتل وتظلم وتنكل وكانها تملك صك الاهي بانها تعيش ابدا .....ديهي حر

    • زائر 1 | 11:29 م

      جمال الصدق

      كم أنت جميل وصادق يا حميد .. وما أجمل الصدق في زمن احترف فيه العالم فن الكذب في كل المجالات .. بوركت ...

اقرأ ايضاً