العدد 3517 - الإثنين 23 أبريل 2012م الموافق 02 جمادى الآخرة 1433هـ

إنّما الحكيم هو أبي!

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

هي قصة ولاشكّ تطرّق إليها غيرنا وإن في سياقات أخرى ومقامات مختلفة، ولكن الذي حدا بنا إلى الخوض فيها من جديد يقينُنا أن عديدا من شبابنا لم يقرأها بل ولم يسمعها مجرد سماع. إنّ هذه القصة قد تكون من باب الخرافة وقد تكون ضربا من ضروب الأمثال أو فصلا من فصول ألف ليلة وليلة أو ما شابهها من عيون الأدب الهادف، غير أنّ كثافتها الدلالية وصبغتها الأخلاقية يمنحانها قوة حضور بيننا تفرض علينا – شئنا أم أبينا – أن نُقلّب فيها النظر من جديد حتى وإن قرأناها أو نمعن فيها الفكر إن لم نقرأها من قبل...

تلك هي قصة سلطان أراد أن يختبر الناس في بلاده متحديا الشباب بالخصوص مهددا متوعدا بقتل الشيوخ في البلاد إن لم يكسب الشباب الرهان (وقد كان هذا السلطان يخشى الشيخوخة) حيث قال لهم: «من يفلح منكم في إخراج الجرّة الذهبية التي وقعت في البحيرة أبقيت على حياة أبيه ومن يخفق أنفذت حكمي فيه وفي أبيه على السواء».

وبدأ الشباب يحاولون الواحد تلو الآخر إخراج الجرّة من البحيرة ولكن دون جدوى حتى أنفذ السلطان حكمه في تسعة وتسعين منهم، غير أن شابا لاذ بالفرار حفاظا على حياة أبيه واحتمى بكهف في أغوار جبل بعيد.

ولاحظ الشيخ ابنه ذات يوم مهموما شارد الذهن فسأله عن السبب فأجاب الشاب: «إن أمر هذه الجرة يشغل بالي، لأن المرء إذا نظر في الماء وهو واقف رآها واضحة جلية، فإذا وثب إلى الماء اضطرب واعتكر ولم يعد يراها!»

فكّر الشيخ ثم قال:»إنّ الجرة ليست في الماء، بل هي موضوعة بين فروع شجرة على الشاطئ وما يبدو في قاع البحيرة ليس إلا صورتها».

فأسرع الشاب إلى السلطان يتحدّاه إن لم يحضر الجرة فليقطع رأسه. وحدّد له السلطان موعدا.

وفي الموعد المضروب أسرع الشاب إلى ضفة البحيرة ودهش الجميع إذ رأوه يتسلّق الشجرة بدلا من أن يغوص في الماء. وما هي إلا أن هبط ومعه الجرّة فقال له: «لم أكن أتوقّع أن أجد في بلادي شابا حكيما مثلك!» فقال الشاب: «إنما الحكيم هو أبي وهو من أنبأني بمكان الجرة» قال الملك بعد تفكير طويل: «قد أيقنت الآن بأن حكمة الشيوخ نافعة بقدر فتوة الشباب وقوته».

إن المجتمع، أيّ مجتمع إنسانيّ، كان لابد له من عناصر خبرة وعناصر طموح، أمّا عناصر الخبرة تتوافر عليها تجارب الكبار سنا وعلما تكون بمثابة بيت خبرة تجلّت في القصة من خلال شخصية الشيخ وأمّا عناصر الطموح فقد رسمت معالمها شخصية الشباب حيث بادروا إلى البحث عن الجرة معتمدين على فتوّتهم لكن خاب مسعاهم. أمّا الشاب رقم مئة فلم يكن ليفلح في مسعاه وينقذ نفسه وأباه لولا بعد نظر الشيخ الأب وأمّا ماعدا ذلك من الشباب فقد اكتفوا بالنظر إلى أسفل إلى صفحة الماء بحثا عن الجرة فما وجدوا غير الخسار لأنهم اعتمدوا قوتهم البدنية ونظرهم القاصر ولم يعملوا بصيرتهم الثاقبة وأنّى لهم ذلك والخبرة تعوزهم والحكمة عنهم بعيدة.

إن الحكمة، كل الحكمة، أن يتكامل الشاب الطموح والشيخ المحنك في قيادة المجتمع نحو برّ الأمان، فالشيخ الحكيم المجرب الخبير تعوزه قوة الشباب لإنفاذ حكمته في الحياة، وماذا تنفع حكمته؟ وماذا قد تفيد خبرته إن لم يُعمل بها! وما فائدة الحِكَم في الكتب إن لم تُتَرجم إلى أفعال في واقع الحياة.

وكذا الشاب الطموح اليافع الجموح المتسلح بقوة الإرادة... ماذا تنفع قوته إن لم تُوَجَّه الوجهة الحسنة وتُوَظَف التوظيف السليم فيما فيه مصلحة العباد والبلاد.

إن هذه القوة الجامحة قد تذهب هباء وتخسرها الأمة في عزّ الحاجة إليها وحينها لا ينفع الندم على ما فرّطنا من شبابنا.

إن هذا الشباب العظيم في كامل الأقطار العربية يشعر بكونه في عزّ العطاء ولا يحتاج إلا إلى ضخّ دماء الحكمة البالغة في عروقه ليسير بنا نحو العلا بدلا من السير بنا نحو الهاوية.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3517 - الإثنين 23 أبريل 2012م الموافق 02 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 3:30 ص

      حقا يحتاجون

      شبابنا محتج لحكمة الكبار بس على الله يكون الكبار عندهم حكمة يعطوها للشباب
      احيانا فاقد الشي لايعطيه

    • زائر 5 | 1:38 م

      العطاء أنواع

      عطاء الشباب قوة وحماس
      وعطاء الشيوخ فكر ثاقب وعقل رشيد

      التكامل في أخذ الثاني بيد الأول نحو الخير

    • زائر 4 | 7:34 ص

      حتى اذا بلغ الآربعين ...

      الانسان في كل مراحل حياته يستطيع العطاء
      سبحانك يارب ........

      والتكامل يكون في سن متأخرة من حياة المرء ....

    • زائر 3 | 6:48 ص

      إنّما الحكيم هو أبي!

      الحكمة ضالة المؤمن أخذها حيثما وجدها

    • زائر 2 | 5:05 ص

      شكرا موضوع جيد

      إن هذا الشباب العظيم في كامل الأقطار العربية يشعر بكونه في عزّ العطاء ولا يحتاج إلا إلى ضخّ دماء الحكمة البالغة في عروقه ليسير بنا نحو العلا بدلا من السير بنا نحو الهاوية.

    • زائر 1 | 11:47 م

      الشباب الشباب

      بارك الله فيك
      كم شبابنا في حاجة إلى مثل هذه الحكم

      طاقة نخشى أن تذهب هباء منثورا

اقرأ ايضاً