العدد 3520 - الخميس 26 أبريل 2012م الموافق 05 جمادى الآخرة 1433هـ

كشكول رسائل ومشاركات القراء

الغرور صفةٌ أخلاقيةٌ ذميمة، تُعدُّ انحِرافاً نفسانياً وسلوكاً اجتماعياً خطيراً، وتعتبرُ حاجباً مانعاً لعقل الإنسان عن واقعه وحقيقته، يشقى صاحبها في الدنيا والآخرة، وتدفعه للوقوع في شِراك الباطل ومصارعة الحق وسوء العاقبة، وخسارته لِمَنْ هم حوله بل وتعرضهُ لمقتهم بدلاً من حُبهم ووِدِّهم.

فمن الغرور الاستبداد بالرأي والافتتان بالسلطة واحتكار الحقيقة، ومنها الآثار السيئة، والنتائج الخطيرة التي تُسهم في تدمير المجتمعات والشعوب والتي من شأنها أن تفتك بالعالم أجمع كالحطَّ من الكرامة الإنسانية.

ومن أجل بيان صفة المغرور نقف مع هذه الرواية التي يتحدث فيها الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): «المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنّه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحّة جسمك أن لعلّك تبقى. وربما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم. وربما اغتررت بحالك ومنيتك، وإصابتك مأمولك وهواك، وظننت أنّك صادق ومصيب، وربما اغتررت بما تري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة، ولعلّ الله تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربما أقمت نفسك على العبادة متكلّفاً والله يريد الإخلاص، وربما افتخرت بعلمك ونسبك، وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب الله، وربما تدعو الله وأنت تدعو سواه، وربما حسبت أنّك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك، وربما ذممت نفسك، وأنت تمدحها على الحقيقة».(ميزان الحكمة، ج 3، ص: 2237).

وفيه قال أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة له:

إِنَّ الغُرورَ إِذا تَمَلَّكَ أُمَّةً

كَالزَهرِ يُخفي المَوتَ وَهوَ زُؤامُ

وفيه قال أيضاً رشيد الخوري المعروف بالشاعر القروي:

إذا عصفَ الغُرُورُ بِرأسِ غِرٍّ

تَوَهّمَ أنَّ مَنكِبَهُ جَناحُ

تعريف الغرور في اللغة

قال أبوالعباس الجوهريّ: الغرور (يستعمل جمعا مفرده «غرّ»، و«الغُرورُ» بالضم: ما اغْتُرَّ به من متاع الدنيا. وقال الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات القرآن الكريم (ص359): «فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر». وذهب أبوإسحاق الزّجّاج في تفسيره (معاني القرآن الكريم) في تعريفه «الغُرورُ» بالأباطيل.

تعريف الغُرور في الاصطلاح

مما جاء في تعريفه ما قاله حجة الإسلام العلامة أبي حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين من كتاب ذم الغرور قال: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه»، ويعرفه ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق (ص166) يقول: «جهل من الإنسان بعيوبه، وجهل بحقيقة مهمة هي أن الفضل مقسوم بين البشر لا يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره».

الرؤية القرآنية للغرور

اتفقت معظم الآراء العلمية لعلماء التفسير والأخلاق والتربية على أن السبب الرئيسي للغرور كامنٌ في الجهل، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه السالف الذكر أن «الغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور» وهذا مما يُعدُّ في المنطق بالعموم والخصوص المطلق وهو النسبة الثالثة من النسب الأربع حسب تقسيم المناطقة. لماذا؟

يجيبنا أمير البلاغة والبيان الإمام علي بن أبي طالب (ع) حيث يقول: «مَنْ جهِل اغترّ بنفسه، وكان يومُهُ شرّاً من أمسه»، وعنه أيضاً: «لا يغُرّنَّكَ مَا أصبحَ فِيهِ أهلُ الغُرورِ بِالدُنيا، فإنَّما هو ظِلٌ ممدودٌ إلى أجلٍ محدود».

كما أن العديد من القضايا التي أوردتها آيات القرآن الكريم توضح هذه الحقيقة، وهي أن الغرور جهلٌ، بشكل جلّي وواضح، ألا وهي مسألة أمرُ الخالق سبحانهُ للشيطان بالسجود لأبي البشر آدم (ع)، حيث قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف:50)، وفي آية أخرى يقول سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) (الإسراء:61).

يُعتبر الشيطان أنموذجاً كاملاً لصفات الاستكبار والعلو والكفر والغرور والعصيان والتمرد، كما أن عاقبته السيئة المتمثلة في الطرد من ساحة العفو الإلهية والرحمة الربانية تحذيراً وإنذاراً لجميع البشرية.

تعددت آراء العلماء في هذه السجدة التي أمر الله سبحانه بها الشيطان؛ فمنهم مَنْ ذهب إلى أنها نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم (ع) وتمييزه عن سائر الموجودات، وآخرون مِمَنْ اعتبروه سجوداً للخالق جل وعلا، وما آدم (ع) إلا قِبلة نصبها لمخلوقاته كالكعبة المشرفة. يشار هنا إلى أن العلماء اتفقت كلمتهم على أن السجود لآدم (ع) لم يكن سجود عبادة وإلا لحصل الشرك وهو مستحيلٌ عقلاً. وعليه نجد أن الشيطان الرجيم قد استحكم عليه الغرور والجهل، وبلغت به الأنانية إلى حد الطغيان واعتقاده الكاذب بالعظمة والسمو؛ وهذا ما ورد في قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الإسراء:61) وهذا مما لاشك فيه دليلٌ على جهل الشيطان الذي أوقعه في الغرور الذي أنساه أنَّهُ لم يكُن مَلَكاً مِنَ المَلائكْةِ، بل كان مخلوقاً مِنَ الجِنِّ قال تعالى: (...إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ...)، وما أصبح من الملائكة وفي صفِّهِم إلا بسبب عِبادة الله جلَّ وعلا، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) في حديثٍ له مع زرارة «قال: قلت له: جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من الله ان أعطاه ما أعطاه؟ فقال: بشيء كان منه شكره الله عليه، قلت: وما كان منه جعلت فداك؟ قال ركعتين ركعهما في السماء في أربعة آلاف سنة»، وجاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي (ع) في شأن هذه السنين فقال: «لا يُدرى أمِنْ سِنيَّ الدنيا أمْ مِّنْ سِنيَّ الآخرة».

أنواع الغرور

النوع الأول: غرور السلطة

أخطر أنواع الغرور وأكثرها سوءا هو غرور السلطة، غُرورٌ إذا ما أُصيبت بها سلطة توافرت على العقلية العدوانية، والنفس المريضة الموبوءة بالبطش، والمتعطشة لسفك الدماء، وتدمير الأرض ومَنْ عليها دون رعايةٍ لِبشرٍ أو حجرٍ مِنْ خلال آليات القمع والفتك، لماذا؟

لا لشيء سوى إرضاء لغرور السلطة والقوة أمام الناس المقهورين، وتلذذ بآهات المستضعفين، واستمتاع بعذابات البشر العاجزين عن مواجهة كل تعسف وعنف، فكم طالعنا التاريخ العالمي بمحطات كشفت فيها السلطات المغرورة عن حجم المصائب التي ارتكبتها في حق الشعوب وحضاراتهم بسبب غيّهم وغطرستهم وتماديهم، منها تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً في فظائعها ودمارها والخراب الذي لحِق العالم كله بسببها، نعني بها الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م)، ومن بين هذه الصور المأساوية الفظيعة هي الكارثة التي لحقت باليابان نتيجة ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية من إلقائها للقنابل النووية على مدينتيّ هيروشيما وناغازاكي ( Hiroshima and Nagasaki ) في 6و9 أغسطس/ آب 1945م.

كانت النتائج أن بلغ عدد القتلى ما يصل إلى (140,000 ألف شخص) في هيروشيما، و(80,000 ألف شخص) في ناغازاكي بحلول نهاية العام 1945م، كما يشير الباحثون والعلماء إلى أن ما يقرب النصف من هذا الرقم قد قُتل في نفس اليوم الذي تمت فيه تفجير المدينتين، فضلاً عن الأعداد الهائلة للجرحى والمصابين بالحروق، والصدمات، والحروق الإشعاعية، والسرطانات المختلفة، فيما لاتزال اليابان تُعاني من آثار الإشعاعات النووية المنبثقة من التفجيرات لغاية اليوم.

النوع الثاني: غرور الثروة

إنَّ الغُرور بالثروة يُعتبر أحد أنواع الغرور الخطرة، وذلك أن خطورة هذا الغرور ليست مقتصرةً على شخص المغرور فحسب بل يتعداه نحو الآخرين، ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «قال رسول الله (ص): «إنَّ الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم». لماذا؟

الإسلام والشرائع السماوية الأخرى لا تُعارض طلب الثروة والعمل على تعظيمها، لكنها تُحذر من الغرور والافتتان بها، من خلال الامتناع عن أداء الحقوق المفروضة عليها شرعاً وقانوناً وأخلاقاً، كالزكاة والضريبة والصدقات والمساعدات (التكافل الاجتماعي)، أو أن تؤدَّى تلك الحقوق ولكنها في صورة إعلامية مقيتة مقززة، كالبذل والعطاء لبعض الفقراء والبؤساء وآخرين من المساكين والمعوزين، كسباً للسمعة والإطراء في المجتمع من خلالهم ووصولا لغايات ومنافع خاصة دونهم، صورة في الظاهر تدلك على الإيمان والوقار وهي في الحقيقة خداع واغترار.

وهذا هو قرآننا الكريم يُخبرنا بحال قارون، الثري والمغرور، رجل فرعون وممثله في بني إسرائيل والأمين على الصندوق والخزائن لديه، أي أنه في الاصطلاح المعاصر يشغل منصب وزير المال في الدولة الفرعونية آنذاك، فبعد أن آمن بنبي الله موسى (ع)، وهو إيمان ظاهري لا غير، طَلَبَ منه أن يؤدي زكاة المال المقررة عليه، فأخذه الغرور إلى حدِّ الاستعلاء والغطرسة وجحود المنعم عليه بهذه الثروة وهو الله سبحانه، وفيه يقول: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) (سورة القصص:78)، فاستحق بذلك عاقبة سيئةً ومشؤومة يتحدث عنها القرآن كناية عن ربِّ العزَّةِ والجلال: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) (القصص:81).

وفي المقام حديث لطيف للإمام الصادق (ع): «يقول إبليس: ما أعياني في ابن آدم فلن يعيني منه واحدة من ثلاثة: أخذ مال من غير حله، أو منعه من حقه، أو وضعه في غير وجهه».

النوع الثالث: غرور العلم

من خلال المتابعة والملاحظة للتطورات العلمية المطّرِدة، وما حققته من ثورات شتى في العديد من المجالات والميادين العلمية والتقنية نجد أن الغرور صفةٌ ملازمة لبعض العلماء والمكتشفين، وتتجلى أبرز صور هذا الغرور باعتبار أنَّ هذه المعارف والعلوم (العلوم الطبيعية والتجريبية بصورة خاصة) بلغت الحدّ،كم أنهما هما الوحيدان القادران على قيادة البشرية نحو السعادة، ولا يوجد من بعدهما أيُّ هدفٍ أو أيَّة غاية، وبالتالي فهو العلم الأمثل والمعرفة الأكمل دون غيره من المعارف والعلوم، وما سواه يُمثل فراغاً وأوهاماً أو بتعبير أحد أعمدة هذه المدرسة (سفسططة).

ومن أبرز الصور الأخرى لهذا النوع من الغرور اعتقادهم أن الإيمان بالدين والوحي وبعثة الأنبياء هو جهل وضعف وخوف، خصوصاً وقد حلّ عصر التقدم العلمي – التقني، وبلغ الإنسان بقوة عقله وعظمة قوته إلى الدرجة التي أصبحت الحاجة في مثل هذه الاعتقادات معدومة بل وتُمثل ضرباً من التخلف والرجعية.

إنَّ سيطرة الغرور العلمي على بعض العلماء حجبهم عن اكتشاف روح العلم وحقيقة المعرفة التي يقول عنها أحد أبرز الفلاسفة ورواد علم النفس الحديث الفيلسوف الأميركي (ويليام جيمس 1842 – 1910م): «إن نسبة علمنا إلى جهلنا كنسبة قطرةٍ إلى محيط». وعلى هذا الأساس يمكننا أنّ نتعرف على وجه من وجوه إجابة الإمام علي (ع) حينما سأله أحدهم قائلا: «أجَمعُ المال أفضلْ أم جمعُ العلم؟ فقال الإمام: بل العلم؛ لأن من جمع العلم يزداد تواضعه».

إنَّ سائر العلوم تُمثل وسيلةً من مجموعةِ وسائلَ من أجل غاياتٍ وأهدافٍ عُليا، وهنا تتأكد حاجتنا إلى الأخلاق، فلو راجعنا تاريخنا المعاصر ودققنا في أحداث ومجريات الحرب العالمية الأولى والثانية لوجدنا أنّ التقدم العلمي والصناعي كان دون أي ضوابط أخلاقية آنذاك، كما أنَّه يُعتبر أحد الأسباب التي أدت إلى حدوث الدمار والخراب الذي حلَّ بالكون أجمع.

أحد العلاجات المقترحة

هي تمام رواية الإمام الصادق (ع) التي بدأنا بها حديثنا، فبعد أن شخص الإمام (ع) حالة المغرور وصنَّف حالة غروره نجده يقترح علاجاً رائعاً لو اعتنى به المغرور لتخلص منه، يقول الإمام (ع): «واعلم أنّك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمنّي إلا بصدق الإنابة إلى الله تعالى، والإخبات له، ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل والعلم، ولا يحتمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمّة الهدى، وإن كنت راضياً بما أنت فيه فما أحد أشقى بعمله منك وأضيع عمراً وأورث حسرةً يوم القيامة». (ميزان الحكمة، ج 3، ص: 2237).

موعظة وعبرة

ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة العباسيّ هارون الرشيد لمَّا قلَّد يحيى بن خالد البرمكي منصب وزير الدولة الممتدة الشاسعة قال له: «قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه»، فأصبحَ يحيى البرمكيُّ خليفةً بثوب الوزير حتى عيَّن أولاده الثلاثة في مناصب الدولة العليا، فكانت لهم السيطرة على القرار السياسي.

وكما هي عادة الحكام، فكان ما كان من جور البرامكة وظلمهم وبطشهم بالرعية، حتى انقلبت الأمور وتغيّرت موازين القوى، حيث لا ظلم يدوم، ولا جور يبقى، وفيه يقول أمير البيان علي بن أبي طالب (ع):

لا تَظلِمَن إذا ما كُنتَ مُقتَدِرا

فالظُّلمُ تَرجِعُ عُقباهُ إلى النَدَمِ

تَنـامُ عَينُكَ والمَظلـومُ مُنتَبِهٌ

يَدعو عَليكَ وعَينُ اللهِ لَم تَنَمِ

فَحدَثَ ما لم يكُن في الحسبان، وهو ما تسالمت عليه كلمات المحققين في التاريخ بـ «نكبة البرامكة»؛ إذ غضب الرشيد عليهم، فنكّل بهم وبأهليهم، وألقى بهم في غياهب السجون، وأذاق جعفراً المنون، حتى قالوا ما نسبته إلى عبدالله بن عبدالرحمن صاحب الصلاة بالكوفة: «قال: دخلت إلى أمي في يوم أضحى، فرأيت عندها عجوزاً في أطمارٍ رثّةٍ، وذلك في سنة 190، فإذا لها لسان وبيان، فقلت لأمي: من هذه؟ قالت: خالتك عباية أم جعفر بن يحيى البركمي. فسلمت عليها، وتحفيت بها، وقلت: أصارك الدهر إلى ما أرى؟! فقالت: نعم يا بنيَّ، إِنَّا كُنَّا في عواريَّ ارتجعها الدهرُ منّا. فقلت: فحدثيني ببعض شأنك... فقالت: خذه جملة، لقد مضى عليَّ أضحى، وعلى رأسي أربعمئة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد جئتك اليوم أطلب جلدتي شاة، اجعل إحداهما شعاراً، والأخرى دثاراً، قال فرققت لها، ووهبت لها دراهم، فكادت تموت فرحاً».

وختاماً؛ وكما قال رسول الله (ص): «إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» نقف مع أبياتٍ تُخاطب العقل والوجدان لِعلَمٍ من أعلام الشرف والمجدْ، والشِعرِ والأدَبْ، مع أبياتٍ لأبي القاسم عليُ بنُ طاهرٍ المعروف بالشريف المرتضى حيث يقول:

أمِنْ أجلِ أن أعفاك دهرُكَ تطمَعُ

وتـأمنُ في الدنيا وأنتَ المروعُ؟

فإنْ كنتَ مغروراً بمن سمحتْ بهِ

صروف الليالي فهي تعطى وتمنعُ

شـفاءٌ وأَسـقامٌ وفقرٌ وثَرْوَة ٌ

وبَعْدَ ائتـلافٍ نَبْـوَة ٌ وتصدُّعُ

تأمل خليلي هل ترى غير هالكٍ

وإلاّ مُـبَـقّىً هُـلْكُهُ مُتَوقَّعُ؟

فما بالُنا نَبْغي الحياةَ وإنَّما حياةُ

الفـتَى نَهـجٌ إِلى الموتِ مَهْيَعُ؟

لنا كل يومٍ صاحبٌ في يد الردى

وماضٍ إلى دارِ البِلى ليس يرجعُ

أحمد عبدالله


ما بين الحق والباطل

الصراع بين الحق والباطل صراع ازلي لم يكن وليد الأمس واليوم فقط، فقصة هابيل وقابيل قبلاً، وهذا الصراع لا يخلو منه بيت ولا مجتمع ولا وطن، فلولا الاختلافات بين الحق والباطل ما عرفنا طريق الصواب فبداخل كل انسان لابد من الصراعات الداخلية وهي التي تسير الانسان وتحدد مساراته في الحياة.

ولكن لابد للانسان من التمحيص والتدقيق وتقبل الطرف الآخر حتى ولو كان مختلفاً معه في الرأي فإن الحكمة والصواب والتنزه عن الخطايا كله لله وحده جل جلاله، أما ما يوجد في مجتمعنا هذا اليوم كل يبحث عن ارتقائه وتعاليه عن باقي البشر، فالاختلاف في القدرات والإمكانيات شيء لا خلاف عليه ولكن التشكيك في الدين والعقيدة التي جبلت عليها أجيال طيلة عقود من الزمن شيء مرفوض قطعاً، فلا أنتم برب العباد لتحكموا بين الأطراف من منهم سيدخل الجنة ومن منهم سيدخل النار، فالنبي الأكرم وهو سيد البشر وهو منار الإسلام جعل من المعاهدات اساساً لتنظيم العلاقات بين المسلمين وبين اليهود مع اختلاف دينهم فكان البند الأول في معاهدته معهم أن «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» أي حرية العقيدة في الإسلام فقال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة): 256. فلا اعلم لِمَ يبثون ويوطدون الانقسام والطائفية من أعلى منابرهم بتفرقتهم هذا على ملتي فإنه معي ودمه دمي ومن لم يكن معي فأنا ضده وأهدر دمه، فالوطن واحد ولا ينبني الا بسواعدنا جميعاً لا بالاقتتال والتناحر والتهجم على الآمنين واقتطاع ارزاقهم والسعي للنيل منهم وما هي إلا أساسات لإشعال نار الحرب الأهلية في البلد والتي لا تحمد عقباها لكل الأطراف.

عبير العرادي

العدد 3520 - الخميس 26 أبريل 2012م الموافق 05 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً