العدد 355 - الثلثاء 26 أغسطس 2003م الموافق 27 جمادى الآخرة 1424هـ

التشريع والقرارات والقانون نتاج عملية تشاركية

السباق الديمقراطي بين الحمار والحصان

عبدالله جناحي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الحكومات الدكتاتورية أو الشمولية - كما في الأحزاب غير الديمقراطية - تتخذ القرارات المصيرية، إما عبر تبني رأي الزعيم الأوحد، أو القيادة المركزية، أو زعيم الحزب واللجنة المركزية له، أو المرجعيات الدينية غير السياسية، وعلى الجميع الطاعة والتنفيذ ضمن مقولة المركزية الديمقراطية أو الطاعة، التي تحولت في الممارسة الفعلية إلى المركزية المطلقة.

في مثل هذه المجتمعات، وتحت ظلال هكذا حكومات لاديمقراطية، من الطبيعي أن تصدر التشريعات والقوانين بسرعة كبيرة، فجميع أجهزة الدولة القانونية والتشريعية الشكلية والإدارية العامة تكون في خدمة الزعيم الأوحد ورغباته وسياساته، إذ يتم فرض هذه التشريعات على المجتمع بمؤسساته المدنية والأهلية والأفراد من دون أي إحساس بأخذ آرائهم ومرئياتهم في شأن هذه التشريعات التي تمس مصالحهم وحياتهم ومصيرهم المستقبلي، ولذلك ترى كثرة من المساوئ، أهمها عدم تنفيذ هذه التشريعات تنفيذا حقيقيّا، وعدم تطبيقها على الجميع والتهرب منها وبروز الفساد والواسطة واللامساواة واللاعدالة، وإجهاض حقوق البعض على حساب البعض الآخر، ذلك أن إصدار التشريع والقانون من دون مشاركة حقيقية في صنعه من قبل السلطة التشريعية المنتخبة حقا من الشعب انتخابا حرّا من دون إكراه او إجبار أو ترغيب، وذات صلاحيات فعلية، وكذلك من دون مشاركة فاعلة في استشراف آراء أصحاب الشأن من مؤسسات المجتمع المدني، كالأحزاب والنقابات والجمعيات المتخصصة وتفاعل الرأي العام عبر الصحافة المستقلة الحرة وحرية عقد المنتديات والتجمعات... من دون هذه المشاركات، لن يخرج التشريع ليعبر حقا عن مصالح الغالبية الساحقة من الناس، وليعكس قناعاتها، ومن ثم، حينما يبدأ التنفيذ، يصبح الجميع مقتنعا بتحويله إلى واقع ملموس قولا وسلوكا وممارسة.

وعلى صعيد الأحزاب، فالمبدأ ذاته ينطبق، ففي مثل هذه الأحزاب اللاديمقراطية، فإن القرار يتخذ أيضا بحسب رغبة ورؤية أحادية للزعيم الأوحد أو اللجنة المركزية أو المرجعيات، ولذلك فإن القرار أيضا يصدر بالسرعة الكبيرة، ولكنه لن يعكس رأي القواعد والكوادر، فيصبح على الجميع الطاعة والتنفيذ حتى وإن صدر بشكل مفاجئ.

فمبدأ المركزية الديمقراطية - أو الطاعة الذي تم التنظير له في مثل هذه الأحزاب - جمد العقل النقدي، وحوّل الكوادر والقواعد إلى قطيع ليس أمامها سوى التنفيذ، تماما كالحكومات الدكتاتورية التي مارست قيم الراعي وما الشعب سوى رعية عليها أن تأكل وتشرب وتنتج من دون أن تشارك في صنع حاضرها ومستقبلها، وعليها (أي الحكومات والأحزاب اللاديمقراطية) أن تسهر على القطيع وتراقب تحركاته حتى لا يشذ أحد عن «السراط المستقيم» وإلا سيعاقب إما بالسجن، أو الاتهام بالخيانة العظمى، أو الردة، أو التحريفية، ويطرد من «القطيع».

غير أن حضور هذه القيم غير الديمقراطية في عصرنا الراهن أصبح يُغلف بأوراق ملونة جميلة المظهر والشكل، مع بقاء المضمون غير الديمقراطي كما هو من دون تغيير سوى في القشور. فعلى صعيد الحكومات غير الديمقراطية التي أصبحت تواجه ضغطا دوليّا لتغيير سلوكها وممارساتها مع شعوبها، وفي ظل متطلبات العولمة والقبول العالمي لها حتى تتمكن من استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وأن تكون المنظمات الدولية التجارية والمالية والنقدية راضية عليها، مرضية هي ايضا بدورها المرسوم لها إقليميّا، عليها أن «تشرعن» لوجودها ولسلطتها غير الديمقراطية أصلا، وتعمل على «دسترة» ممارساتها البعيدة عن الثوابت المعروفة للديمقراطية، فتبدأ برفع درجاتها التي كانت منخفضة جدّا في معايير ومقاييس منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات الشفافية، والمنظمات العالمية المتابعة للتمييز بين الجنسين، أو بين الأصول أو الأديان، وأخيرا وليس آخرا، المنظمات المتابعة للحريات والحقوق الدستورية.

وهكذا يتابع المتابع لمقاييس ومعايير ودرجات هذه المنظمات مدى النجاح الذي تحققه هذه الحكومات، إذ تبدأ بتشكيل مجالس تسميها بالمجالس النيابية، وهي بعيدة عن مضمون وجوهر التشريع والرقابة والمحاسبة فترتفع درجة، وتعين المرأة وزيرة ونائبة ووكيلة وسفيرة، فترتفع درجة أخرى، وتضع في بعض المناصب القيادية الوزارية أو الفنية أو التشريعية أحد المواطنين من دين آخر أو من أقلية إثنية، فترتفع درجة، وتصدر القوانين الجميلة في ظاهرها ولكنها تشكل هيئات عليا ولجانا خاصة وتصدر قرارات وتعميمات لتستمر الهيمنة القديمة والفساد القديم بثوب جديد، فترتفع درجة أخرى، ويبدأ الإعلام الرسمي يرافقه إعلام أهلي منظر له من قبل البعض من الفضائيات والاذاعات والصحف وبعض الصحافيين الذين إذا عملت جردا لمقالاتهم في كل مرحلة من مراحل التغير في بلدانهم لاكتشفت زئبقية مواقفهم وقدرتهم على تسويق الموقف الرسمي بألفاظ وتبريرات «معصرنة» جدّا فترتفع درجة أخرى.

هذه الحكومات غير الديمقراطية، التي تنفذ هذه «الترقيعات الديمقراطية الشكلية»، وأمام أنظار ومرأى وموافقة دول ديمقراطية عريقة مع شعوبها، خائفة من انتقال هذه الديمقراطية الحقيقية إلى هذه الدول الحديثة ديمقراطيا حتى لا تتضرر مصالحها الاستراتيجية ويهتز وجودها ودورها في الاقليم، هذه الحكومات غير الديمقراطية جوهرا والتي تمكنت من «مكيجة» نفسها وإجراء عمليات تجميل لجسدها المترهل ووجهها، هي شبيهة بذلك الفلاح المنغولي - بحسب الرواية الشعبية - الذي سمع بقيام مملكة تيمور لنك أو هولاكو (لست متأكدا) بإجراء سباق للخيول الأصيلة، وقرر المشاركة فيه بحماره الضخم، فأخذ يجري التحسينات عليه وقطع جزء من أذنيه ووضع الحدوة على حوافره ودهنه ليلمع كالحصان، وحدّب ظهره وسمكر أسنانه ومشط شعره، فأصبح أمامه حصانا واقتنع بذلك، وتمكن من إقناع أحد أبنائه المعتوهين بأن الذي أمامه حصان وليس حمارا، وصدّق الابن وأخذ يدافع عن رأي والده، وقرر أن يكون فارسا لهذا الحصان المصطنع. غير أن المشكلة الكبيرة التي واجهته هي كيفية تحويل النهيق الى صهيل، وبعد تفكير عميق، قرر تدريب ابنه المعتوه على تقليد صهيل الحصان ووضع الغراء في حنجرة الحمار حتى يمنعه من النهيق في حلبة السباق، وطبعا، تمكن من خداع المحكمين والجمهور لفترة، وعند لحظة الانطلاق انفضح أمره، فجميع الخيول الأصيلة انطلقت إلى الأمام إلا هذا الحمار، إذ بعد فترة من الجري واللهاث ذاب الغراء وأخذ ينهق من التعب والإرهاق.

إذن، فانطلاقة الديمقراطية ونجاحها وفوزها بالجوائز بحاجة الى خيول أصيلة في حلبة الديمقراطية وسباقها العالمي، أما الحمير «الممكيجة» فلن تقطف الثمار، ولن تحقق الانتصارات، ولن يتلذذ فرسانها الكسيحين بالنصر ويتلذذوا بخيراته.

الأمر ذاته ينطبق على الأحزاب والجمعيات والأفراد غير الديمقراطيين الذين غيروا أشكالهم وبقيت المضامين القمعية والانتهازية والتسلقية وغير المبدئية من دون تغيير يذكر، فالبعض منها ترفع شعارات الديمقراطية والليبرالية والشفافية، وفي داخل بنيتها التنظيمية مازالت الممارسات الانفرادية واللاجماعية في اتخاذ القرارات موجودة، إلى درجة أن بعضها - ومنذ انتخاب مجالسها الادارية - لم تعقد حتى لقاء مع أعضائها وقواعدها، ومازالت تتخذ قراراتها وفي المحطات المفصلية من دون أية مشاركة جماعية ديمقراطية داخلية، وهي تنادي - وبأعلى صوت - بأنها ليبرالية التوجه والفكر، وتهاجم التيارات الأخرى الديمقراطية والإسلامية وتتهمها بالظلامية والتخلف واللاديمقراطية، في حين تلقي بنفسها في أحضان الحكومات بمجرد انها متحالفة مع الأميركيين الليبراليين، وتدعو إلى الاعتراف بالاحتلال الأميركي للعراق تحت تبرير إعطاء الفرصة لنشر الديمقراطية في الدول العربية على يد القوات الأميركية، وتنظر إلى علاقات الاعتراف والانفتاح مع الكيان الصهيوني، وتسكت تماما عن مجازر هذا الكيان وعدوانه المستمر واليومي ضد الشعب الفلسطيني، وتصرخ دوما دوما ضد أية عملية فدائية دفاعية عن النفس بمجرد ان فاعليها إسلاميون، وكأن لسان حالهم وهمَهم الأول والأخير محاربة الإسلام فقط، ومن دون أن تطرح أية رؤية أو برنامج جاد لمحاسبة او مقاومة سياسات رسمية حكومية مضادة للديمقراطية، فلم نسمع حتى همسات معارضة ضد تصريحات السياسات الإعلامية، أو معاقبة النقابيين في القطاع الحكومي، أو الفساد المالي والإداري في المناقصات، أو كسر الاحتكار. هي ليبرالية حكومية فاقعة تطالب الأحزاب الديمقراطية بالانجرار وراء هذا الموقف، وإذا ما تم رفض هذا الطلب تراها تكيل الاتهامات والهجوم ولا تعترف بحق الآخرين في اتخاذ الموقف الوطني والقومي بحسب رؤيتها، بل ترفض التعددية بمنطقها هذا، فأية ليبرالية في لغة خطابها السياسي والاعلامي وكذلك في تعاملها التنظيمي الداخلي؟

أما الحكومات الديمقراطية والأحزاب الديمقراطية، فالتشريع والقانون والقرارات جميعا نتاج عملية تشاركية جماعية فاعلة، تتصارع الأفكار وتتراكم الرؤى والمقترحات لتصل إلى مرحلة القفزة النوعية بإنتاج فكرة جديدة، هي نتاج العقل الجمعي المبني على الحوار والنقد والنسبية، ورفض السكون وعدم صحة الرأي الواحد، ولأن هذه الآلية تعني أن ميلاد التشريع أو القرار بحاجة إلى زمن طويل نسبيّا، يستغله الدكتاتوريون ليطرحوا أن المشاركة الجماعية في صنع القرار تعطل مصالح الأمة، وتبطئ من ريادية الحزب في اتخاذ قراراته، غير أن بطء صنع التشريع والقرار، وهو ضريبة الديمقراطية، يقابله قوة وصلابة التشريع والقرار الصادر، إذ يعكس رأي الجميع، لأنه من صنع الجميع، ولذلك فالجميع يحترمه ويعمل على تنفيذه

إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"

العدد 355 - الثلثاء 26 أغسطس 2003م الموافق 27 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً