العدد 3597 - الخميس 12 يوليو 2012م الموافق 22 شعبان 1433هـ

الأوكسجين (1)

نهاد نبيل الشيراوي comments [at] alwasatnews.com

استشارية العناية المركزة والأمراض الصدرية

قبل أن يكتشفه الإنسان، كان كل الظن أنه أحد عناصر الطبيعة الأربعة: الأرض والماء والنار والهواء. كان الهواء شيئاً مبهماً في ذهن الإنسان. مادة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، لكنه لا يستطيع الحياة من دونها لحظة واحدة. عرف الإنسان أنه إن تسلق قمة جبل مرتفع، فإن تنفسه يتسارع كالخائف، وتزداد دقات قلبه كالعاشق، ويتغير لون شفاته من اللون الوردي الجميل إلى الأزرق القاتم. وأدرك جيداً أن هذا العنصر لا يوجد في أعماق البحار والمحيطات حيث يغوص بحثاً عن الأسرار والكنوز. ظل الإنسان أسير هذا الاعتقاد، حتى اكتشف أحد العلماء أن ما كان يظنه الإنسان عنصراً واحداً ويسميه الهواء، لهو خليط من أكثر من مادة وإن إحدى هذه المواد تساعد على التنفس والاحتراق. عجيب ذلك العنصر الذي يمنحك الحياة والموت في الوقت ذاته. يدخل إلى داخل رئتيك ومنها إلى خلايا دمك، فيمنحك الطاقة ويساعدك على التفكير والهضم والكلام والمشي، وقد يشترك في عملية كيميائية بسيطة للغاية، فتشتعل الحرائق وينتشر الدمار. سماه أحد العلماء «مولد الحمض»، لاعتقاده أن هذا العنصر يدخل في تركيب الأحماض، وعلى رغم أن هذه التسمية غير دقيقة، إلا أننا بقينا نطلق عليه هذا الاسم حتى الآن. إنه الأوكسي (الحمض) جين (مولد)... أو الأوكسجي!

بنسبة تصل إلى الخمسين في المئة في القشرة الأرضية والواحد والعشرين في المئة في الغلاف الجوي، يشكل الأكسجين أحد أهم العناصر على وجه الأرض. في الطبقات القريبة من سطح الأرض يوجد الأوكسجين على هيئته الجزيئية المكونة من ذرتي أوكسجين متحدتين ببعض (O2)، أما في الطبقات العليا، فتعمل الأشعة فوق البنفسجية على دمج ذرة أوكسجين إضافية لجزيء الأوكسجين، ليتشكل لنا غلاف واقٍ من طبقة الأوزون المهمة للغاية (O3). على رغم أننا نستهلك الأكسجين يومياً في عمليتي التنفس والاحتراق، إلا أن الفضل لعملية التمثيل الضوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء في بقاء نسبة الأوكسجين ثابتة في الغلاف الجوي.

أتعامل بشكل يومي مع الأوكسجين كطبيبة أعمل في قسمي العناية المركزة وأمراض التنفس، وأعرف أكثر من غيري أهمية هذا الجزيء الصغير الذي لا نراه ولا نعرف له طعماً ولا رائحة. يدخل الأوكسجين إلى الرئة كجزء من الهواء الذي نتنفسه، ويمر على الأغشية المخاطية في الأنف فترطبه ببخار الماء وتمنحه الدفء حتى لا يؤذي الرئة إذا ما دخل إليها جافاً بارداً. يصل الأوكسجين إلى الحويصلات الهوائية التي يفوق عددها الثلاثمئة مليون حويصلة. ويتساءل البعض ما الحكمة في أن الرئتين تشبهان خلية النحل وليستا كيسين كبيرين مليئين بالهواء. إنه الإبداع الإلهي في أن يكون مجموع مساحة سطح الحويصلات الهوائية سبعين متراً مربعا، أي ما يعادل أربعين مرة مساحة الجلد، وهو ما يجعل تبادل الغازات عبر الحويصلات الهوائية عملية ذات كفاءة عالية جداً.

يحيط بجدار الحويصلات الهوائية شبكة عنكبوتية من الأوعية الدموية الدقيقة، يلتصق جدارها التصاقاً وثيقاً بجدار الحويصلات. هذا الجدار الرقيق جداً مهم للغاية لتيسير عملية التبادل الغازي. نحتاج الأوكسجين لنبقى على قيد الحياة، فهو أساس الطاقة التي نحتاجها في كل عملياتنا الحيوية. هذه العمليات تنتج غاز ثاني أكسيد الكربون، والذي يتخلص منه الجسم عبر عملية التبادل الغازي ذاتها. يدخل الأوكسجين إلى الدم، فترتبط أربع جزئيات منه بجزيء من الصبغة الحمراء الموجودة في كريات الدم والمسماة «هيموجلوبين». لولا هذه الصبغة لما أمكننا أن نبقى على قيد الحياة ثانية، لأن الأوكسجين لا يذوب في بلازما الدم إلا بنسبة ضئيلة جداً، وبفضل «الهيموغلوبين»، نستطيع أن نحمل في دمائنا كميات كبيرة من الأوكسجين.

لكن ما الذي يمكن أن يحدث لنا إذا ما نقصت نسبة الأوكسجين في دمائنا؟ تختلف الأعراض بحسب درجة النقص وحدته ومدته الزمنية، وتتراوح بين الشعور بالتعب والصداع وضيق التنفس. أما إذا انخفضت نسبة الأوكسجين بشكل حاد، فيؤدي هذا إلى انخفاض نسبة الوعي ثم الغيبوبة وقد يؤدي إلى حدوث الوفاة. إن أكثر الأعضاء تأثراً بنقص الأوكسجين هو الدماغ، إذاً لا يتحمل أكثر من خمس دقائق تموت بعدها خلاياه موتاً أبدياً. في حالة نقص الأوكسجين يتغير لون الشفاه واللسان إلى اللون الأزرق، وذلك لأن لون الهيموغلوبين ناقص الأوكسجين يميل للون الأزرق، بعكس الهيموغلوبين المرتبط بالأوكسجين الذي يكون لونه أحمر زاه.

أمام أسباب نقص الأوكسجين فهي:

- المرتفعات العالية وذلك بسبب نقص الضغط الجزيئي للهواء (لذا نلاحظ أن كبائن الطائرات تكون ذات ضغط معدل حتى لا يصاب المسافر بنقص الأوكسجين بسبب التحليق على ارتفاعات عالية).

- أمراض الرئتين المختلفة سواء الحاد منها أم المزمن.

- أمراض القلب الخلقية والتي يكون هناك فيها اتصال بين الجزء الأيمن والأيسر من القلب.

- فقر الدم الشديد بسبب نقص صبغة الهيموغلوبين المكلفة بحمل جزئيات الأوكسجين في الدم.

- التسمم بمواد سامة مثل السيانيد وأول أكسيد الكربون. يتسرب غاز أول أكسيد الكربون من المواقد التي تعمل بالغاز، الشوايات التي تعمل بالغاز والفحم، المدفأة التي تعمل بالغاز أو الزيت والأفران الخشبية.

مما سبق رأينا ما هو الأوكسجين وما هي أهميته بالنسبة لجسدنا. في الموضوع القادم سنتحدث عن كيفية مراقبة الأوكسجين في الدم وطرق علاج أمراض نقص الأكسجين المختلفة.

إقرأ أيضا لـ "نهاد نبيل الشيراوي"

العدد 3597 - الخميس 12 يوليو 2012م الموافق 22 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:34 م

      الله يحفطج

      طلتك بهية علينا
      الله يحفظج ذخر للوطن

    • زائر 3 | 10:32 ص

      عزيزه على القلب

      ما أجمل كتاباتك دكتوره حيث ننتظر كتاباتك كموعد في يوم الجمعه وفقك الله لمافيه خير للجميع

    • زائر 2 | 9:37 ص

      شكرا جزيلا

      مشكورة على المعلومات القيمة والسلاسة في تناولها باسلوب شيق.

    • زائر 1 | 8:53 ص

      بارك الله فيك دكتورتنا العزيزة

      و شكراً جزيلاً على هذه المعلومات القيمة وعلى وقتك و مجهودك.

اقرأ ايضاً