العدد 3642 - الأحد 26 أغسطس 2012م الموافق 08 شوال 1433هـ

الدبلوماسية المصرية ورياضة التنس في البحرين

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

عندما تخرجت من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية العام 1965 ثم انضممت للعمل الدبلوماسي المصري، كانت وزارة الخارجية حريصة على تثقيفنا في طبيعة العمل الدبلوماسي وخصائصه وسماته الفريدة، وأبرز لنا أساتذتنا من الدبلوماسيين المخضرمين ذوي الخبرة والحكمة ست حقائق ترتبط بالعمل الدبلوماسي، وتجعله مختلفاً عن غيره من المهن والأعمال:-

الأولى: أنه عمل غير روتيني فليس له وقت محدد، فالدبلوماسي كالجندي في ميدان المعركة من المفترض أنه تحت الطلب لمدة أربع وعشرين ساعة في سبعة أيام في اثني عشر شهراً، لا يخاف المخاطر ويهاب الصعاب، ولذلك أصبح الدبلوماسيون يتعرضون لكثير من المخاطر وخاصة في المجتمعات التي تعاني من عدم الاستقرار أو التطرف والإرهاب، وقد تعرضت في حياتي أكثر من مرة لهذا الموقف أو ذاك، فقد كنت أعمل في مكتب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وأخذت إجازة مع أسرتي ودفعت تكلفة حجز الفندق، وقبل الموعد بيومين طُلب بقائي لمهمة عاجلة، فتركت زوجتي وأبنائي يذهبون بمفردهم وبقيت في العمل، ومرت سنون طويلة، وعملت سفيراً في الصين، وحصلت على إجازة، وفي طريق سفري توقفت الطائرة في بانكوك، ووجدت السفير المصري في تايلند يقابلني وأنا في الترانزيت، ويبلغني رسالة الوزير بالعودة إلى الصين لمهمة ضرورية، وتركت زوجتي تسافر بمفردها للقاهرة، ومواقف مشابهة عديدة.

الثانية: أنه ليس عملاً تقليدياً، وقد يكون فيه أعمال لا ترتبط بالوظيفة نظرياً، ولكنها بالغة الأهمية عملياً، لارتباطها بطريق غير مباشر وربما أهم من الارتباط المباشر، ومن ذلك الرياضة والحفلات الاجتماعية، فكثير من التعارف والعلاقات الوثيقة يستطيع الدبلوماسي أو السفير من خلالها إقامة علاقات، ومن ذلك الحفلات العامة والاستقبالات ذات الصفة الاجتماعية هي تختلف عن الاستقبالات للأعياد الرسمية أو القومية، فهذه لها صلة مباشرة ولكن اللقاءات غير الرسمية، ومنها الهوايات مثل الرياضة أو ركوب الخيل أو التزلج على الجليد في البلاد الباردة، ومن ذلك أيضاً رياضة اليخوت وهواية الصيد أو لعب البريدج بوجه خاصة، ونحو ذلك لها أهمية وفائدة قد تفوق اللقاءات الرسمية، لأنها ترتبط بنخبة المجتمع التي لها تأثير وأهمية، ومن ثم تخدم الدبلوماسي في عمله وفي اتصالاته، وبالفعل تدربت على عدة أنشطة عندما كنت مستشاراً للسفارة المصرية في الهند أو دبلوماسياً ناشئاً في الأردن أو في النرويج وغيرها، ومنها لعب التنس والأسكواش وغيرها، ولكنني كنت كسولاً، ولم أواظب عليها بعد ترك الهند أو الأردن، كما تكاسلت عن كثير من الأنشطة الرياضية والترفيهية، وانكببت بصورة شبه كاملة على النشاط الثقافي وإلقاء المحاضرات أو المشاركة في الندوات والكتابة في الصحف والمجلات.

الثالثة: إن العمل الدبلوماسي ليس فقط اللقاءات الرسمية وإنما البحث عن الثقافة العامة بشتى الطرق، والمشاركة في المنتديات والتحدث فيها والتحاور مع المثقفين، وهذا ما حرصت عليه طوال حياتي، وخاصة عندما توليت مناصب السفير، وحتى الآن ربما لاهتمامي بالدراسة الأكاديمية وبالكتابة في الصحافة والمجلات والمشاركة في الندوات بحيث ملكت على معظم وقتي بعد العمل، وأذكر أن أحد أساتذتي من السفراء المتميزين وهو الدكتور نبيل العربي أمين عام جامعة الدول العربية الآن كان يدور يومياً في المكتبات العامة في الهند ونيويورك كل يوم، وعلى الأكشاك التي تبيع الصحف والمجلات لينتقي أحدث ما فيها، ولم تفارقه هذه العادة حتى الآن، وعند أول زيارة له للبحرين بعد تولي منصبه سألته هل ترغب في شراء أية أشياء لنذهب معاً للتسوق في المولات التجارية؟ فقال:نعم، فلما ذهبنا وجدته يتجه فوراً إلى مكتبة جاشنمال، ويشتري كتباً ومجلات ثم عاد إلى الفندق، كذلك يفعل المدير التنفيذي للمجلس المصري للشئون الخارجية الدكتور السفير سيد شلبي عندما زار البحرين لإلقاء بعض المحاضرات في المعهد الدبلوماسي. وهكذا يصبح الدبلوماسي لديه حصيلة من المعلومات الحديثة وما يدور في العالم، ويستطيع أن يفكر ويتحاور مع غيره من الناس سواء مثقفين أو دبلوماسيين في موضوعات متعددة.

الرابعة: عدم ممارسة العمل الدبلوماسي كما لو كانت السفارة أو الوزارة صندوق بريد بل ممارسته كما لو كانت مركزاً للفكر والبحث والتأمل وتقديم البدائل والأطروحات بطريقة علمية وليست أكاديمية. ذلك لأن صانع القرار ليس لديه الوقت للتفكير والبحث، وعلى الدبلوماسي أن يقوده ويساعده في ذلك، ومن هنا فإنه يشارك في صنع القرار بطريق غير مباشر، ومن هنا يختلف العمل الدبلوماسي عن أي عمل أخر، كما يبرز شخص دبلوماسي عن شخص دبلوماسي أخر ويتميز، وتختلف دبلوماسية دولة عن دبلوماسية دولة أخرى. فالدبلوماسي يجب أن يكون قارئاً جيداً ومحللاً مميزاً ومفكراً مبدعاً، أي كما يقال يفكر خارج الصندوق أو التفكير فيما لا يتقوقع التفكير فيه، هذا هو المنطق العلمي السليم، وليس ترديد دعاية دولته وسياستها بطريقة سطحية، وإنما التفكير في عرضه بأسلوب ذكي وبطريقة مبدعة.

الخامسة: على الدبلوماسي أن يوثق علاقاته بكل قوى المجتمع الذي يعيش فيه، وفي المقدمة وزارة الخارجية، فعندما كنت أعمل في سفارة مصر بالنرويج قال لي السفير يا بني إن عليك أن تذهب لمقابلة المختصين وأقرانك في وزارة الخارجية كل صباح حتى ولو تشرب معهم فنجان قهوة أو شاي، بالطبع هذا ليس حرفياً وإنما أن تجد وسيلة مناسبة لحديث في اللقاء، فهذا يفتح لك ذخيرة من العمل المفيد والعلاقات العامة. تحتاجها عند الضرورة في العمل.

السادسة: أن الدبلوماسي هو أو هي رجل علاقات عامة من الطراز الأول، ولكي يقيم علاقات عامة فعليه ثلاثة أمور، أولها أن يكون كريماً وبعيداً عن البخل في تبادل الهدايا في المناسبات وفي الدعوات وإقامة الحفلات، وثانياً أن يكون هاشاً وباشاً، مبتسماً، بشوش الوجه، وحسن الكلام، وطيب المعشر، وثالثها أن تكون معه زوجته في مختلف المواقع فهي السند الأول له في نجاح العلاقات العامة وفي التعرف على المجتمع. وأذكر أن أول سفير عملت معه في سفارة مصر في الأردن العام 1969 وكان أستاذاً متميزاً رحمه الله كان يطلب من كل واحد منا أن يقدم كشفاً باتصالاته ولقاءاته والحفلات التي أقامها، وليس بالضرورة تتضمن بيانات خاصة إنما هي وسيلة من وسائل التشجيع لجعل الدبلوماسي يشعر بالمسئولية، وكان هو يقوم بذلك ونتبادل هذه الكشوف الخاصة بعلاقاتنا العامة نرسلها أيضاً لوزارة لخارجية، وبالمناسبة كل هذا كنا نقوم به على حسابنا الخاص وليس بمقابل أو مصروفات تقدم لنا من الوزارة، وهذه من الخصائص الفريدة في العمل الدبلوماسي المصري، فإن الدبلوماسي يتحمل كل نفقات اتصالاته وحفلاته وهداياه وخلافه بما في ذلك حفل العيد القومي لبلاده الذي يقيمه السفير، ولذلك دهشت عندما وجدت سفراء من بعض الدول الأخرى لا يقيمون حفل العيد القومي لبلادهم فاستفسرت منهم لماذا لا يقيمونه؟ فقالوا إن دولتهم في إطار التقشف، لم ترسل لهم تكلفة الحفل، فلذلك لا يقيمونه، فتعجبت وقلت في نفسي عاشت الدبلوماسية المصرية أو قلت في نفسي عاش الدبلوماسي المصري كريماً ومظلوماً في نفس الوقت، وهذا ما يميز دبلوماسي عن آخر.

لماذا أسرد ذلك في هذا المقال؟ إنه بمناسبة مغادرة سفير مصر الحالي في البحرين السفير أشرف حربي سلامه الذي عشق رياضة التنس وكرّس جزءاً كبيراً من وقته وراحته للتفوق فيها، وحصل على جوائز عدة في البحرين، كما أمكنه من خلالها أن يتعرف على المجتمع البحريني والنخب المثقفة والسياسية والإعلامية ورجال الأعمال وغيرهم.

وبالفعل نجح أشرف حربي في عمله في البحرين كما نجح في مواقع أخرى، وأنا أتمنى له التوفيق في حياته الثانية بعد تخرجه من العمل الرسمي وانطلاقه في المجتمع، ولابد أن خبرته هذه ستكسبه الكثير، وتفتح له أبواباً أكثر، وهو كان حريصاً على أن يعلم العاملين معه في السفارة هذه الخبرة وهذه الهواية، ونجح إلى حد كبير في ذلك.

أقول إنه ليس مهماً أن ينفذ الدبلوماسي هذه النصائح الست كاملة، ولكنه يستطيع أن يأخذ بعضها فالوقت لا يسعفه، وعليه أعباء كثيرة، ولكنه لو كان بعيداً عن كل تلك النصائح، فإنه بالتأكيد سيصبح موظفاً روتينياً يؤدي عملاً روتينياً وليس عملاً دبلوماسياً.

وهذه نصيحتي للأجيال أرددها أمامهم عبر الوسائل المتعددة كما تعلمتها من أساتذتي، وكما مارست بعضها ليس كلها، ففي كل دولة وفي كل مجتمع عناصر معينة للعمل، و أولويات خاصة به، فالدبلوماسي في بلد منفتح غير زميله في بلد منغلق أو مجتمع محافظ وهكذا، لكل مجتمع تقاليده وتراثه وأسلوبه في التعامل مع أفراده، ولكن العمل الدبلوماسي هو هواية وحب، وإذا لم يكن الدبلوماسي يعمل في مهمته عن حب شديد فلن يكون ناجحاً بالقدر الكافي.

ودعواتي لأشرف حربي بمزيد من النجاح كما قلت في حياته الثانية التي تبدأ قريباً بعد مغادرته البحرين الحبيبة. جعلها الله بلد الأمن والأمان والتقدم والازدهار.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3642 - الأحد 26 أغسطس 2012م الموافق 08 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:18 ص

      ونحن إلابا والشمم

      اين وزارتنا عن هذه الافكار الرائعة .. واخص بالذكر الاعلام والصحة والتربية واخصص اكثر اقول التربية والتعليم التي بها شطحات لا تمت لا للسلوك السوي ولا الحصافة الدبلوماسية .. يعني تمشية حال

اقرأ ايضاً