العدد 379 - الجمعة 19 سبتمبر 2003م الموافق 23 رجب 1424هـ

صراع الفقراء والأغنياء في منظمة التجارة العالمية

انهيار مفاوضات مؤتمر كانكون في المكسيك

أحمد عباس الخزاعي comments [at] alwasatnews.com

لابد أن يعكس انهيار مفاوضات جولة المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية - الذي عقد في مدينة كانكون المكسيكية في الفترة من 11 إلى 41 سبتمبر/ ايلول الجاري - عمق الصراع بين الفقراء والاغنياء، وهذا يعني زيادة نسبة الجياع والفقر في العالم، بسبب تعنت البلدان التجارية الكبرى بفرض شروطها لتحرير التجارة مع دول العالم الثالث الفقير من قيودها. تنفيذا لخطتها في مؤتمر الأمم المتحدة عن الغذاء (الفاو) المنعقد حديثا في روما والوزراء المجتمعون في كانكون، طالبوا الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، بإزالة الدعم المقدم للقطاع الزراعي وفتح اسواقها امام الصادرات الزراعية لبلدان العالم الثالث لكن محاولاتهم باءت بالفشل. وردت الولايات المتحدة بأنها ليست على استعداد لتحويل مؤتمر للتجارة العالمية الى مؤتمر لتنمية العالم الثالث. البلدان الفقيرة التي يطلق عليها مجموعة الـ 32 تتهم الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بعدم الالتزام بمبادئ التجارة الحرة لتمكين الفلاحين الفقراء من التنافس.

لكن الولايات المتحدة ضيعت الفرص على البلدان الفقيرة بتطوير تكنولوجيا الاستخدام الموسع للأغذية المعدلة وراثيا المضرة بالصحة، ومن خلال استخدام التقنية البيوكيماوية التي لا تملكها البلدان النامية. منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، وعدت بخفض عدد الذين يعانون من الجوع في العالم إلى النصف بحلول العام 5102 في الوقت الذي لا تفتح فيه البلدان المتقدمة اسواقها للمحاصيل الزراعية للبلدان الفقيرة.

الولايات المتحدة تحاول إحكام قبضتها على تكنولوجيا الزراعة، وهذا يفسر حضور العالم الاميركي الحائز على جائزة نوبل نورمان بورلاوج المؤتمر، هذا العالم وضع الاسس لما يسمى بالثورة الخضراء في الستينات، وطور انواعا من الحبوب في المكسيك ساهمت كثيرا في زيادة الانتاج. وسمح اكتشافه هذا للكثير من البلدان النامية ان تكتفي ذاتيا في مجال الغذاء لكن المفتاح مازال في ايدي الإدارة الاميركية. وقد ايد بورلاوج الرأي الاميركي بأن التقنية البيوكيماوية والاغذية المعدلة وراثيا يمكن ان تساعدا في القضاء على الجوع في العالم.

عقد مؤتمر كانكون وسط تنديد المئات من المنظمات غير الحكومية والجمعيات المعارضة للعولمة والنقابات، بالمفاوضات التجارية المسئولة في نظرها عن تدهور اقتصاد دول الجنوب، وسط نقاط خلاف مثيرة وبحجم الملفات المعقدة المطروحة على طاولة المفاوضات. غير ان موضوعين أو ثلاثة شكلوا حجر الاساس لعدم التوصل إلى اتفاق على اعلان كانكون للعام 3002 فمازالت مشكلة وصول الدول الفقيرة الى الادوية لمكافحة امراض مثل الايدز والملاريا، ووصول الدول النامية إلى اسواق الدول الغنية، وإلغاء الدعم الحكومي للقطاع الزراعي تدريجيا، من الملفات الساخنة التي ناقشها المؤتمر الوزاري الذي يعقد كل سنتين.

المجموعة العربية غير مؤثرة، ودولها المشاركة في المؤتمر وضعت تصورا استمد من افكار البلدان النامية، لخلق اطر ورؤى واضحة على المستويين الوطني والعربي لمواجهة الفرص والتحديات الناجمة عن النظام التجاري متعدد الاطراف وتحرير التجارة، بحيث تعكس المواقف التفاوضية للدول العربية بشأن القضايا المطروحة في منظمة التجارة العالمية، واولويات واستراتيجيات الاصلاح الاقتصادي والتنموي في هذه الدول، لكنها لم تحقق شيئا يذكر على مستوى المفاوضات لاختلاف الانظمة السياسية في الدول العربية ومقياس الانفتاح الاقتصادي من دولة إلى اخرى. البلدان العربية اجمعت على تأزم الوضع الحالي للمفاوضات التجارية في معظم المسارات التفاوضية التي نص عليها برنامج عمل الدوحة، ما يستوجب قيام الدول العربية باتخاذ موقف موحد قوي لمواجهة شروط منظمة التجارة العالمية، بتنسيق مواقفها التفاوضية لكي تحمي مصالحها . ورقة العمل العربية أعطت اهمية لموضوع الملكية الفكرية والصحة العامة، وطالبت بتنسيق عربي في مجال تصدير المحاصيل الزراعية، وركزت على الدعم المحلي واهمية الغائه وإلغاء اشكال الدعم التصديري بأنواعه، وضرورة السعي إلى إزالة التعريفات التصاعدية بجميع اشكالها في الدول المتقدمة، مع تحقيق التوازن في عملية اصلاح التجارة في السلع الزراعية في الدول النامية، وذلك في مسألة النفاذ الى الاسواق والمعاملة الخاصة والتفضيلية. المفاوضات التجارية في مجال الخدمات في العالم العربي في وضع جيد مقارنة بغيرها.

مشكلة البلدان العربية تكمن في عرقلة اميركا لاجراءات انضمام دول عربية مهمة كالسعودية إلى منظمة التجارة العالمية. الدول العربية الاعضاء في المنظمة معظمها تم تسهيل انضمامها إلى المنظمة لكونها ضمن النفوذ الاستعماري البريطاني او الفرنسي. والاهم انضمام جامعة الدول العربية الى منظمة التجارة العالمية بصفة مراقب لتشكيل كتلة سياسية.

ولا يختلف المؤيدون والمعارضون في ان نتائج اجتماعات كانكون، التي شاركت فيها 641 دولة تنتمي 09 في المئة منها إلى الدول النامية. كانت فرصة لحل الخلافات بين الشمال والجنوب إذا توافرت النية بين الدول الغنية والاخرى الفقيرة. فالدول الصناعية الغنية تطمح في ان يكون اجتماع كانكون اعلانا عن «النظام الجديد للتجارة»، وانطلاقا للنظام التجاري العالمي الجديد القائم على اسس العولمة، ليتمكن من خلاله رأس المال وشركاته المتعددة الجنسيات من تحقيق المزيد من السيطرة على الموارد والاسواق على حد سواء، وفي المقابل ستتضاءل فرص الدول النامية أو ما يعرف بمجموعة الـ 32 الفقيرة في الحصول على أدنى الحقوق للحفاظ على حقها في تقرير سياستها الخاصة تجاريا وزراعيا. لكن عدم إقرار هذا النظام في مؤتمر كانكون يعكس مدى الهوة بين الشمال والجنوب.

أبرز قضايا جدول أعمال المؤتمر تتعلق بالإلغاء التدريجي للدعم الزراعي الذي يمنع الكثير من الدول النامية من دخول السوق العالمية بطريقة فاعلة. ويمكن القول إن هناك تفاوتا في المواقف بين الدول الكبرى والنامية في إلغاء هذا الدعم الزراعي، فبينما ترى الدول النامية ضرورة إلغاء هذا الدعم حتى يسمح لدول اميركا اللاتينية والقارة الافريقية والمزارعين الآسيويين بضمان نصيب في الاصواق الغنية في اسواق الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الاوروبي، فإن الدول الكبرى تخشى الموافقة على ذلك خشية انهيار اسعار منتجاتها الزراعية امام منتجات الدول النامية رخيصة الثمن، لهذا لم تحل هذه القضية في هذه الجولة من المفاوضات. غير ان الاتفاق الاوروبي الاميركي الذي تم اقراره في منتصف اغسطس/ آب 3002 ويهدف إلى خفض المساعدات الحكومية اتاح هامشا من التحرك للملف الزراعي في مؤتمر كانكون القضية الاخرى التي نوقشت في المؤتمر لها علاقة بجهود الدول الصناعية الرامية الى اقرار اتفاق دولي بشأن الاستثمارات المباشرة. ويرى البعض فيها انحيازا واضحا لمصالح الشركات المتعددة الجنسيات على حساب الدول النامية، فهذا الاتفاق المقترح عن الاستثمارات يضع قيودا على قدرات البلدان الفقيرة فيما يتعلق بتقديم الدعم أو الترويج لشركاتها ومؤسساتها الوطنية. مخاطر تحرير التجارة لن ترحم الفقراء وليس غريبا اتهام الدول الصناعية الكبرى بالانحياز في هذا الملف خصوصا إذا تفحصنا إحصاءات مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد» التي تشير إلى ان الاستثمارات المباشرة في الخارج شكلت 02 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي العالمي في العام 0002، أي ثلاثة اضعاف ما كانت عليه في العام 0891، والغالبية الساحقة لهذه الاستثمارات تقوم بها 00056 شركة متعددة الجنسيات التي تهيمن على ثلثي التجارة الدولية للبضائع وتمتلك 08 في المئة من الاراضي الزراعية في العالم. لهذا فإن اتفاقا لن يبرم الا بعد مزيد من المفاوضات.

مشكلة صناعة النسيج تكمن فيما تطالب به الدول الرأسمالية من تحرير التجارة في هذا المجال، ورفع القيود الجمركية عليه سيؤدي الى اغلاق 72 مليون فرصة عمل في الدول النامية. كما ان هناك مطالب ايضا بتحرير الخدمات، الأمر الذي سيمثل خطرا كبيرا على الدول النامية خاصة العربية، ومكمن الخطورة في العدد الكبير نسبيا للقطاعات المدرجة في اتفاق تحرير الخدمات والمراد توسيعها، والتي تضم الاتصالات والخدمات المصرفية والمالية والنقل الجوي والبري وخدمات التأمين والطاقة والتعليم والصحة والبناء، وكذلك الخدمات المرئية والسمعية وخدمات البريد، الأمر يهدد الاستثمارات العربية الضخمة في تلك المجالات الحيوية. وحتى الملف الذي شهد تقدما في الآونة الأخيرة عن الادوية التي يسمح للدول النامية بصنع او استيراد ادوية بديلة لمعالجة انتشار امراض خطيرة فوق ترابها يبدو انه يواجه المشكلات خصوصا في مدى جدية الشركات الكبرى في الالتزام به.

إذن سيطرة الدول الكبرى على مسار المفاوضات، كان يهدف إلى صوغ نظام تجارة عالمي يتوافق مع مصالحها وشركاتها المتعددة الجنسيات، وفي الوقت الذي تتضرر فيه الدول النامية من نتائج التحرير الكامل للتجارة. هذه العلاقة غير المتوازنة بين الطرفين تعود إلى الغرض من انشاء منظمة التجارة العالمية في العام 5991 باعتبارها اداة تنفيذية حقيقية لسياسة رأس المال «المستغل». فقد جاءت هذه المنظمة بعد 7 سنوات من المفاوضات بدأت في «بونتا دل إستا» في أوروجواي العام 6891، وحضرها 521 دولة، وانتهت في مراكش العام 4991 بإعلان تأسيس منظمة التجارة، لتحل محل الاتفاق العام للتجارة والجمارك GATT، والذي بدأ العمل بها اعتبارا من العام 5991. وكان من المفترض ان تكون هذه المنظمة اداة لترتيب التعاملات التجارية بين الدول الاعضاء التي تراعي خصوصيات كل دولة سواء في الانتاج الصناعي أو الزراعي، من دون فرض سيطرة اية دولة على اخرى، كالتوقيع على اتفاقات ثنائية تراعي حقوق الطرفين، لكن هذا لم يحدث. إذ تمت إدارة المنظمة لصالح الشركات متعددة الجنسيات والدول الرأسمالية الكبرى من خلال الدعوة إلى تحرير كامل للتجارة بين دول العالم، وبهذا استغل كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المزارعين في البلدان النامية، بفرض شروط قاسية على الدول النامية تتطلب إصلاحات مالية واقتصادية (خصخصة، فتح البلاد لرأس المال، تحرير سعر الصرف... تمهيدا لتحرير التجارة) وبذلك تم تأكيد قيام النظام العالمي الجديد للتجارة. وإذا كان الهدف من تحرير التجارة ورفع القيود ايجابيا في ظاهره، فإنه في باطنه لا يحمل سوى المنافع لاصحاب رؤوس الاموال او الدول القوية صناعيا، اما الدول الفقيرة والنامية وذات الانتاج الصناعي او الزراعي المحدود، فقد تحولت تدريجيا الى دول مستهلكة فقط، وما عليها مستقبلا سوى القبول بما تمليه عليها اهتمامات الدول الصناعية الكبرى، أو الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، والانتظار طويلا لما يمكن ان تحققه لها من وعود. والادلة على ذلك متعددة. فاحصاءات المؤسسات الدولية تشير الى ان الدول الغنية تتحكم الآن في 78 في المئة من واردات العالم، و49 في المئة من صادراته، بينما ترتفع معدلات الفقر، بشكل غير مسبوق. ولم تفلح الاتفاقات السابقة مثلما حدث في مؤتمر الدوحة 1002 - في رفع المعاناة عن الفقراء ومحدودي الدخل في الدول النامية. وكان مؤتمر الدوحة قد أسفر عن «أجندة مكافحة الفقر في العالم»، ولم يتحقق منها شيء حتى اليوم اللهم إلا الانجاز في ملف الادوية، والذي تواجهه عراقيل التطبيق. كما لم تفلح ايضا في تقليل نسبة الباطلة في اوروبا، بعدما بات الهم الاكبر للشركات ينحصر في تحقيق اكثر الارباح بأقل الكلف، ويتحقق ذلك من خلال فصل الكثير من الايدي العاملة والاستعاضة عنها بالماكينة. والنتيجة ان الحال الاقتصادية في غالبية دول العالم الفقيرة منها والغنية دخلت في مرحلة متردية، والاغرب من هذا ان الكثير من الاسر التي تعيش على القليل سواء من الصناعات الصغيرة أو الزراعة مهددة بالفناء، إذا ما اقدمت الحكومات على تنفيذ ما تريد منظمة التجارة العالمية فرضه من رفع الدعم عن صغار المزارعين والعمال، لا سيما في قطاع النسيج. عدم المساواة في التعامل بين الدول نتج عنه قيام بنغلاديش على سبيل المثال في العام 2002 بتسديد 003 مليون دولار كرسوم الى الولايات التحدة لتسويق منتجاتها هناك، والمبلغ نفسه الذي تسدده فرنسا عن بضائعها المتجهة الى السوق الاميركية، في الوقت الذي تمثل الصادرات البنغالية الى الولايات المتحدة 1,0 في المئة فقط من اجمالي الصادرات الاميركية، بينما ترتفع تلك النسبة في المنتجات الفرنسية الى 4,2 في المئة، أي ان بنغلاديش الدولة النامية تسدد 41 ضعف الرسوم التي تسددها فرنسا الغنية، ذات الاقتصاد القوي!

تقليص هوة الخلاف بين الشمال والجنوب، عن دعم المنتجات الزراعية وشروط الدول الصناعية الكبرى المعروفة بشروط سنغافورة القاسية للاستثمار والمنافسة في بلدان الجنوب، يفقر بلدان الجنوب، ويتطلب انقاذ العالم من الفقر والجوع والمهانة، بالاستعداد لتضحية بلدان غنية عن طريق التنازل عن جزء من سيطرتها على تجارة العالم، لصالح البدان النامية خصوصا في مجال الغذاء والاستثمار وشروط المنافسة، ونأمل في ان تتيح الجولة المقبلة من المفاوضات التجارية مجالا اوسع للتوصل إلى اتفاق دولي شامل يحفظ الكرامة الانسانية للجياع في العالم الثالث.

العدد 379 - الجمعة 19 سبتمبر 2003م الموافق 23 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً