العدد 3800 - الخميس 31 يناير 2013م الموافق 19 ربيع الاول 1434هـ

معضلة الديمقراطية في مجتمعات أهليَّة... التشابك بين التعارضات المدنية والأهلية (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يشهد العالم العربي حالات صعود للحركات الاسلامية، بدأت تتشكل وتتمظهر في أحزاب وهيئات ومنظّمات تجمع ما بين الاعتدال والتطرّف. هذا النهوض ليس جديداً كذلك وليس غريباً. فالتديّن ظاهرة طبيعيّة إذا وضعت في سياق تاريخي يقرأ الوقائع بوصفها تمثّل تلك الصور التي تعكس ما هو موجود في المجتمع. ومظاهر التديّن في السلوك الاجتماعي اليومي أو في الملابس أو حتى في الخطاب السياسي والتعامل الفردي مع العصر وأدواته الحديثة تشكّل في مجموعها تلك المادّة الخام التي تحتاج إلى تفكيك وتحليل وإعادة تركيب لتكون الصورة متقاربة مع الواقع.

العالم العربي الآن يعيش لحظات تحوّل فوضوية، هي في النهاية نتاج مرحلة انتقاليّة تجمع ما بين انهيار فترة الاستبداد ونمو طور المشاركة الذي تتمظهر في خريطته السياسيّة حالات من الصور المشوّشة التي تعكس ما هو موجود في ميادين أرض الواقع من تشكيلات أيديولوجية متنافرة تترابط في شبكة من العلاقات المعاصرة، يلتقي في وسطها المجتمع المدني ويتناحر مع الاجتماع الأهلي. وهذا الترابط اللاتاريخي هو تاريخي في معنى التعبير عن مستوى التطوّر الذي وصلت إليه المجتمعات العربية المتخالفة في نموّها من المحيط إلى الخليج. فالأمّة أحياناً، كما يرى أليكس دوتوكفيل، تمرّ في عهود «تتغيّر فيها عادات الشعب المألوفة، وتنهار الأخلاق العامّة، وتتزلزل العقائد الدينيّة». (الديمقراطية في أميركا، ص 292).

المسألة ليست «مؤامرة كونيّة» مدبّرة ومقرّرة من الخارج وليست أيضاً خطوة نهائيّة غير قابلة للتعديل والتطوير والتجاوز. المشكلة في سياقها العام مشتركة، وإيجاد الحلول لتعقيداتها لا يقتصر على الحداثي ولا الإسلامي، لأن الأزمة تتخطى الأحزاب السياسيّة وحلّها أيضاً لا ينحصر بوجود برامج ومخططات للتنمية والتحديث. المشكلة اجتماعية ـ تاريخيّة، وهي تحتاج إلى رؤية لا تختزل المسألة في عنوان واحد. فالكلام عن أنّ «الديمقراطية هي الحل» لا يختلف كثيراً في المعنى التاريخي ودلالته الاجتماعيّة عن شعار «الإسلام هو الحل»، لأن السؤال سيبقى يتحرّك في مجال أين الحل في الإسلام، وأين الحل في الديمقراطيّة.

في دراسته عن «الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر»، يرى محمد نجيب بوطالب أن «النزعة القبلية عوّضت القبيلة كبنية فاعلة ومؤثرة، بفعل عوامل التغيّر الاجتماعي والسياسي. لذلك فإن هذه النزعة آخذة في الاشتغال جزئياً، وبخاصة خلال فترات التأزم الاجتماعي». فالقبيلة تظهر «وتتخفّى في التنظيمات المدنية والاجتماعية، وتأخذ أحياناً ألواناً (حداثية)، فتظهر في المدينة والريف، كما تظهر في الحقل وفي الجامعة». وما يزيد من تأجيج الوضع «عدم قدرة المجتمع المدني على تحقيق عملية إدماج المواطنين جميعاً في نسيجه وهياكله». لذلك يلحظ بوطالب في تحليله للثورتين التونسية والليبية أن النزعة القبلية «تنقلنا من القبيلة، بوصفها تنظيماً اجتماعياً ماضوياً، إلى سلوك وعقلية يخصبان الذاكرة الجماعية والجهوية في آن واحد». (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2012، 164-165).

هذا أمر القبيلة ـ المنطقة في تونس وليبيا. وعن «أزمة اليمن» يقرأ عادل مجاهد الشرجي التحولات في سياق ضعف الدولة «وعجزها عن القيام بوظيفتها في تنظيم الأسواق ومحاربة الفساد»، ما أدى إلى جعل الأسواق «محصورة في إطار القوى الاجتماعية التقليدية التي تتمتع بقوة اجتماعية كبيرة، فتحول عدد من شيوخ القبائل إلى أصحاب مشروعات وتجار ومقاولين». وعن مفهوم الدولة الفاشلة يرى عبدالوهاب الأفندي في تحليله للحال السودانية وجود مشكلة بنيوية «بسبب وجود كتل اجتماعية وجهوية تتمتّع باستقلال ذاتي ولا تخضع لسلطان الدولة، وتمتلك قدرة على إضعافها إما بالتمرّد المسلّح أو رفض الانصياع أو بالاختراق، أو بهذه الأساليب مجتمعة».

ويقرأ فالح عبدالجبار أزمة الاندماج والهويّة في الدولة العراقية الحديثة (العام 1921) انطلاقاً من وراثة نظام الملل والنحل عن المرحلة السلطانية العثمانية، وبهذا المعنى التاريخي الانتقالي المضطرب، كانت القيم الدينية والاجتماعية «ميّالة إلى الانغلاق والمفاضلة والتفريق، لا إلى الانفتاح والمساواة والتوحيد». كذلك يربط يوسف مكي ضعف الدولة العربية بالبنية الاجتماعية للجماعات الأهلية والاقتصاد الريعي الذي تنعدم فيه المؤسسات المدنية، وتصبح القبيلة وسيطاً بين المجتمع والدولة، ما يؤدي إلى أن «يرث الناس انتماءاتهم القبلية والطبقية من العائلة، وفيها يتعلمون القيم والأصول التي ترتبط بها. وبسبب هذه العلاقة يصبح الحراك الاجتماعي العمودي أمراً غاية في الصعوبة». (مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط1، 2011).

تفتح هذه المشاهد باب الاجتهاد وإعادة القراءة حتى لا تسقط الاستنتاجات في فرضيات تتوهم خيالات قد لا تكون متطابقة مع حركة الواقع وما يتفرّع عنه من معطيات تستحقّ التوقّف عندها ودراستها بهدف استخلاص مفاهيم يمكن أن تساعد على تجاوز الحاضر واحتواء مطباته السياسية. فالمفاهيم لا تختلق من الأوهام المجبولة بالتوتر العصبوي وإنّما تنتج من قراءة خريطة الواقع وتلك الشبكة الأهلية التي تتقاطع في وسطها وأطرافها الأفقيّة والعموديّة مجموعة خيوط يتداخل فيها الجديد والقديم، الحديث والتقليدي، المدني والأهلي.

هذا التشابك بين التعارضات المدنية والأهلية هو نتاج تعانق لا تاريخي فرضته شروط التطوّر الموضوعي في عالم يعاصر مرحلة انتقاليّة تجتمع في وسطها عوامل مركّبة من عناصر ليس بالضرورة أن تكون منسجمة، لكّنها على الأقل تمتلك الحدّ الأدنى من التوافق على تمثيل فترة مؤقّتة تطغى عليها الفوضى (الهدّامة/ البنّاءة) لتعيد تشكيل صورة أخرى لن تكون أيضاً مخالفة لشروط الواقع. فالواقع الراهن تعرّض لهزّات سياسيّة لأنّه أساساً قام على تطوّر اجتماعي مشوّه. وهذا التشوّه أنتج نتوءات سياسية لابدّ من الاعتراف بوجودها حتى يمكن لاحقاً فهم خصوصيّتها وصولاً إلى التحكّم بآلياتها والسيطرة عليها نظريّاً.

عدم الاعتراف بالواقع وإنكار حيثيّاته وتجاهل أسبابه ومبرراته والعوامل التي صنعته، كلّها خطوات لا تلّبي الحاجة إلى رؤية تمتلك القدرة على التمييز بين ما هو قائم وما يجب أن يكون. وحين تتراجع آليات إدراك القوانين التي تتحكّم بالمتغيرات، تبدأ الوظيفة السياسيّة لفهم الواقع بالانحطاط لتقع أيضاً في مصيدة الأوهام وتنمو قراءة مضادّة غير سليمة وغير متوازنة تكون على نسق ذلك التطوّر الاجتماعي المشوّه.

هناك معضلة بنيويّة تفرض شروطها على السياسة، وتتمثّل في قدرة العلاقات التقليدية (القديمة والمتوارثة) على التكيّف مع المتغيرات والتأقلم مع الهياكل الإدارية المعاصرة لتستمد قوّتها من ضعف الاقتصاد الإنتاجي وقوة الاقتصاد الريعي الذي يسهّل للقبيلة أو المجموعات الأهلية (الأقوامية أو الطائفية) التسلل إلى الدولة وإعادة دمج وظائفها في إطار خراجي بعيد عن مفهوم المواطنة والمؤسسات.

الأهلي، المدني، السياسي… والدولة

هذا الضعف البنيوي ليس بالضرورة ظاهرة عربيّة تقتصر سلبيّاتها على أمّة واحدة. فالتاريخ يشهد على تنوّع هذه الظاهرة في الكثير من البلدان والشعوب، وهي في النهاية تحتاج إلى وقت لتجاوزها. والوقت لا يعني الانتظار وترك الأمور تتداعى لتأخذ الظاهرة موقعها الثابت في معادلة النمو والتقدّم.

الضعف البنيوي المذكور تمّ مراجعته وإعادة قراءة ملفّاته على مستويات مختلفة من السياسة والقانون، الطبيعة والجغرافيا، الاجتماع والاقتصاد وغيرها من عوامل مرئيّة أو قابلة للظهور. لنأخذ ثلاث قراءات للمسألة:

الأولى خرجت في القرن الرابع عشر حين تحدّث ابن خلدون عن الانسان المدني وحاجته إلى الاجتماع (العمران)؛ الثانية في القرن التاسع عشر حين عقد اليكس دوتوكفيل تلك المقارنة القانونيّة ـ السياسيّة بين الديمقراطيات الثلاث في عصره (أميركا، بريطانيا، وفرنسا) واستخلص معادلات تؤشّر إلى فروق بينها؛ والثالثة خرجت في القرن العشرين حين بدأ أنطونيو غرامشي يسجّل ملاحظاته في دفاتر السجن ويحفر في طبيعة أبنية الدولة وصلتها بالجماعة والنخبة في فضاءات السياسة والاقتصاد والكنيسة.

ابن خلدون تحدّث عن العصبيّة والدين والدولة، لكنّه لم يهمل الاجتماع في إطاريه المكاني والزماني، المناخي والمعيشي وصلته بالتحوّل في لحظة الصعود ثمّ لحظة الهبوط. وفي كلّ الحالات اكتشف في مقدّمته أن الزمن لا يتوقّف عن التغيير، والإنسان بحاجة دائماً إلى اجتماع مدني حتّى تتحقّق الدولة لأنها في الأخير هي غاية العمران. ابن خلدون يرى أنّ «الإنسان مدني بالطبع، أي لابدّ له من الاجتماع الذي هو المدنيّة في اصطلاحهم وهو معنى العمران». والاجتماع العضوي يتأسّس على «اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها»، لأن «المغالبة والممانعة إنّما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كلّ واحد منهم دون صاحبه»، لكنّها (العصبيّة) عرضةٌ للتلاشي والاضمحلال في تعاقب الأجيال.

وهنا يأتي دور الدين. فالدعوة تحتاج إلى عصبيّة (شوكة) لحمايتها في المرحلة الأولى لكنّها تلعب لاحقاً دور القوّة التوحيديّة ودمج العصبيات في اعتبار «أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحق».

لكن الدولة المركّبة من عصبيات يوحّدها الدين لها أعمار طبيعيّة، وهي تتطوّر وتنمو نحو الشيخوخة و «الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال». أي تبدأ من «التزايد إلى سن الوقوف ثمّ إلى سن الرجوع».

والشيخوخة ليست السبب الوحيد الذي يكفي للانهيار والتفكك وإنّما «خراب العمران» يحتاج إلى الظلم و «العدوان على الناس» حتى تختل الدولة وتفسد الديار. والدولة التي تنحلّ عراها في كل طور تحتاج إلى مدخل للعبور نحو الفساد والخراب. والمدخل إلى الخراب يعبِر من قناتين: العصبيّة (شوكة العصبيّة الكبرى التي تجمع العصائب) والمال (قوام الأحوال والمُلك). فالهرم طبيعي في الدولة لأنّه من «الأمراض المزمنة» التي لا دواء لها.

والهرم إذا ضرب الدولة يصعب بعدها الارتفاع، ما يفتح الطريق للتعديل والتغيير. فالدولة في «أوّل أمرها لابدّ لها من الرفق» وبعد «انقضاء الجيلين» تبدأ «أواخر الدولة ويكون فيها الإجحاف بالرعايا»، ما يتطلّب تشكّل قوة مضادة تقود عمليّة التحوّل التاريخي. (المقدّمة، ص 27... 153).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3800 - الخميس 31 يناير 2013م الموافق 19 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:48 ص

      الرضوخ الى قانون الفوضى أم الانصياع

      ليس من الأسرار أن العالم على حافة الهاوية التي وصل اليها الاقتصاد العالمي، والوضع المالي لأكثر الدول لا يسر بل أن معضمها قد لا مسه الضرر. ولا يخفى كذلك حالة الافلاس . وما الفوضى الى بسبب قانون طبيعي يصل الى هذه الحالة أي نظام كان عالمي أو محلي. وصلة قانون في الفوضى بسيطة متى ما كان الناس أو بعض الناس لا يعترفون الا بوجودهم وعدم وجود آخرين من الناس على هذا الكون فتصل الحالة الى الفوضى. وهذا طبيعي وغير طبيعي في آن واحد. فهل سيستمر الوضع هكذا طويلا ؟

    • زائر 2 | 12:33 ص

      ابو سيد رضا

      عوداً حميداً استاذي

    • زائر 1 | 11:08 م

      الربيعجذريات لربوع العربي

      هذا هو الربيع العربي حيث هرما الدول العربية وتحتاج تغييرا جذريا

اقرأ ايضاً