العدد 3968 - الخميس 18 يوليو 2013م الموافق 09 رمضان 1434هـ

في مواجهة المستحيل

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

في مواجهة الأزمات الكبرى التي تمرّ بها الأمم، تطرح العلوم السياسية جملةً من المعالجات، منها ما هو جذري، ويأخذ شكل إلغاء الهياكل والأدوات القديمة، وهو ما يطلق عليه بالتحول الثوري، ومنها ما هو تدرجي، يعمل على تطوير الهياكل والأدوات القديمة، وتدعى هذه المعالجات إصلاحاً.

في المعالجة الثورية، يتم التوجه مباشرةً نحو نواة الجوزة، ويجري تحييد أغلفة النواة، والحل هنا لا يبني على التراكم. أما في المعالجة الإصلاحية، فإنها ترى في الأزمة كتلة هائلة ومعقدة، ليس بالإمكان التعامل مباشرة مع جوهرها. بل ينبغي العمل على تقليص حجم الكتلة، من محيطها الخارجي ابتداء بالقشرة، إلى ما يليها في العمق، في عمل طويل ودؤوب، بهدف بلوغ نواة الكتلة.

وفي ما يتعلق الأمر بموضوع حديثنا هذا، فإن هناك عوامل، لن يكون بالمقدور تناولها بشكل عابر، أدت إلى اختيار المصريين، وإن بنسب مختلفة، حل الإصلاح واختيار التغيير التراكمي بديلاً عن الانتقال النوعي.

في انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011، اختزل شعار إسقاط النظام في رأس هرم الدولة، وتحديداً في شخص رئيس الجمهورية، مع أن الهتاف المدوّي عبر عن إرادة شعبية في إسقاط النظام، بالمعنى الشامل. ولا شك في أن انحياز الجيش، الذي هو جزء أساسي وحيوي في تركيبة النظام، إلى الحراك الشعبي، قد اختزل هذا الحراك، في مطلب تنحي الرئيس عن سدة الحكم. والنتيجة، أن مرحلة ما بعد 25 يناير أصبحت تدار بقوانين ولوائح وآليات ودستور، كان تغييرها من الأهداف الرئيسية للثائرين. ولا شك أن انحياز الجيش المصري، تجاه الحراك الشعبي في يناير 2011 قد أدى إلى ائتمانه على قيادة المرحلة الانتقالية، التي أعقبت تنحي الرئيس مبارك، وتوليه الإشراف على الانتخابات النيابية ومجلس الشورى، والانتخابات الرئاسية. وليتقاسم لاحقاً السلطة مع المؤسسة المدنية، التي غنمها الإخوان المسلمون، في ظل غياب حركة سياسية فاعلة، تسبب فيه تجريف للحركة السياسية من قبل النظام السابق، واستمر لعقود عدة.

ومرة أخرى، انتفض شعب مصر، في حراك أسطوري ليس له نظير... ومرة أخرى أيضاً انحاز الجيش العربي المصري، لنداء الضمير، ووقف مسانداً الحراك الشعبي، المطالب بخلع الرئيس محمد مرسي، عن كرسي الرئاسة، وإنهاء حكم الإخوان المسلمين. وكانت النتيجة، سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر المحروسة، بعد عام واحد فقط على تسلمهم السلطة، بعد فوز الدكتور محمد مرسي بنسبة طفيفة، في مواجهة منافسه الفريق أحمد شفيق.

لقد ورث الإخوان المسلمون، عن النظام السابق تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وفساد شمل معظم مرافق الدولة وأجهزتها، وانفلات أمني عمّ معظم المحافظات بعد انتفاضة 25 يناير 2011، وبطالة تتفاقم كل يوم، ونقص في المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، وتضخم كبير في الأسعار.

وبدلاً من التحالف مع القوى التي شاركت في الحراك السلمي، وأوصلت «الإخوان» إلى السلطة، تصرفوا بطريقة مخالفة لأبسط قواعد المنطق. لقد ظلوا مسكونين بهواجس الخوف من فقدان سلطة انتظروا اقتناصها طويلاً، وكانت الخشية من ضياعها، هي «عقب إخيل» الذي تسبّب في الثورة عليهم، وفقدانهم صولجان الحكم، في هذا البلد العريق، لأمد يبدو غير منظور، وربما للأبد.

تصرف الإخوان المسلمون أثناء فترة حكمهم القصيرة، بمنطق المنتصرين، وبأن الساحة خلت لهم لوحدهم، ومن دون مشاطرة غيرهم فيها. عبروا أولاً عن زهدهم في السلطة، وأنهم يكتفون بالمجلس النيابي، إذا حصدوا أغلبية مقاعده، ووعدوا بترشيح فرد من خارج دائرتهم للانتخابات الرئاسية، وأنهم لن ينافسوا على رئاسة مجلس الشورى. وعندما هيمنوا على المجلس النيابي، تراجعوا عن وعودهم. وحين تسلم مرشحهم الدكتور مرسي السلطة، بقي الخوف من ضياعها مهيمناً على سلوكياتهم. ومن حيث أرادوا الاحتفاظ بالسلطة إلى ما لا نهاية، معتبرين صناديق الاقتراع، جسراً مؤقتاً لتحقيق هذا الهدف فإنهم أضاعوا كل شيء.

أعاد الإخوان حكم الحزب الواحد، وكأن مصر لم تنتفض ضد الشمولية والإقصاء والاستبداد. فجرى الاستيلاء على جميع أجهزة الدولة، وتسارعت أخونة الدولة، معتبرة مصر غنيمة، لا ينبغي التفريط فيها. وجرى هجوم إعلامي مكثف، على القضاء، انتهى بالاعتداء عليه. وبدأ التعرض، من عناصر محسوبة على الإخوان، بأسلوب بذيء وغير متسق مع الثقافة الإسلامية والعربية، على المبدعين والفنانين، وشمل القدح أعراض الناس وخصوصياتهم. وتزامن ذلك مع تسعير طائفي ومذهبي وديني، انتهى بالقتل والسحل على الهوية. ولم يسلم الإعلاميون، ولا الصحافة والفضائيات من هذه الهجمة.

وضاعف من الأزمة، فقدان الكرامة الإنسانية، وتعطل محطات وقود السيارات. ومع تصاعد أزمة الانفلات الأمني تراجعت السياحة، وانخفضت العملة المصرية، وتفاقمت أزمة السكن، وكبرت معاناة العائلات البسيطة، وخرج المصريون مجدّداً إلى الميادين، طلباً للحل.

تراجع دور مصر، العربي والدولي. وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تكشف للجميع أن الشعارات التي رفعها الإخوان أثناء وجودهم خارج السلطة، لم تعن شيئاً. فالشعار الذي تعودوا الهتاف به والذي يتمثل بالقضاء على اليهود، وبأن جيش محمد سيعود، انتهى برسالة من محمد مرسي لرئيس الكيان العبري شمعون بيريز يصفه فيها بالصديق الوفي، مؤكداً تمسك مصر بمعاهدة كامب ديفيد وبالتطبيع مع «إسرائيل».

وكلما تفاقمت الأزمات، فقدت جماعة الإخوان المسلمين نصيباً آخر من شرعيتها، وانتهى بها الأمر لفقدان ثقة معظم قطاعات الشعب المصري. لكن الجماعة ظلت في حالة إنكار مستمر للأزمة. وفي حالات نادرة يعترف قادتها بوجود الأزمة، إلا أنهم يحيلون أسبابها إلى عبث وتخريب من خارج دائرتهم، في غطرسة واستعلاء أكدت نذره باقتراب أفول شمسهم.

ما حدث في الثلاثين من يونيو، هو طوفانٌ لا يمكن وقفه، وهو تعبير عن غضب كامن، لم يكن بالإمكان تداركه، بعد الفشل والعجز في معالجة الأزمات المتراكمة، التي أودت بموقع مصر ومكانتها. وهو استعادة مصر لدورها التاريخي. لقد فرض الشعب إرادته وانتهى حكم الإخوان المسلمين، ربما إلى غير رجعة.

واجهت مصر المستحيل، وعليها بعد عبورها إلى الضفة الأخرى، أن تختار أياً من المعالجات لأزماتها المستفحلة: هل تتجه مباشرة إلى عمق الجوزة، أم تكتفي بالتعامل مع القشرة. قدر مصر هو اختيار الطريق الصعب، وقدرها أيضا أن تعبر من اليأس إلى بوابات الأمل...

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3968 - الخميس 18 يوليو 2013م الموافق 09 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً