العدد 3979 - الإثنين 29 يوليو 2013م الموافق 20 رمضان 1434هـ

منهج حُسن التدبير أم سبيل التكفير؟

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تملأ عيوننا وأسماعنا في هذا اليوم تلك المشاهد العظيمة التي يتعلم منها، العاقل الصادق الشريف، أعظم الدروس المجانية. ومن تلك المشاهد، أنه بمجرد أن تسلم زمام السلطة بعد أن بايعه المسلمون لا قبلها، ووصل إلى الكوفة قام في الناس خطيباً وقال: «يا أهل الكوفة... إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي فحاسبوني».

نعم، ذلك بلا شك هو الحاكم العادل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي أعطانا أول دروس الحكم العادل في كل زمان، هو الذي لم يصل إلى السلطة بل هي وصلت إليه، ولم يستخدم التكفير والتخوين وإخراج الناس من المِلّة وقتل الأبرياء وتفخيخ الأسواق أو تفجير الناس في المساجد كي يقيم الدولة الاسلامية على أشلاء القتلى في الشوارع، كما يسعى ويروّج بعض مرضى العقول والنفوس اليوم. لم يلتحي بقلة التفكير وسوء التدبير وتشغيل ماكينة التكفير لكل عباد الرحمن حتى الذين حاربوه وخرجوا عن الملة والشرعية، بل كل عمله وحياته هي حُسن التدبر والتدبير في الأهل والأسرة، والرأفة والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن مع الرعية وحتى مع الأعداء.

وها هو أحد معاصريه، ضرار بن ضمرة الليثي، يقر بذلك في هذا المشهد عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال له: صف لي علياً، فقال: أو تعفيني من ذلك يا أمير، فقال: لا أعفيك، فقال: «كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفيه، ويخاطب نفسه، ويناجي ربه. يعجبه من اللباس ما خشُن، ومن الطعام ما جشُب. كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوّه منا وقربنا منه لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين. لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وهو قائمٌ في محرابه قابضٌ على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين».

تلك مجرد مشاهد وقصاصات لا تُبلى من سيرة الإمام علي (ع) في الرعية والحكم والدنيا التي جاءت إليه بأموالها العظيمة إلى أحضانه، فكان إذا أتى ذاك المال أدخله بيت مال المسلمين، ثم جمع المستحقين، ثم ضرب يده في المال فنثره يمنةً ويسرةً وهو يقول: «يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري».

والتحدي ماثلٌ أمام حكّام اليوم، ولنقصر الأمر على المسلمين، إن كانوا قد دخلوا لبيت أو لقصر الحكم وخرجوا كما دخلوه أول مرة خاليي الوفاض!

أضف إلى ذلك، أنه كان أشبه الناس طعمةً وسيرةً برسول الله (ع)، فكان يأكل الخبز والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم. وكان (ع) إذا صلى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلّمهم الفقه والقرآن. وها هو يعلّم الناس قائلاً: «أيها الناس إنه ليس شئ أحب إلى الله ولا أعمّ نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شئ أبغض إلى الله ولا أعمّ ضرراً من جهل إمام وخرقه».

وكما قال بعض من عاصره في فترة حكمه القصيرة، إن من أهم الأسباب في تقاعس العرب عن أمير المؤمنين لهو أمر المال، فإنه لم يكن يفضّل شريفاً على مشروف، ولا عربياً على أعجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصانعهم الملوك، ولا يستميل أحداً إلى نفسه، وكان أعداؤه بخلاف ذلك، فترك الناس علياً والتحقوا بأعدائه.

نعم... مضى صاحب حسن التدبير وجاء عصر من آمن وتمنطق بسبيل التكفير وعقاب الناس على الظنة والشبهة، وكنز مال الله والناس لفئة دون غيرها، وللجماعة والحزب والتجمع والعائلة والعزوة والنخبة والنبلاء والأخلاء والصحبة... أما الناس فلهم الله وبقايا التراب.

قال له رسول الله (ص) أمام جمعٍ من الصحابة: يا ابن أبي طالب، فإنك تخاصم الناس بعدي بست خصال فتخصمهم، ليست في قريش منها شيء: إنك أولهم إيماناً بالله، وأقومهم بأمر الله عز وجلّ، وأوفاهم بعهد الله وأرأفهم بالرعية، وأعلمهم بالقضية وأقسمهم بالسوية، وأقضاهم عند الله عز وجل.

وما أروعنا ونحن في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل لو توقّفنا هنيهةً عند أعذب كلماته وأصدقها لنا حين يقول: «... ولو شئتُ لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة، من لا طمَعَ له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَأبيت مبطاناً، وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءًً أن تبيت ببطنة... وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القد.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3979 - الإثنين 29 يوليو 2013م الموافق 20 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:37 ص

      كل ما كتبته صحيح

      و صحيح أيضا بأنه منذ اول يوم خلافته و حتى مقتله حورب. أى بمعنى آخر العقل البشرى المشبع بالأصول الإقتصادية و الإجتماعية السائدة لا يمكنه قبول معايير على بن أبى طالب لذلك لم يظهر بعده أى حاكم يدعوا لنفس المفاهيم. (نقطة كبيرة)

اقرأ ايضاً