العدد 40 - الثلثاء 15 أكتوبر 2002م الموافق 08 شعبان 1423هـ

عندما يتحول التنكيل إلى مهنة يصبح عادل فليفل أسطورة

الضحايا يتحدثون والحلول معلقة

ليس الغرض من هذا التقرير استعراض ما قام به شخص كان مسئولا في أحد أجهزة الأمن، وكثر عنه الكلام في الآونة الأخيرة، إلا أن الأساس هو تعرية طريقة حاول البعض إتباعها في التعامل مع الأفراد من مركز قوة، متناسين أن لا شيء سيظل مخفيا إلى الأبد، وأن هناك لعنة قد تطاردهم، أو تطارد من يحبون، إن انكشفت الأوراق بعد مدة من الزمن.

عادل فليفل، سيظل ظاهرة، تكررت بشكل أو بآخر، ولكنها الأكثر وضوحا في تاريخ البحرين المعاصر في شأن تعامل هذا الشخص مع من يقبض عليهم، بحق أو بغير حق.

فقبل عصر الانفتاح والإصلاح لم يكن من المسموح - ولسنوات طويلة - ذكر اسم «عادل فليفل» إلا في الخفاء وبتوجس تام، أمر عاشته مجموعة من أهل البحرين، على اعتبار أن «الحيطان لها آذان»، أما اليوم، وبعد ما اصبح فليفل بطل أكبر فضيحة أمنية في البحرين، وظهرت صوره - التي كانت في السابق لا تظهر حتى على بطاقة العضوية في النوادي الصحية الخاصة - تطالب السلطات الأمنية بالقبض عليه أينما كان، وصار بالإمكان الحديث عنه جهرا، من دون أن يُستدعى المتحدث من قبل جهة ما للتحقيق.

على هذا، فإن ما يتوجب ذكره هنا، أن كل إنسان رهين بما فعل، لئلا ينتقل ما قام به هذا الرجل إلى أهله وكل من يحمل اسم عائلته، حتى لا يحمّل الآخرون ما لا ذنب لهم فيه، ويعيشون عارا لم يرتكبوه، وربما لا يعلم بعضهم عنه في حينه.

ففي الوقت الذي ينفي فليفل ارتكابه جرائم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في تصريحات صحافية نشرت في أعقاب انتشار قضية هروبه إلى استراليا، لا يزال المئات من الذين عاصروه في المعتقلات والسجون، يتذكرون طرقه المبتكرة في التعذيب والأساليب التي كان يستخدمها في الاستجواب والتحقيق.

لا تزال ذاكرتهم التي أعياها التعب في مدرسته لفنون التعذيب تستحضر كل التفاصيل مذ كان فليفل موظفا صغيرا في وزارة الداخلية، إذ كان عمره عندما التحق بهذه الوزارة لا يتجاوز السبعة عشر عاما - كما تذكر بعض المصادر- إلى أن أصبح عقيدا له كلمته المسموعة بعد 26 عاما قضاها في الخدمة.

ففي ذروة الثورة الإيرانية مطلع الثمانينات، برز اسم فليفل، إذ كان متدربا يتلقى التعليمات والأساسيات ويطبقها على المتهمين الذين كان يدينهم بتهم التحريض والمشاركة في المظاهرات والكتابة على الجدران، وفي حقبة أواسط التسعينات وصل إلى مرحلة لا ينافسه فيها أحد، فصار بحق مدرسة تخرج الأجيال المتمرسة في فنون البطش بالسبل الأكثر تطورا.

«الوسط» ضمن الصحافة البحرينية التي تابعت نشر تفاصيل هروب العقيد وتصريحاته التي أعقبت الهروب، والتي كانت تؤكد في كل مرة أن التهم الموجهة إليه مجرد ادعاءات ملفقة لا تستند إلى دليل، وانصبت أكثر القصص المنشورة على الجانب المادي من علاقته بالآخرين؛ انتقلت إلى الزاوية الأخرى لترى كيف يردُّ الذين ذاقوا الويل تحت وطأته ووطأة تلامذته على تصريحاته الأخيرة، وليروا كيف التقوا به للمرة الأولى، وكيف تعرفوا على شخصه وتعاطوا معه طوال السنوات التي سبقت العفو الشامل.

عبد الرؤوف الشايب (37 سنة) أعتقل بأمر من العقيد فليفل 3 مرات، كانت أولها في العام 1979 بتهمة المشاركة في المظاهرات.

يقول الشايب: «بقيت في السجن لخمس سنوات من دون محاكمة، وفي نهايتها صدر حكم بالسجن لستة اشهر إضافية، أما المرة الثانية فكانت خلال قيام الثورة الإسلامية في إيران، كان عمري حينها 14 عاما، فنفيت إلى السعودية بعد أن خيروني بينها وبين إيران فاخترتها بحكم وجود أقرباء لي هناك(...) بعد مرور عام ونصف العام قَدِمَ فليفل بمساعدة المخابرات السعودية للقبض عليّ بتهمة قتل أحد رجال المخابرات في البحرين في الفترة التي حُظر عليّ الخروج من السعودية».

ويتابع: «في سجون البحرين مارس فليفل كل صنوف التعذيب، كان حينها ملازما، لتوه يكتسب المهارات، كان يربطني بين طاولتين ويضربني بكابل الكهرباء، فيما يملأ فمي بقطن قذر لأنه كان لا يطيق الصراخ الناتج عن الألم».

«كان يجعلنا نقف لأربعة أيام متواصلة» يقول الشايب «من دون أن يسمح لنا بالنوم أو الجلوس أو الذهاب إلى دورات المياه(...) كان يبري أقلام الرصاص ويكسرها في أنوفنا، هذا بالإضافة إلى الضرب الطبيعي الذي تعارف عليه الناس، والذي هو أقل الأمور إيلاما بالنسبة لنا».

ويضيف: «هو رجل مبتكر، في كل يوم تلمع في ذهنه فكرة جديدة فيطبقها على الفور، أذكر أنه ذات يوم غطى عيوننا، ورمانا من السلم، وكان يعلقنا على الأبواب ويأمر بجلدنا من دون رحمة».

ويواصل: «بقيت هناك إلى العام 1986، ليعاد اعتقالي في حوادث التسعينات من دون تهمة محددة، كان يقلب أوراقه القديمة فوجد اسمي بين القوائم الطويلة، كان عمر ابنتي حينها أربعة أيام، حكم عليّ بعشر سنوات بتهمة ملفّقة وخرجت مع العفو الشامل».

خلال تلك الفترة كان فليفل الذي يناديه رجاله بـ «أبو حسن» يحضر ولدي الذي لا يتجاوز الست سنوات وأمي ذات الـ 60 عاما ليهددني بالاعتداء عليهما إذا لم أقر بالاتهام الذي ينسبه لي، كان يعلقني فوق الباب وأنا منهوك القوى تماما ويجعل ابني ينظر إليّ حتى أصيب بأزمة قلبية، كان يجعل أمي تمر بالقرب مني من دون أن تراني ليجعلني أرتعب عليها وأعترف بجرم لم أرتكبه، ويهددني دوما بالاعتداء على زوجتي.

ويقول: «عندما ننكر التهم التي كان ينسبها إلينا أمام قاضي التحقيق، نعود إلى المربع رقم واحد من جديد وتبدأ رحلة التعذيب مضاعفة (...) لا أزال أتذكر كلمته الأخيرة عندما صدر العفو الشامل، قال لي بالحرف الواحد: «عذبتك قبل 20 عاما، وأعذبك اليوم وبعد 20 عاما سأعذب أولادك».

علي سلمان عيسى (32 عاما) أستنكر أن ينفي فليفل تعذيبه لآلاف الضحايا الذين دفعوا أحلى سنوات عمرهم في المعتقلات التي كان يديرها من الألف إلى الياء.

يقول: «التقيته في المرة الأولى - من دون أن أعرف من يكون - في أحد الممرات، كنت خارجا من جولة من جولات الاستجواب، تلقيت منه صفعة على وجهي من دون كلام، بعدها عرفني على نفسه، وفي المرة الثانية كان لقائي به ليكيل لي الاتهامات بالحرق والتحريض وانتهاء بالالتقاء بالشيخ عبدالأمير الجمري».

«كان يأمر بتعليقنا بالفلقة وبضربنا لساعات متواصلة، ولا يتوقف إلا عندما تنهار قوانا ونصل إلى حال من الهلوسة، بعدها يستغل ضعفنا ويجعلنا نقر بجرائم لا نعيها».

ويقول: «عندما قبضوا عليّ بزعامته كان الوقت فجرا، وكانت أمي تصلي وزوجتي ترضع طفلي الذي لم يتجاوز الأربعين يوما، بعدها أخذوني بالقوة بعد أن قلبوا البيت رأسا على عقب ولم أعرف - إلى الساعة - عن ماذا كانوا يبحثون (...) ربطوني واقفا لمدة خمسة أيام، وبمجرد أن أميل أو تغفو عينيّ أجلد إذ يهددوني بالاعتداء الجنسي على زوجتي... كانت هذه النغمة تتكرر يوميا».

يقول: عيسى «منذ بداية العهد الجديد وأنا أعيش على أمل أن يأخذ عظمة الملك بالقصاص لأناس سالت دماؤهم في غرف التعذيب وامتلأت بالصراخ والألم، وإن تعذر القصاص الدنيوي، فأنني سأحمل هذا الأمل إلى الآخرة فهناك ربٌ رحيم يأخذ بقصاص كل مظلوم».

مهدي سهوان، كان ممن يسمونهم «رادود حسيني» التحق بقافلة ضحايا العقيد، بهدوئه ونظرته المتفائلة راح يروي قصته مع فليفل ليقول: «في بداية الثمانينات أعتقل أخوتي جميعهم مع الثورة الإيرانية، كان عمري حينها 13 عاما، وفي نهاية العقد نفسه أعتقل أخي بحيث تعرفنا على فنون فليفل أكثر (...) استدعاني للتحقيق الذي لا يمتّ إلى التحقيق بصلة، فالتحقيق المتعارف عليه يكون على هيئة سؤال وجواب، في حين أن تحقيق «العقيد» يأتي على هيئة سؤال ولكمات من دون أدنى مساحة للجواب في حدود ما تعارف عليه البشر».

يقول سهوان: «اعتقلوني وربطوني لمدة خمسة أيام ربطوا عينيّ ليلطمنى كل ضابط يطوف بي من دون أن يعلم من أكون أو ما سبب وجودي في ضيافتهم (...) وبعد ما جربت كل فنون التعذيب ابتداء من الفلقة مرورا بالتعليق وانتهاء بالحبس الانفرادي أقررت ووقعت بأن أمي وأبي (المتوفى) وكل عشيرتي يخططون لتنظيم مسيرة، عوضا عن أن ألقي أناسا آخرين في التهلكة وهم لا ذنب لهم، وفي غضون ذلك اعتقل أخي بتهمة التفكير في تنظيم مسيرة، إذ أن حتى مجرد التفكير جريمة في قانون «العقيد»!

ويضيف: «كان دائما يكرر سؤاله: «متى ستصبح عاقلا؟»، والعقل من منظوره أن يتخلى الفرد عن دينه وعقيدته وأخلاقه ويصبح نجسا حتى يرضى عنه ويعتقه».

أتهمني أيضا بتشكيل خلية سياسية داخل مدرسة مدينة عيسى للبنين فقط لأنني كنت أدرب الطلاب هناك على رياضة الجمباز (...) خسرت الكثير من الوظائف فقط لأنه يضعني في القائمة السوداء، وفصلت عن الجامعة بسببه. كثيرة كانت الجرائم التي ارتكبها هذا الرجل بحق شعب البحرين، وهذه التفصيلات التي يسوقها من عاشوا تحت وطأته سنوات وسنوات، ما هي إلا قطرات في بحر متلاطم يكتم الكثير من أسرار البطش والتنكيل.

الأمل يحدو الكثيرين اليوم لأن تأخذ العدالة مجراها، ويعرف كل فرد أين تنتهي حدوده، وأن في مقابل الحقوق واجبات، وبالتالي، فلا يتعدى أي إنسان - مهما علا شأنه وارتفع مركزه - حدوده مع الآخرين، لأن في ذلك انتهاكا لحقوقهم، واعتداء على إنسانيتهم

العدد 40 - الثلثاء 15 أكتوبر 2002م الموافق 08 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً