العدد 4146 - الأحد 12 يناير 2014م الموافق 11 ربيع الاول 1435هـ

الحلم الصيني من منظور حضاري (2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

قدم كاتب هذه السطور ورقته إلى مؤتمر «حوار دولي حول الحلم الصيني»، من واقع خبرته العملية كسفير لمصر لدى الصين من 1998-2001، ومن منظور دراسته الأكاديمية لتاريخ وثقافة وحضارة الصين. وفي تصوري أن الحلم الصيني ينبغي أن يستند إلى ثمانية مقومات، (ورقم ثمانية هو من الأرقام التي يتفاءل بها الصينيون بالمناسبة)، ونستعرض هذه المقومات في الجزء الثاني من هذا المقال.

المقوم الأول: البناء على الانجازات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية التي تحققت حتى الآن وأدت إلى الصعود السلمي للصين، وهي انجازات تمت في إطار الانفتاح على العالم وإطلاق الإمكانيات الاقتصادية.

الثاني: استمرار الحفاظ على القيم الصينية الأخلاقية والسياسية التقليدية مع ملاءمتها للمستجدات والتطورات الحديثة في العالم وفي تاريخ البشرية.

فالصين القديمة بنت سور الصين العظيم لحمايتها من الغزاة البرابرة، كما أن اسمها باللغة الصينية يعني الدولة الوسطى أو المركزية، فهي مركز العالم وغيرها برابرة، ومن ثم الانعزال بقدر الإمكان. ولهذا ميزة وعيب، فالميزة إنها لم تكن دولة استعمارية على غرار معظم الامبراطوريات في العالم القديم والحديث، والعيب هو نقص تفاعلها الحضاري والثقافي مع العالم، ومن ثم فإن المواءمة هي في الحفاظ على المزايا بعدم التحوّل إلى قوة استعمارية وتطوير العيوب واستبدالها ليصبح التعاون والتفاعل مع العالم هو المحور الرئيس، وهذا يقتضي تغيراً في جوهر الفكر الصيني وفي أسلوبه في التفاوض للوصول إلى حلول وسط.

الثالث: إن حلم الصين هو حلمٌ للدولة لاستعادة قوتها العسكرية والاقتصادية، وهو حلمٌ للشعب باسترجاع أراضيه والحفاظ على سيادته بالطرق السلمية، مع الاستعداد العسكري وفقاً للمقولة المشهورة «إذا أردت السلام فلابد أن تستعد للحرب». وهو حلمٌ للأفراد الصينيين في تقريب الفوارق بين الطبقات والأفراد، والحفاظ على مكاسب الثورة الشيوعية الصينية التي تتمثل في التخلص من المفاسد الاجتماعية، والحفاظ على المكاسب الاجتماعية. ومن المفاسد الاجتماعية الرشوة والبغاء، ومن المكاسب الاجتماعية توفير المسكن والتعليم والرعاية الصحية لكافة المواطنين.

الرابع: التعامل مع الأقليات أو القوميات من منظور جديد يحقق لها الاندماج في المجتمع والشعب والنظام، بدلاً من ظهور نزعات انفصالية أو وجود معاناة معيشية وأمنية، كما هو حادثٌ أحياناً في المناطق الثلاث المشهورة للأقليات الكبرى، وهي منغوليا الداخلية، شينجيانج، والتبت، وهذا يتماشى مع المفهوم الصيني المبتكر «دولة واحدة ونظامين» الذي طبق في هونج كونج ومكاو، أو «دولة واحدة وثلاثة أنظمة» التي يدعو كثيرون إلى تطبيقه في تايوان لاستعادتها.

نقول إن هذه الأقليات هي جزءٌ لا يتجزأ من الصين، ولكنها على حدودها ومن ثم فهي مصدر قوة ومصدر خطر، ولابد من ابتكار أسلوب جديد للتعامل معها وتحويل عنصر الخطر إلى عنصر قوة، وهذا لا يكون إلا باندماج الأقلية مع الأغلبية العظمى. ومما يذكر أن قومية «الهان» تشكّل 92% أما القوميات الـ 55 الأخرى فتشكّل 8% فقط، ولذلك فإن استيعابها ليس أمراً صعباً.

الخامس: التفاعل الصيني مع المجتمع الدولي، وهذا قائمٌ بالفعل. فالصين دولةٌ لديها فائضٌ في رؤوس الأموال والسلع، وميزان المدفوعات مع معظم دول العالم يميل لمصلحتها، وهي أكبر مستثمر في أذون الخزانة الأميركية، ومستثمر مهم في الأسواق المالية الأوروبية، ولكن هذا لا يكفي، فينبغي أن يكون التفاعل وفقاً للمبدأ الصيني القائل «الحياة معاً في عالم واحد»، أي يمتد الاستثمار الصيني إلى دول العالم الثالث، خصوصاً التي تواجه مشكلات اقتصادية وليس فقط التي لديها موارد طبيعية نفطية تحتاجها الصين.

السادس: التفاعل المجتمعي الصيني بين الأقاليم الصينية وخصوصاً أقاليم الوسط والشمال الغربي والغرب، فالنهضة الصينية الحديثة قامت في الشرق، وخصوصاً المناطق الساحلية الكثيفة السكان، ولكن الغرب والشمال الغربي مهم للصين من الناحية الإستراتيجية، لتداخله مع دول آسيا الوسطى ودول الهند الصينية. فالصين تجاور أكثر من 16 دولة، ولديها موانئ على بحرَي الصين الشرقي والجنوبي، ولابد أن تشمل الرؤية الاستراتيجية أو الحلم الصيني، سياسات تفاعل وتكامل بين كافة مناطق الصين بما يجعل الجميع يشعر بالانتماء إلى دولة واحدة.

السابع: تطور فلسفة الحزب الشيوعي الصيني الذي هو ركيزة التقدم والنهضة في الصين، وهو أداة الانجاز الذي تحقّق، ومن ثم فمن الضروري استمراره مع تطوير أدائه وكوادره وفلسفته وإجراء انفتاح سياسي مجتمعي تدريجي، بحيث يسمح بمشاركة مختلف الأفراد والقوميات والأقاليم بصورة أكثر فاعلية في اتخاذ القرار، وفي تقاسم عوائد الثروة والنهضة.

الثامن: تطور ممارسات السياسة الخارجية لكي تكون أكثر ديناميكيةً وتتخلى عن الطابع التقليدي، ونأخذ في الاعتبار ثلاثة متغيرات في هذا المجال، وهي:

الأول: متغيرات الدولية فنحن لسنا في عهد الاستقطاب الدولي، ولم نصل بعد للتعددية التي هي في بدايتها؛ والثاني: المتغيرات الإقليمية في المناطق الإقليمية وخصوصاً الشرق الأوسط، لم يعد حكراً على السياسة الأميركية أو الغربية، والاتحاد الروسي عاد إليه بقوة ونشاط وفاعلية في الأزمة السورية وفي البرنامج النووي الإيراني وفي العراق، وأخيراً في الموقف تجاه ثورة 30 يونيو 2013 في مصر؛ والثالث: استعادة الذاكرة الوطنية في السياسة الخارجية، إذ أن مصر عبدالناصر المناهضة للاستعمار والرافضة لحصار الصين في الخمسينات لم تعباً بالضغوط الأميركية، واعترفت بالنظام الشيوعي في الصين وأقامت علاقات دبلوماسية رسمية في 30 مايو 1956، وماوتسي تونج وشوان لاي لم يتردّدا في مساندة مصر اقتصادياً وسياسياً ضد العدوان الثلاثي.

كما لم يتردد شوان لاي في زيارة مصر عدة مرات واتخاذها بوابة رئيسة للتعامل مع أفريقيا والعالم العربي، وبذلك أرسى تقليداً بزيارتها لكل رئيس دولة وكل رئيس وزراء، فضلاً عن زيارة وزير الخارجية الصيني للقاهرة في كل جولة له في أفريقيا. بل إن الدبلوماسية المصرية نصحت الرئيس السابق محمد مرسي بزيارة الصين، ولذلك كانت أول جولة خارجية له إلى الصين، ولكن الصين لم تبادل مصر نفس المستوى أو التقليد في زيارات كبار المسئولين الصينيين للقارة الإفريقية أو للدول الأوروبية، وهنا واجب وزارة الخارجية الصينية أن تنبه لأهمية مصر وعلاقاتها التاريخية مع الصين، وتوضح ضرورة مساندة مصر في أوضاعها الراهنة. فالصديق هو من يقف إلى جوار صديقه في الأزمات، وتعرف الدول وقاداتها بموقفهم الجريئة مع الحق أو العدل، وخصوصاً أن مصالح مصر والصين، بعيدة المدى هي في محاربة الإرهاب الذي تتعرض له مصر بصورة غير مسبوقة، وهو إرهابٌ للأسف يختبئ وراء الفكر الديني. ولا ينبغي أن ننسى أن منظمة تعاون شنغهاي عندما تم إنشاؤها في أبريل/ نيسان 1996 كان الهدف الرئيس لها هو مقارنة الإرهاب القادم من دول من آسيا الوسطى.

تلك أبرز نقاط رؤيتي للحلم الصيني وكيفية تطوره إلى واقع حقيقي، وهو بالفعل في طريقه لذلك، فهو ليس حلماً افتراضياً في الفضاء الالكتروني، وإنما هو حلم في طريقه للتحول إلى إنجاز حقيقي كما عبّر عنه الرئيس الصيني في كلمات مختصرة، ولكنها ذات دلالة بالغة بقوله «إعادة إحياء الأمة الصينية، وتحسين مستوى معيشة الشعب من خلال الازدهار والبناء لمجتمع أحسن، وتقوية القوة العسكرية».

الحلم الصيني هو رؤية إستراتيجية تعتمد على خطة تم وضعها من خلال الحزب فيما يعرف بالسنووبتن، أي ذكرى مرور مئة عام على إنشاء الحزب الشيوعي بحلول العام 2021، وذكرى مرور مئة عام على قيام جمهورية الصين الشعبية بحلول العام 2049. فالذكرى الأولى تكون لصين دولة متوسطة من حيث الرفاه الاقتصادي ومستوى معيشة الفرد، وفي الذكرى الثانية تكون الصين دولة متقدمة تماماً.

باختصار... الحلم الصيني هو رؤيةٌ تعتمد على خطة قابلة بل بدأ وضعها بالفعل موضع التنفيذ. إنه ليس حلماً في الفضاء الالكتروني ولكن ينتقل هذا الفضاء الالكتروني إلى الواقع العملي المعاش، متخطياً كافة العقبات ومتجاوباً مع مختلف التحديات، ومحققاً الكثير من الآمال والتطلعات.

وفي الختام نقول إن المنظور الحضاري يتجلى في ثلاثة أمور: أولها الاستناد لمفهوم التراث الصيني القديم، وثانيها استلهامه من التراث العالمي الديني خصوصاً الشرق أوسطي، والأدبي الأوروبي، وثالثها تطلعه إلى المستقبل كأساس لبناء الحضارة الجديدة في العالم المعاصر.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4146 - الأحد 12 يناير 2014م الموافق 11 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً