العدد 4172 - الجمعة 07 فبراير 2014م الموافق 07 ربيع الثاني 1435هـ

دُكّان الحَي

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

عندما كنتُ صغيراً كُنت أذهب لصلاة العصر في المسجد مع أخي بدر، ثم نجلس مع أصدقائنا أمام دُكّان الحي الصغير.

نذهب وفي جيوبنا دراهم قليلة، ولكننا لم نفكّر يوماً أنها قد لا تكفينا. ندخل الدكان، الذي لا يتجاوز حجمه خمسة أمتار في أربعة، فتُبسط الأرض أمامنا وكأننا في إحدى المراكز التجارية العملاقة. كان صاحب الدكان (نعمةُ الله) يسألنا إن صلينا أم لا، وعندما يتأكّد من أننا فعلنا ذلك، يعود لمراجعة حساباته ويترك أحد إخوته لاستلام النقود منا.

نذهب للعب الكرة في الملعب الرملي حتى أذان المغرب، فنهرع عندها للوضوء وندخل للصلاة، وعندما نخرج، يكون أحد كبار السن في انتظارنا على عتبات المسجد، فَيُوبّخنا لأننا نؤذي المصلين برائحة العرق، وينهانا عن العودة إلى المسجد بهذه الحال. ثم نعاود الكَرّة في اليوم التالي.

نركب دراجاتنا الهوائية وندور في الحيّ حتى أذان العشاء، وبعد الصلاة يتجه كل واحد منا إلى بيته.

لم تكن الهواتف النقّالة موجودةً حينها، بل إننا قلّما لبسنا ساعات حول معاصِمنا، وكان الأذان يُحدد مواعيد يومنا بدقة.

أذكر أننا اشترينا مرةً كميةً كبيرةً من المبيدات الحشرية من الدكان، ولكي لا يشكّ (نعمة الله) في الأمر؛ قرّرنا ألا نشتريها في يوم واحد، وفي الحقيقة فإننا لم نكن نمتلك قيمة البضاعة؛ فكنا نقتصد في الصرف كل يوم حتى تتجمع لدينا الكمية المطلوبة. وفي اليوم المشهود، أشعلنا ناراً كبيرة في الساحة الرملية المجاورة للدكان، ثم قمنا برمي علب المبيدات في النار رمية رجل واحد، وما هي إلا ثوانٍ حتى تطايرت العُلب كالصواريخ مصيبةً جدران المنازل المجاورة.

خرج (نعمة الله) وجارنا الطيب حسين البصري (بو علي) على أصوات الانفجارات. هرع الجميع لإطفاء النار، وبعد دقائق وصلت سيارة الشرطة.

ترجّل الشرطي وذهب ناحية (نعمة الله) وسأله بخشونة إن رأى من افتعل تلك الفوضى؟ نظر (نعمة الله) إلى (بو علي) ثم إلى الشرطي وقال له إن أولاداً من الحي المجاور فعلوا ذلك. رأى (بو علي) الارتباك على وجوهنا فأكد للشرطي ما قاله (نعمة الله). وبعد أن انصرفت الشرطة، جلسنا أمام الدكان وسمعنا محاضرة من (نعمة الله) الذي أقسم ألا يبيعنا شيئاً مرة أخرى، ثم اضطر في اليوم التالي إلى إخراج كفارة يمين.

وفي أحد الأيام كنتُ أرسم باللون الأزرق على جدار بيت (بو علي) أشكالاً تشبه أصدقائي، وأكتب اسم كل واحد منهم تحت صورته الكاريكاتيرية. نظرتُ خلفي وإذا (بو علي) يبتسم ويقول: «ما شاء الله ما شاء الله رسمك جميل. أكمل يا حبيبي ولا تهتم بالجدار، كنتُ على وشك طلائه على كل حال»، ثم انصرف وضحكته تدويّ في أذني.

وكنت أجلس أحياناً، بعد صلاة العصر، مع كبار السن على الكراسي الخشبية التي كانت توضع في فناء المسجد.

كانوا يتحدثون عن كل شيء بطرافة، حتى أمراضهم، كانت فرصة للتهكم والتعليقات المضحكة. وكانوا يخبروني عن أجدادي، وأحياناً يخترعون قصصاً عن جدي حتى إذا ما ذهبت لإخباره غضب منهم ونهرهم بعد صلاة العشاء. كنت أكبر في تلك الجلسات عشرات السنين، ثم أعود طفلاً مرةً أخرى في الصباح.

في يوم ما مات أخو أحد أصدقائنا، وعندما وصله الخبر، خرج من بيته مسرعاً على دراجته الهوائية وعندما وصل إلى الدكان رمى بها وجلس يبكي على الرصيف ونحن حوله.

أتى أخوه الكبير ليأخذه ولكنه رفض العودة معه. وفي المساء، عاد لطبيعته وبدأ يمرح معنا، بعد أن قرّرنا التكفّل بشراء كل ما يريد من الدكان في ذلك اليوم؛ مواساةً له.

لم تكن أمهاتنا يبحثن عنا، وإذا أردوا التواصل معنا أرسلوا أحداً إلى الدكان فيجدنا هناك. ولم يكن الناس في عجلةٍ من أمرهم، كان كل شيء يأخذ وقته: الأكل، الاستعداد للمدرسة، قيادة السيارة، التحدث في الهاتف، شرب الشاي العصر، الصلاة، الحديث، الضحك... كان الناس يستمتعون بالجلوس مع بعضهم البعض، ولم تكن الصداقة الحقة عملةً نادرة، بل كانت فائضاً اجتماعياً.

كانت المحبة تنزل على قلوب الناس كأمطار الشتاء الكثيفة، وكان الحيّ أسرةً واحدةً كبيرة، يتداعى فيه أفراده لوجع أحدهم، ويفرحون لفرحه. ذهب الحي وحل محلّه «الآيباد»، وجاء «آبل ستور» مكان دكّان الحي، وصرنا لا نأمن على أطفالنا الخروج وحدهم في الحي.

أعترف لكم الآن: لا أحب هاتفي النقال، ولا أحب تلفازي الكبير، ولا أحب الكمبيوتر والإنترنت و«تويتر» و«إنستغرام». لا أحب المال، ولا الشهرة. لا أحب الشوارع الكبيرة، ولا المراكز التجارية العملاقة، ولا المحلات الفارهة. أحب فقط أن أعود بسيطاً، أخرج من بيتي دون أن أفكّر في اجتماعي القادم.

أحب أن أجلس مع أسرتي دون أن أفتح «الآيباد» لأرى من صرّح بماذا. أريد ألا أخاف من خروجي من المنزل دون هاتف. وأحب، أكثَر ما أُحب، أن أجلس مع أصدقائي مرةً أخيرةً عند ذلك الدكّان، علّ الزّمان يعود، أو نعود لذاك الزمان.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4172 - الجمعة 07 فبراير 2014م الموافق 07 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 4:55 م

      اي

      اي والله صح لسانك، كانت ايام جميلة

    • زائر 6 | 4:57 ص

      اخي

      هذوله الاماراتين الطيبين مو اللي طرشوهم الي البحرين ايام الازمه الله يكثر من امثالكم ياشعوب الخليج الطيبه

    • زائر 5 | 4:15 ص

      Abbas

      مقال رائع وفيه الكثير من الحنين ..... وصفك لمشاعرك غير متكلف ...

    • زائر 4 | 3:38 ص

      سلمت يمناك

      دائماً اتحسر على أيامنا اللي فاتت نتمنى صج لا فيه واتس أب ولا نت وتعيش أيامنا الحلوه وننام ولا نحاتي شنو باجر ونتغدى ولا ننحاتي ورأيا مواعيد واجتماعات سلمت يمناك عالمقال الرائع

    • زائر 3 | 3:12 ص

      الله

      الله اتمنى ترجع تلك الايام البسيطة الجميلة ايام الآباء والاجداد

    • زائر 2 | 1:31 ص

      تسلم إيدك

      الله مقاااالك أكثر من رائع فيه رائحة الزمن الجميل ... أتمنى لو أعيش للحظة في هذا الزمن البسيط الذي تفوح منه روائح الطيبه و الأخلاق الرائعه .. و الشعور بفرحة العيد و حلاوته

    • زائر 1 | 1:09 ص

      مقاااال جميل جداً

      مقاااال جميل جداً...جعلتني أعيش معك تلك اللحظات الجميلة

اقرأ ايضاً