العدد 4360 - الخميس 14 أغسطس 2014م الموافق 18 شوال 1435هـ

فوات الأوان في حياة العرب

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

لا أعرف إن كان قدر الإنسانية أن تعيش إلى الأبد عبثية ما ردّده بطل الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته الشهيرة «السقوط»، من أن الإنسان لا يدرك أهمية الأمور الحياتية «إلا بعد فوات الأوان».

دعني أسرد مثلين على هذه الظاهرة الوجودية، إذ أن فوات الأوان ليس في جوهره إلا ضياع الفرص.

كمثل أول أتذكّر أنه عندما كنا طلاباً في كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت تجرّأت مع بعض زملائي على طرح السؤال التالي على بعض من أساتذتنا: إنكم تردّدون علينا بأن مهمة الطبيب ليست فقط علاج الأمراض التي يصاب بها جسد المريض، وإنّما مهمته هي الرعاية الصحية الشاملة لشخص المريض التي تشمل الجوانب الجسدية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والروحية في ماضي المريض وحاضره. ولكن، يا أساتذتنا الأفاضل، هل أن مناهج تدريس الطب تأخذ بعين الاعتبار تلك المقولة، فتعدّ طبيب المستقبل الإعداد الشامل اللازم لكي يقوم بتلك المهمّة التي ترعى الإنسان وليس مرضه وجسده فقط؟

وكنا نضيف: أليس من المفروض أن يتعلّم طبيب المستقبل، إضافةً إلى العلوم الطبيعية والبيولوجية والدوائية والتكنولوجية، العلوم الإنسانية من مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والآداب والفنون؟ أليست العلوم الإنسانية ضروريةً إذا كنا نريد من الطبيب فهم ومواجهة كل العوامل التي تحيط بالإنسان المريض من شخصية وعائلية ومجتمعية وبيئية واقتصادية وحتى سياسية؟ ثم ماذا عن الأشواق الروحية ومواجهة أزماتها؟

تلك كانت آنذاك أسئلة تلاميذية فردية، طرحها الكثيرون في أنحاء العالم بصوت منخفض تجاهلتها كليات الطب في العالم كلّه، على أساس أن الاستجابة لها ستعني ثقلاً إضافياً لمنهج تعليمي طبي كان في الواقع مثقلاً بالكثير من الغثّ في تفاصيله واهتماماته.

لقد مرّت العقود تلو العقود حتى فوجئت مؤخراً، بغبطة وفرح، بقراءة خبر مؤدّاه أن كلية الطب في جامعتنا العتيدة المتميّزة بحق، قد قرّرت أخيراً إضافة مقرر جديد للمناهج التي يدرسها طلاب الطب، وذلك تحت مسمّى «الأطباء والمرضى والمجتمع»، والذي يحتوي على مواضيع في الأدب والفن وتاريخ الطب والتعرف على الجوانب الإنسانية من مشاعر ومخاوف وقلق عند المرضى وهم يواجهون رحلة العلاج والرعاية في المؤسسات الطبية.

والهدف؟ تخريج طبيب يرعى مريضه بشمولية من خلال فهمه لتعقيدات الحالة الإنسانية، وذلك من خلال استعمال أدوات التحليل والنقد والتفكيك والاستقراء المستقبلي التي تستعمل في تدريس العلوم الإنسانية بصورة مكثّفة.

قرار الجامعة جميل ومرحّب به، ومع ذلك دعنا نطرح السؤال التالي: لماذا سمحت جهات كثيرة في العالم كلّه بمرور العقود من السنين، قبل أن تستجيب لأسئلة واضحة وموضوعية طُرحت من قبل؟

دعنا أيضاً نعذّب أنفسنا، كما تعذّب ضمير بطل رواية السقوط، ونسأل عن أعداد المرضى الذين تآذت أجسادهم ونفسياتهم وحياتهم بسبب عدم التعامل معهم بمنهجية الرعاية الصحية الإنسانية الشاملة، وذلك بسبب عدم إعداد أجيالٍ من الأطباء الإعداد المطلوب للقيام بتلك الرعاية؟ ليس في ذلك اتهامٌ أو لومٌ أو تأنيبٌ لأجيال من أساتذة الطب العظام المخلصين، ولكنه تذكير بفداحة ومأساة السلوك البشري الذي أشار إليه ألبير كامو، والذي كثيراً ما ينتظر ويتقدّم خطوةً ثم يتراجع خطوات إلى أن يرى بأم عينه نتائج فوات الأوان وضياع الفرص، وعند ذاك يستفيق، ولكن بعد فواجع تراجيديات فوات الأوان.

ثاني الأمثلة سأذكره باختصار لمحدودية مساحة المقال، ولكن قد أعود إليه مستقبلاً، وهو أيضاً مطروح كسؤال: أليست مهمة النظام التعليمي والتعلّمي تخريج طلبة قادرين على فهم ما يجري من حولهم، في عوالمهم الخاصة والعامة، بموضوعية وعمق وحساسية إنسانية، حتى يساهموا مع غيرهم في مكافحة الظلم والفساد وإعلاء شأن مبادئ الحرية والمساواة والعدالة؟

إذا كان الجواب بإيجاب فإن المنطق يقتضي تدريس الطلاب مقررات تعوّدهم على الاستعمال الكفؤ في حياتهم اليومية لمنهجيات التحليل والنقد والتفكيك والتجميع؛ منهجيات الشكّ الإبداعي في سبيل الوصول إلى أو الاقتراب على الأقل من الحقيقة؛ منهجيات عدم قبول أي فكر أو إيديولوجيا أو معلومات دون تسليط أضواء العقل عليها لمعرفة خباياها وأقنعتها.

وفي هذه الحالة، أليس تدريس المناهج الفلسفية هو الطريق الأفضل لتسليح الطلاب بتلك القدرات التحليلية والنقدية والتفكيكية والتجمعية التي نتحدث عنها؟ أليس من حق أجيال العرب علينا أن نخرج من معارك الماضي العبثية حول الفلسفة التي فجّرها الإمام الغزالي وردّ عليها الفيلسوف ابن رشد، وننتقل دون خوف طفولي مصطنع على الدين والأشواق الروحية، إلى تدريس نظرية المعرفة (علم الايبستمولوجي) التي أصبحت جزءاً من الكثير من مناهج العالم، والتي تعلّم الطلاب كيفية التعامل العقلاني مع المعرفة والمعارف من أجل الوصول إلى الحقيقة؟

وحتى لا يغمزني أحدهم فيسأل: لماذا لم تقم بذلك عندما كنت وزيراً للتربية؟ فأجيبه بأنني ما أن انتهيت مع رفاق الدرب من إعداد المعلمين إعداداً مهنياً تثقيفياً، ومن التوجّه نحو دمقرطة الحقل التعليمي، حتى بدأت بالفعل الإعداد لطرح هذا الموضوع، لكنّ الأقدار أبعدتني عن حقل التربية.

دعنا نعود إلى بطل رواية «السقوط» وصرخة فوات الأوان ونسأل: لو أن النظام التربوي العربي درّس المناهج الفلسفية، وليس تاريخها أو حتى استنتاجاتها، عبر العقود الكثيرة الماضية، فهل كان الجيل العربي الحالي سيقع ضحية الإعلام المضلّل الكاذب والسفسطات الطائفية السنية – الشيعية والإيديولوجيات السياسية البليدة؟ هل كان سيكون مكان لـ «داعش» و»النصرة» في أرض العرب؟

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4360 - الخميس 14 أغسطس 2014م الموافق 18 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 3:56 م

      الأعراب أشد كفرا ونفاق

      أبوكم ابو لهب يا أمة العرب وامكم معروفة حمالة الحطب...... الشاعر غازي الحداد.

    • زائر 12 | 3:55 ص

      اساليب متخلفه

      اولا يعاملوا تلاميذ المدارس باسلوب راقي ولائق بالتربويين لان نسمع من ابنائنا كلمات غير مهذبه من المدرسين وبعدها نرتقي لسلم اخر

    • زائر 11 | 3:26 ص

      يامحلى

      يامحلى كلامكم ياكتاب الوسط دائما تتكلمون بالحقيقة وتنورون الناس ولاعندكم تفرقة لاكن تعال الى كتاب الجرايد تبع الحكومة كله مواضيعهم طائفيه وسب فى العلماء الافاضل وبث الفتن انهم لايملون من ظلمهم لاجل مصلحتهم المشتكى لله

    • زائر 10 | 3:03 ص

      دكتورنا الفاضل

      هذه القراءات التي تستحق الوقوف عندها وتأملها انتم في الوسط تثرون القارئ وتعملون عل تفعيل دور عقله لا عاطفته بينما هناك في صحف من يقفون حجرا عثرة عل مثل مقترحاتك يفعلون العاطفة ويؤججون الفتن وهم جزء من عدم تنفيذ ما تقوله يا دكتور .

    • زائر 9 | 1:30 ص

      ونعم الوزير

      تعال وعاين حال وزارة التربية الآن يادكتورنا العزيز.

    • زائر 8 | 1:26 ص

      شكرا لك استاذنا العزيز على هذا المقال الاكثر من رائع

      ولكن اسمح لتلميذك ان يغلق على مقالك بان ليس من صالح الانظمة الدكتاتورية والمتعطشة الى سفك الدم الحرام من اجل نهب ثروات الاوطان والشعوب والتفرد في صنع القرار ان تدرج في مناهجها التعليمية مقررات الفلسفة والمنطق. بامكانهم ان يدرسون مناهج العبودية والركوع والاستجداء من اصحاب الايادي البضاء(السوداء)الذين لو لاهم وكما تصرح البطانة الفاسدة لاضحت الشعوب في خبر(كان)
      وقد قالو بان من يفضل الأمن على الحرية فهو لايستحق الإثنان ولا امان بدون حرية

    • زائر 7 | 1:16 ص

      اذ طبق ماقلته يالها من ؟

      عزيزي الكاتب الحكام اول معترض على هذا الشي , اذا الشعب فكر بعقله يعني الكراسي تطير ؟! المطلوب هو جعل الشعب تبع وراء كل ناعق , ارجع للامس شوف تصريح عقيد في وزارة الداخليه عن سيارات داعش ؟! وفكر انت في الموضوع شنو المراد من هذا الشعب وماهي عقلانبة الداخليه! هل هو استحمار سياسي ! ام تخرف سياسي !

    • زائر 6 | 1:00 ص

      أمّة التخلّف ستبقى متخلّفة

      طالما ان من يقيدون المجتمعات العربية قد سخّروا كل موارد البلدان العربية في برامج تجهيليه فلن يتغير حالنا .
      دول تسخّر مئات المليارات من عوائد النفط لبرامج تجعل من شعوبها قطيع من الاغنام فماذا نتوقع؟

    • زائر 5 | 11:20 م

      نائب سابق

      مثلك يا دكتور علي فليكتب وليخاطب العقول.

    • زائر 4 | 11:04 م

      لك التحية

      استمتع بقراءة مقالاتك و اثاراتك الفكرية و الفلسفية و لك مني التحية
      أحمد

    • زائر 3 | 11:00 م

      شكرا شكرا


      افكار تستحق التوقف والبحث وهدا ما يجب ان بنشغل به القائمون
      على التربية لكن انى لهم دلك وهم منشغلون بغير دلك ولهم العدر لانهم كلفوا بما لاطاقة لهم به

    • زائر 2 | 10:23 م

      ابعدتك الأقدار لا يا أستاذ

      لايريدون إنساس صادق بمعنى الكلمة مثلك .

    • زائر 1 | 10:16 م

      الأعذار كثيرة

      تجد في مجتمعاتنا ثقافة اتهام الغير بالتقصير و تبرأة النفس امرا عاديا. لا تجد مسؤولا يقف و يعترف بتقصيره و الاعتراف بالخطأ و تقديم استقالته. لكن من السهل لوم الغير و نقده. الي ان تتغير هذه الثقافة او طريقة التفكير لا يتغير الوضع. لا امل في التطوير. ينسي المسؤول كم كان ديكتاتوريا و نفعيا و هو في المنصب. لكنه أستاذ في النقد و لم يتقبل اي نقد و هو في السلطة.

اقرأ ايضاً