العدد 4374 - الخميس 28 أغسطس 2014م الموافق 03 ذي القعدة 1435هـ

وداعاً منتصب القامة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

في التاسع عشر من هذا الشهر، أغسطس/ آب 2014، وبعد مرض عضال، استمر لأكثر من ثلاث سنوات، رحل آخر عمالقة الشعر الفلسطيني المقاوم، المناضل سميح القاسم، بعد أن قدّم للمكتبة العربية زاداً وفيراً، تجاوز السبعين كتاباً، متناولاً الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، صدرتْ في سبعة مجلّدات عن دور نشر عدة في القدس وبيروت والقاهرة، إضافةً إلى نشاطاته الصحافية المتميزة.

أسهم الفقيد في تحرير جريدتي «الغد» و»الاتحاد»، كما شغل رئاسة تحرير جريدة «هذا العالم» العام 1966 وعمل أميناً عاماً لتحرير مجلة «الجديد»، ثم رئيساً لتحريرها. وأدار فيما بعد «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا. وأصبح في سنواته الأخيرة رئيس تحرير فخرياً لصحيفة «كل العرب»، التي تصدر في الناصرة. وترأس اتحاد الكتاب العرب، والاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين.

تُرجِمتَ قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية ولغات أخرى.

برحيله تنتهي حقبة مثلها ثلاثة شعراء عمالقة، هم محمود درويش، وتوفيق زياد، والفقيد الراحل سميح القاسم. وقد جمع فيما بين هؤلاء الثلاثة، أنهم معاصرون، بمعنى الحضور ومعنى الأداء، وقد غنوا جميعاً للأرض والمقاومة. عاش زياد والقاسم في القلب من الأرض المحتلة، في صفد والناصرة، بينما شهد درويش حياة المنافي والترحال.

ارتبط سميح القاسم، بالحزب الشيوعي «الإسرائيلي»، كما ارتبط درويش وزياد، ولكن ذلك لم يمثل حاجزاً، يحول دون تأييده للنضال الفلسطيني، ولحركة المقاومة واستراتيجية الكفاح المسلح، التي تبنتها حركة فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما لم يحل انتماؤه الأممي، دون اعتداده بانتمائه القومي العربي. وكان انتماؤه، كما وصفه في آخر لقاء له بفضائية «الميادين»، توليفة، من انتماء إنساني أممي، وانتماء قومي عروبي، وانتماء وطني خالص لفلسطين.

إن الفقيد لا يتردد في التعبير بصراحة، عن أن له وطنين: وطن صغير يمتد من النهر إلى البحر، هو فلسطين، ووطن آخر يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، هو الأمة العربية. إنه بهذا التوصيف، يحذر من الوقوع في شرك تصنيف شعراء المقاومة، بناء على ارتباطهم بحزب «راكاح». في هذا السياق، يشير إلى أن الفلسطينيين، واجهوا قمعاً وحشياً، وحرماناً من التعبير عن أنفسهم، كما حجب عنهم حق تأسيس المنظمات والأحزاب السياسية.

إن حزب «راكاح»، كان الوحيد بين الأحزاب الإسرائيلية، الذي يحمل توجهاً سياسياً معادياً للعقيدة الصهيونية، وللحركة التي تمثلها. لذلك كان المنبر الوحيد المتاح للناشطين الفلسطينيين، للتعبير عن آرائهم السياسية. وعلى هذا الأساس، فإن الانتماء لـ «راكاح» لم يكن انتماء أيديولوجيا، بل كان سياسياً، من وجهة نظر فقيدنا الراحل، وبقية شعراء المقاومة الذين ارتبطوا بهذا الحزب.

وهكذا بقيت حالة الانفصام، بين الارتباط بحزب إسرائيلي هو «حزب راكاح»، وبين النضال من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين، وتجسيد ذلك في تأييد الكفاح المسلح الذي قادته حركة «فتح» منذ نهاية الخمسينيات، من القرن الماضي، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وتعزّز ذلك بانتماء أعلى، هو الانتماء للأمة العربية، والإيمان بحقها في الوحدة والتقدم والنهوض.

ظل سميح القاسم يغنّي بإباءٍ وكبرياءٍ للأرض، ورفع صوته عالياً مناضلاً من أجل التحرير، منتصب القامة، مرفوع الهامة، وبيده قصفة من الزيتون، حاملاً نعشه على كتفه. وكان طبيعياً أمام هذا العناد والإصرار، على المضي في طريق الكفاح، أن يتعرّض الفقيد القاسم، للتضييق عليه من قبل قوات الاحتلال، وأن يعتقل أكثر من مرة، وأن يوضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي. وكان مصيره أيضاً، الطرد من عمله عدة مرات، بسبب إبداعه الشعري المقاوم، ونشاطه السياسي، وأن يواجه أكثر مِن تهديد بالقتل.

عكس شعر سميح القاسم، التوليفة التي فصلها بآفاقها الإنسانية والقومية والوطنية، مجسّداً في نصوصه، ثنائية من الكبرياء: إباء النفس، وكبرياء النص، بحسب توصيف أقرانه.

عاش سميح القاسم في الداخل الفلسطيني جلّ حياته، فبعد مولده بمدينة الزرقاء الأردنية، انتقل إلى بلدة، «الرامة» الفلسطينية في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية والثانوية في مدينة الناصرة، وبدأ حياته معلماً ومناضلاً سياسياً. لم يغادر موطنه الفلسطيني إلا نادراً، ولأسباب تتعلق بالمشاركة في بعض المهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية في بلدان عربية وأوروبية.

نعاه رئيس حكومة الوحدة الفلسطينية، رامي الحمد الله، واصفاً إياه بأنه من أعظم الشعراء لأعظم وأعدل قضية، قضية فلسطين، قرن القول بالعمل، وربط الإبداع بالممارسة، فهو المناضل من أجل الحقوق الوطنية، والمناضل من أجل المساواة، والمناضل من أجل حقوق شعبه، حق تقرير المصير، وحق العودة، وحق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

إنه كما وصفه الحمد الله، الشاعر الكبير، والوطني الصادق، وأحد رجالات فلسطين الأبرار. إن إبداعه لم يرحل، وسيرته ومسيرته وحياته الحافلة بالكفاح والنضال والتحدي لم ترحل، وأدبه سيبقى خالداً، كما أدب إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، وتوفيق زيّاد، ومعين بسيسو، وهارون هاشم رشيد، وعشرات المبدعين، الذين بقيت عطاءاتهم، في القلب من المشروع الوطني الفلسطيني، تضيء الدرب، ويستلهم منها القوة والعزيمة.

كافح سميح القاسم ضد المرض طويلاً، وأعلن أنه لا يحب الموت ولكنه لا يخافه، وأخيراً رحل عنا بجسده، وبقي بعطائه وإبداعه والتزامه، منتصب القامة. تغمد الله روح الفقيد برحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم محبيه وذويه وأصدقاءه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4374 - الخميس 28 أغسطس 2014م الموافق 03 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً