العدد 4381 - الخميس 04 سبتمبر 2014م الموافق 10 ذي القعدة 1435هـ

عبدالرحمن النعيمي... شخصية ليست للنسيان

عبدالله مطيويع comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الرثاء صعب في جميع الحالات، مهما كان لديك من مخزون من الكلمات والتعابير، فكيف إن كنت ترثي من ارتبطت حياتك بهم في السراء والضراء، والضراء أكثر، ومن ارتبطت معهم بتجربة نضالية متصلة لم تنقطع، وواجهت خطر المطاردات والتخفي ومحطات مفصلية في تاريخ النضال منذ حركة القوميين العرب حتى «وعد» الواعدة.

إنه المناضل عبدالرحمن محمد النعيمي، الذي صادف ذكرى رحيله عنا جسداً، إلا أن روحه وقيمه ومبادئه لازالت حارة، نستحضرها حين تشتد الأزمات، وحين تعود نوبات الألم التي لم تفارق وطننا وشعبنا منذ عشرات السنين.

عبدالرحمن النعيمي تجربة لازالت أرضها خصبة للبحث والتنقيب واستخراج ما بها من قيم ومبادئ من خلال مراحل حياته التي لم يعرف فيها الراحة يوماً، ولم يعرف الكلل والملل، من الخامسة صباحاً حتى وقت متأخر من الليل، وكيف يرتاح وقد حمل على عاتقه هم أوطان وشعوب، وطنه وشعبه الأم البحرين؛ وطنه وشعبه الخليجي؛ ووطنه وشعبه العربي وفلسطين في المقدمة.

شخصية المناضل النعيمي أو «سعيد سيف»، (اسمه الحركي)، بقدر حزمها وانضباطها الحزبي، إلا أنها كانت تحمل بين طياتها روحاً مرحة، مقبلة ومنفتحة على الحياة بقدر جسارته وإقدامه على مواجهة أخطار العمل السياسي والنضالي في هذه البقعة من العالم.

لا يركن ولا يستسلم، حتى في أحلك الظروف، كان يؤجل المحاسبة وكثيراً ينسى أو يسامح من بدر منه التقصير أو عدم الاحتراز وهو يكلف بمهمة حزبية سرية، ويقبل على معالجة الأخطاء والتقصير، فالتفكير في كيفية حل المشكلة أفضل من محاسبة المتسبب فيها، لاسيما في ظلّ العمل السياسي السري... ليستمر العمل، فلا وقت لليأس والأسف وجلد الذات وتوزيع الاتهامات على المقصرين والمتهاونين وغير الحذرين، وأحياناً بعض المتهورين الذين يكونون سبباً في ذلك. جلسة واحدة فقط، عاصفة من النقد والنقد الذاتي، يلملم الجراح ويشد العزائم ويقول هيا نمضي إلى الأمام ويكرّر دائماً: (الضربة اللي ما تذبحك تقويك).

في التسامح لم أرَ إنساناً قيادياً متسامحاً بقدره، حتى مع من أخطأوا في حقه بالقول والسلوك، وقد سامح حتى من وشى به حينما كان في أبوظبي، فدلّهم هذا النفر على بيته في أبوظبي، وأرشدهم إليه فقبضوا عليه، ولم يخرج من السجن إلا بعد تدخل الأعراف القبلية السائدة آنذاك، وسماحة ورجاحة عقل ذلك الحكيم البسيط الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

بعد أن قبض عليه في أبوظبي وفي حوزته أوراق ممنوعة، ذهب والد النعيمي، المرحوم محمد النعيمي إلى مجلس الشيخ زايد، وحين دارت القهوة ووصل «صبّاب القهوة» إليه، لم يمد يده لتناول الفنجان، فانتبه الشيخ زايد للمشهد، وقال له: اشرب قهوتك يا محمد. فردّ قائلاً: ما أشربها إلا إذا وعدتني بأن ما أتيت من أجله يصير ويتم. فردّ الشيخ زايد: إشرب قهوتك، فأنا أعرف ما في خاطرك، ولكن أتعرف ماذا وجد لدى ابنك في البيت. ردّ الوالد: نعم، عنده سلاح، وكلنا عندنا سلاح. فقال له الشيخ زايد: عاد ندري حق شنو السلاح إلى عنده. فرد الوالد: العالم الله. ربت الشيخ زايد على كتف محمد النعيمي، وقال: بعد شهر ولدك عندك، إشرب قهوتك.

وقد استشاط رئيس الاستخبارات الإنجليزي من قرار ووعد الشيخ زايد، وحذّره من مغبة إطلاق سراح عبدالرحمن النعيمي، وقال: هذا الرجل لن يوقف نشاطه ونحن على علم بما يدور في رأسه. إلا أن الشيخ زايد كان باراً بوعده، فأطلق سراح النعيمي بعد شهر، ولكن تم إبعاده من أبوظبي بل والإمارات جميعها.

ومن المثير أن يعود النعيمي بقرار من الحركة الثورية إلى الإمارات بعد مؤتمرها في العام 1968، ليكون مسئولاً عن قيادة فروع الحركة في عمان والخليج العربي، ويكون المقر دبي، في بيت منعزل في منطقة اسمها «سطوة». منزل من طابق واحد أرضي وحجرتين ومطبخ، وفي الفناء (الحوش) حوض اسمنتي به صنبور ماء، وحجرة مخصّصة لمبيت العابرين إلى عمان الداخل أو القادمين من عمان الداخل أو التواصل مع كوادر الجبهة في البحرين، على اعتبار الأسماء آنذاك عمان الداخل وعمان الساحل، قبل أن يصبح عمان الساحل والإمارات العربية المتحدة في السبعينيات. في الغرفة الثانية كان يشغلها عبدالرحمن النعيمي، وكان بها آلة طابعة وماكينة الاستانسل والورق وحمام صغير.

لقد عاصرت المناضل النعيمي في هذا المنزل لفترة، ومن المواقف التي حصلت معي في هذا المنزل، كان حين يطبع منشورات وبيانات الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي على الآلة الكاتبة. كان يشعل موقد النار (الجولة)، وسألته ذات مرة: رفيق سعيد، لماذا تشعل الموقد قبل كل مرة تطبع فيها المنشورات، فالتفت إلى بنظرة فيها ابتسامة ساخرة كأنه يقول: «أشعل الموقد كي يغطي على صوت الآلة الكاتبة».

بعد أيام من احتلال الجيش الإيراني للجزر العربية أبوموسى، وطنب الكبرى والصغرى، وقتل أحد الجنود الإماراتيين، كتب النعيمي بياناً مطولاً عن الاحتلال الإيراني للجزر، وقد نشطت كوادر الجبهة الشعبية في الشارقة ورأس الخيمة في تنظيم حملة واسعة للاحتجاج على الاحتلال، وخرجت مظاهرات في تلك الإمارتين فقط، قادها عناصر وطلاب الجبهة، وقمت مع أحد عناصر الجبهة في دبي (بوعارف) بتوزيعها في أحياء دبي، والمتبقي من المنشورات وضعتها في زاوية قريبة من أحد المطاعم داخل السوق، كي يتلقفها الأهالي في دبي.

في اليوم التالي وددت التأكد من أن المناشير قد نفدت وتم أخذها من قبل أهالي دبي، وإذا بمشهدٍ لم أنسه ولم ينسه أبو أمل، فقد شرعت مجموعةٌ من الأغنام بالتهام المناشير، وتوقفت لأتأمل المشهد، وأقول ساخراً «الأغنام تقرأ مناشير الجبهة». فجريت خلف إحداها وأمسكت بطرف المنشور لأسحبه منها، فانقسم إلى نصفين، نصف في يدي ونصف في فمها، وركضت به إلى النعيمي قائلاً: «هذه مناشيرك يقرأها الغنم في دبي»، فما كان منه إلا أن دخل في حالة متواصلة من الضحك لدرجة القهقهة، وهي المرة الأولى التي أراه فيها ضاحكاً بهذا الشكل، وهو يردد حسبي الله عليك يا سالم سرور، (اسمي الحركي)!وحتى آخر الأيام حين أريد أن أضحكه، كنت أسرد عليه القصة بتفاصيلها فيعاود ذات الضحكات.

في العام 1968 حيث عمل النعيمي مهندساً في محطة الكهرباء، وكان معه مجموعة من الفنيين والعمّال البحرينيين مثل صالح العلص، وعبدالرحمن عبدالله، وأحمد خالد وغيرهم، كتب مطالب العمال والمهندسين، حيث كان المهندسون والعمال الأجانب يرون فيهم منافساً يزاحمهم فيعاملونهم بغطرسة وتعالٍ. وكان من المعتاد أن يقف البحريني لـ «الصاحب» الانجليزي حين يمر أمامه، فحرضهم النعيمي على عدم الوقوف، فضلاً عن طرحه الاضراب. وكانت فرصة لـ «الصاحب» الإنجليزي للتخلص من النعيمي، وتم اعتقاله وتسريحه من العمل وإبعاده خارج البحرين. لكن في منتصف العام 1970، حين لقيته في بيروت التي عمل فيها مع مثل الأخ جاسم العلص، وأحمد خالد وغيرهم الذين صاروا في شروعنا القادم اللجنة التأسيسية لاتحاد العمال والموظفين وأصحاب الممد الحرة في البحرين.

وحين عاد إلى البحرين بعد عقود، كان يسألني عنهم ويستفسر عن المئات الذين جاءوا لزيارته وظل متصلاً ومتواصلاً مع الجميع.

في قرار المشاركة في انتخابات 2006، ضمّنا لقاء تشاوري مع النعيمي وعزيز أبل ومحمد أحمد، ضد أن يشارك النعيمي بشخصه، لأنه لن ينجح، وكانت قد وصلتنا أخبار خاصة من بعض المصادر الخاصة أن السلطة لن تسمح بفوزه مهما كانت عدد الأصوات التي سيحصل عليها. وكانت وجهة نظري ومحمد أحمد ضد عزيز أبل، في نقاشٍ حامٍ، هذا والنعيمي صامت، يقطعه بطرح بعض الأسئلة، وأخيراً قال: «صلوا على النبي»، ثم بدأ حديثه المركز المختصر قائلاً: «أنا لن أذهب إلى الانتخابات لكي أفوز، أنا سأذهب إلى هذه المظلة لكي أستطيع أن أتحدث إلى أبناء شعبي الذي حرمت من الحديث إليه مباشرة لأكثر من 30 عاماً، وأنا على ثقة أنهم سيصغون إلى ما سأقوله ويكون له التأثير المطلوب، حتى لو خسرنا الانتخابات». وتبادلت مع محمد أحمد النظرات وساد الصمت. لقد وصلت الفكرة، وفعلاً كانت نظرة ثاقبة، فقد حقّق النعيمي نصراً أكيداً وأغلبية في الأصوات. ومع ذلك لم يسمح للنعيمي بالفوز، حيث استخدمت الأصوات القادمة من خارج البحرين، للتصويت إلى خصم النعيمي.

لقد أوصل النعيمي صوته للناس، وطغت شعبيته في دائرته بل في المحرق كلها والبحرين، حيث يأتي إلى خيمته العديد من خارج دائرته ومن خارج المحرق ليستمعوا إلى هذا الصوت الوطني.

إن حياة المناضل إذا خلت من روح إنسانية واجتماعية مرحة متزنة، حوّلت هذا المناضل إلى آلة لا تعرف غير الحزم والأوامر التي لا يمكن مناقشتها. والنعيمي من الشخصيات التي مزجت بين الجدية والصرامة والصلابة، وبين الروح المرحة.

لقد فقدنا شخصية وطنية، مهما كتب عنها فستظل حاضرة في الوجدان... وسنظل نحفر في الجدار.

إقرأ أيضا لـ "عبدالله مطيويع"

العدد 4381 - الخميس 04 سبتمبر 2014م الموافق 10 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 7:34 ص

      رحم الله أبا أمل

      ابن البحرين الأصيل. الف تحية من القلب لروحه الطاهرة.

    • زائر 4 | 5:19 ص

      وفي الليلة الظلماء يفقد البدر

      اولا أنا لست من جيل شيخ المناضلين في هذا الوطن العزيز واستطاعت الأنظمة الخليجية طمس تاريخ هذه الشخصية الوطنية وغيرها من الشخصيات بينما كنا نعرف عن تاريخ المناضلين كالفيلسوف برتراند البريطاني الذي كان أشد المعارضين في الأربعينات والخمسينات للسياسة البريطانية الاستعمارية ونالسون مانديلا ولوثر كنج وغيرهم بينما نجهل المناضلين الخليجيين بسب كما ذكرت طمس التاريخ النضالي ويستحق النعيمي ان يكون شيخ المناضلين لانه باستطاعته ان يصبح وزيرا او ضابطا ذات رتبة عالية ولكن اتجه لمناصرة الفقراء ء وهذا ثمن عالي

    • زائر 3 | 4:45 ص

      الزائر رقم 1 كلامك غير صحيح

      الذي وضع قواعد العلاقة مع القوى الطائفية هو النعيمي وهؤلاء على دربه سائرون

    • زائر 2 | 4:42 ص

      رحمه الله وسدد من جاء بعده لمواصلة المسيرة

      من جاء بعده حافظ على مسيرته وقيمه وتحالف مع المخلصين والشرفاء لصيانة الوحدة الوطنية.

    • زائر 1 | 4:03 ص

      من يحفظ التاريخ

      أسف على هذا التاريخ
      لم يحافظ عليه من جاء بعده
      رهنوا هذا التاريخ وسلموه لقوى طائفية تقودهم الى الدمار
      الله يرحمك بو أمل

اقرأ ايضاً