العدد 4430 - الخميس 23 أكتوبر 2014م الموافق 29 ذي الحجة 1435هـ

بين العنف والتغيير السلمي في العالم العربي

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

ما بدأ مع ثورات الربيع العربي فتح طريقاً في منطقتنا لا عودة عنه، فبلادنا العربية هي آخر واحات اللاديمقراطية المقرونة بغياب التنمية وتنوع الفساد في العالم، وهي اليوم في عين واحدة من أعتى عواصف التغيير والانتقال في الكوكب.

من هنا، فإن ما يقع في الكثير من الدول العربية مرتبط بطبيعة التحولات من حالة سياسية تسودها الهرمية والمركزية الأحادية والفشل الإداري والتنموي، إلى حالة منقسمة على كل شيء قبل أن تصل إلى صيغة جديدة فيها تمثيل أفضل وصيغ ديمقراطية. ففي العقود السابقة لم نطور أنظمتنا ومؤسساتنا لتزهر حقوقاً متساوية ومواطنة متزنة وتعايشاً صادقاً بين مكونات مختلفة، كما لم نحقق إنجازات تنموية تعود بالمعنى على الطبقات الشعبية، بل تلاعبت الدولة الأمنية المسيطرة على المجتمع بالنسيج الاجتماعي والحقوقي العربي، وذلك للتعويض عن شرعية غير مستمدة من قاعدة انتخابية حرة.

ما نمر به منذ العام2011 عملية معقدة وشاقة ومتعرجة وطويلة (سنوات وتتجاوز العقد) ولكنها في أسوأ حالاتها لن تعيد العرب إلى كنف ما كان قبل الثورات، وما عودة مظاهر التسلط وخنق المجتمع المدني وملاحقة الحقوقيين، حيث تعثر التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي، إلا شكل مرحلي لحالة سياسية ميزتها الأهم المفاجآت والتحولات.

إن أكبر قوة اجتماعية محركة للوضع العربي منذ الربيع العربي هي كتلة الشباب الضخمة. لحسن حظ أو لسوء حظ العرب، هذا الجيل هو أكثر الأجيال عدداً في التاريخ العربي، وهو لهذا يجلس على برميل من البارود، فلا احتياجاته في معظم الحالات مؤمّنة ولا مستقبله الشخصي والمهني واضح، ولا أحلامه قابلة للتحقيق في ظل سواد الفساد وضعف المؤسسات وشخصنة القرارات، ولا يشعر بالتمكين إلا ذلك التمكين الذي يستمده من الساحات العامة والمواجهات المسلحة. إنه جيلٌ يقف في مجرى تاريخي إجباري في ظل تنامي الأسئلة الصعبة وانسداد السبل والشعور بالتمييز والعنصرية.

إن المواطن العربي الشاب، خصوصاً من أبناء وبنات الطبقات الوسطى، بدأ رحلة التغيير الأهم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وذلك حين اكتشف كيف يختلف العالم المحيط عنه بسبب وسائط التحول الاجتماعي، وتعرف على قصص عن الفساد لم يتوقع أنها موجودة في وطنه، وقصصٌ أخرى عن البطش والسجون، وثالثة عن التآكل الوطني وفشل الدولة في أبسط مشاريعها. بدأ هذا الجيل يعي أن الخطاب الذي قدّم له في المدرسة والشارع والإعلام لا يتناسب وواقعه واحتياجاته وحالة بحثه عن مستقبله. في كل شيء، عاش جيل الألفية الجديدة قلق الصدمة، وهو ما دفع بعض أفراده إلى التمرد عام 2011.

في بداية الربيع العربي، وعلى رغم أن محمد بوعزيزي في تونس لم يكن ينتمي إلى الطبقة الوسطى، إلا أن حركة الثورات العربية في تلك السنة وقعت تحت تأثير مناخ وقيادات شبابية تنتمي إلى الطبقة الوسطى. مع الثورات العربية وقع تفاؤل كبير بالمستقبل العربي، وبإمكانية أن يعم الإصلاح وأن يتم التعلم من دروس المرحلة في كل الأقطار العربية، ثم جاء الصراع السياسي الذي تلا الثورات بهدف ملء الفراغ ثم القمع بعد ذلك (الثورة المضادة) ليخلق حالةً من الإحباط شملت معظم الجيل الشاب، لكن الأهم أن حالة التسييس والتغيير والإحباط العام بدأت تنتقل إلى طبقات أكثر شعبية بما يتجاوز الطبقة الوسطى ووسطيتها.

إن الجيل الشاب المتأثر برد الدولة العميقة في ظل عودة المنظومات الأمنية للعمل بكامل قوتها لايزال يحمل في نفسه قوة مستمدة من فعل الثورة والتغيير في العام 2011، لكن انتقال قوة الجيل إلى قوى اجتماعية شبابية تنتمي إلى طبقات وفئات أكثر شعبية وفقراً وحرماناً، بالإضافة إلى تحوّل الكثير من الناشطين إلى فكر أكثر ثورية وأقل إصلاحية، سيقدّم لفكر الثورة والتغيير وقوداً جديداً في المرحلة المقبلة.

هناك انتشار يزداد قوة في تقبل مدرسة التغيير الجذري الشامل نسبة إلى الشرائح الشابة التي حركت الربيع العربي العام 2011. لهذا يمكن تصنيف الجيل العربي الراهن بأنه جيل الصراع الأكبر في التاريخ العربي الحديث، وهو في طريقه إلى ضخ مزيدٍ من الوقود في الصراع مع السلطات العربية. بمعنى آخر: نحن في الطريق إلى صراع سياسي واجتماعي أكثر انتشاراً وعمقاً في الساحة العربية، وذلك في ظل تحولات فكرية وتسييس شرائح شبابية جديدة.

من مصر والعراق وسورية وليبيا واليمن ودول ومجتمعات عربية أخرى، يزداد هذا الجيل انتشاراً واحتقاناً وغضباً. إنه في معركة على جبهات عدة، لهذا يبدو الجيل في أحد الأبعاد كجيل مغامر لا علاقة له بالحسابات والخسائر، وفي حالات يبدو مدنياً وفي حالات يبدو متطرفاً يدمر كل ما يقع في طريقه. إنه جيل مختلف سيبقى على الأغلب في جبهاته المختلفة إلى أن يجد ضالته ومرويته وطريقه وحلوله. في مناطق مثل سورية والعراق نجد الجيل متطرفاً “داعشياً”، وفي مناطق أخرى نجده ثورياً، وفي حالات يتحول إصلاحياً سلمياً، وفي حالات أخرى نجده حوثياً أو إسلامياً أو جهادياً. هذا الجيل يعيش في جبهات متناقضة ومتصارعة حول الفكر والسياسة، لكنه من مواقع مختلفة يساهم في تدمير النظام العربي الذي لا يستطيع تغييره بواسطة قواعد لعبة انتخابية ديمقراطية متفق عليها.

إن الحالة القتالية العابرة للحدود ستزداد انتشاراً، فمن ينظر إلى المشهد العربي ثم يدقّق في حالة العنف التي تمارس ضد مجتمعات وضد ناشطين، يعي كيف يؤدّي عنف الدولة المستمر إلى تأسيس النقيض في إطار عملية تاريخية تزداد تعقداً ونمواً.

والأوضح، بعد مرور أكثر من 3 سنوات على تفجر الثورات العربية، أن هذا الجيل الذي بدأ سلمياً مطالباً بالحد الأدنى وبفرصة التعبير والتغيير السلمي والإصلاحات المعتدلة والتعايش بين المتناقضات وانتصر لفكر الساحات العامة والثورات غير العنيفة في مواجهة فكر “القاعدة” والعنف المفتوح، كما حصل في بداية ثورة مصر وتونس وسورية وليبيا وحراك البحرين والمغرب وغيره، بدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع الطويل. لقد أعاد قمع الثورات الصراع إلى أساسياته، وصبّ في جانبٌ منه لمصلحة الجهادية الإسلامية والتطرف بكل تعبيراته وأنواعه، لكنه صبّ في الوقت نفسه لمصلحة فكرة الثورة العنيفة والراديكالية، بينما يتراجع دور الحقوقيين والناشطين السلميين.

الدول العربية تحارب الناشطين بقوةٍ وتمنع التعبيرات السلمية، لكنها من دون درايةٍ منها تساهم بحالة قادمة أكثر تطرفاً وعنفاً. لايزال التنافس بين مدرسة العنف ومدرسة التغيير السلمي مفتوحاً على مصراعيه في العالم العربي، وحتى الآن لا توجد بدائل. ربما يبرز البديل خلال العملية التاريخية المعقدة التي نتعايش معها ونتأثر بها.

الجيل العربي ضحية أمراض الاستبداد، ومع استمرار المأزق العربي يطالبنا بمخرج جوهره: حقوقي وإنساني عادل، ديمقراطي انتخابي وتنموي. لكنه في الوقت نفسه يهددنا بتدمير الحالة العربية التي تقصيه وتمنع عنه حقوقه وتحتكر السياسة في مركز لا يعي مضمونه وطرق عمله. وفق كل المعطيات والمؤشرات، هذا الجيل لن يهدأ في المرحلة المقبلة. سيزداد احتقاناً وخبرة واحترافاً. لهذا فالحالة العربية حبلى بالمفاجآت، والدول العربية أمام تحديات لم تعرف مثيلاً لها في السابق: فإما أن تستمر بسياسات تخلو من العدل والتشارك مما يؤدي إلى مزيد من التطرف والغضب، أو تبحث عن مشروع جاد يستند إلى رؤى ديمقراطية وحريات وأنسنة واقتصاد عادل يسمح لها بتمكين هادف لجيل في بداية صعوده أو ثورته أو تمرده.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4430 - الخميس 23 أكتوبر 2014م الموافق 29 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً