العدد 4451 - الخميس 13 نوفمبر 2014م الموافق 20 محرم 1436هـ

فهلوة خلط الأوراق

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

تتميّز مجتمعاتنا العربية بقدرة ملفتة على تقبّل لعبة خلط الأوراق عند التعامل مع إيديولوجياتها وقضاياها الكبرى. وهي لعبة استعملها بحذقٍ ممارسو الفهلوة الفكرية والسياسية، عبر تاريخنا وحاضرنا، لإدخال الشعوب العربية في دهاليز فرعية أو هامشية من أجل تمييع أو نسيان أو تشويه الموضوع الأصلي. لنأخذ الأمثلة التالية لتوضيح خطورة هذه الظاهرة.

أولاً، بعد الإطاحة بمؤسَستي الحكم الاستبدادي في تونس ومصر، قادت انتخابات حرة ونزيهة إلى صعود الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس، إلى سدّة سلطة التشريع والحكم. ما حدث كان شيئاً طبيعياً ومتوقعاً في مجتمعات متعلقة غالبيتها بالثقافة الإسلامية عبر القرون.

لكنّ الحركتين ارتكبتا أخطاء سياسية عديدة عندما لم تدركا أن الفترات الانتقالية، بعد الحراكات الثورية الكبيرة، تحتاج أن تدار وتحكم من خلال التعاون والتوافق مع الآخرين، وذلك إلى حين الوصول إلى أهداف تلك الحراكات واستقرار أحوال المجتمعات. عند ذاك يمكن الدخول في لعبة التنافس والخلافات.

لكن ما أن حدثت تلك الأخطاء وتذمّرت الشعوب حتى أطلّت الفهلوة الفكرية والسياسية برأسها لتضيع الموضوع الأصلي، وهو الديمقراطية، ولتخلط الأوراق. لقد تمّ نبش كل أخطاء الإسلام السياسي في الماضي، واستشهد بأقوال عفى عليها الزمن لبعض قادته الذين أصبحوا من الأموات، وابتسرت اجتهادات فقهية طرحت منذ قرون، وأقحمت نفسها جهات لها معاركها وثاراتها الخاصة مع هذه الحركة الإسلامية أو تلك، فاختلط الحابل بالنابل، وأدخلت الاستخبارات الأجنبية عملاءها التكفيريين المجرمين في الساحة فتشابك الخارج مع الداخل.

لقد أصبحنا اليوم أمام حملة تضليلية شرسة لإقناع المواطن العربي بأنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إذا اختار الديمقراطية فإنه لن يرى أمامه سوى الإسلام السياسي، وإذا كان لا يريد الإسلام السياسي فعليه أن يقبل بحكم اليد الأمنية الباطشة.

أما الحقيقة البديهية الأصلية، والتي خبرتها مجتمعات أخرى كثيرة، والمؤكّدة بأنه مثلما جاءت الانتخابات الديمقراطية النزيهة العادلة بقوى الإسلام السياسي فإنها ستكون قادرة في المستقبل على استبدالهم بآخرين يحملون أفكاراً ومنهجية سياسية مختلفة... أما هذه البديهية فقد ضاعت ونسيت ومعها نسي الناس هدف ثورات وحراكات الربيع العربي: الانتقال إلى الديمقراطية الشاملة العادلة.

ثانياً، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي طرح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر المشروع القومي العربي الناصري لنقل الوطن العربي من التجزئة إلى الوحدة، من الاستعمار والتبعية إلى الإستقلال الوطني والقومي، من التخلف الاقتصادي إلى التنمية، ومن استغلال وفقر الملايين من الشعوب العربية إلى عدالة اجتماعية شاملة.

وراء المشروع وقفت إمكانيات دولة القطر المصري الهائلة وأحزاب وحركات قومية في طول الوطن العربي وعرضه، والملايين من جماهير الشعب العربي. آنذاك تحقق الكثير وكان المستقبل يعِدُ بالكثير.

لكن مؤامرات الخارج وقوى الدًاخل الرًجعية الفاسدة وتعدُّد الأخطاء في الممارسات وموت بطل المشروع أدّت إلى تراجع، ثم توقُّف، تلك الموجة التاريخية القومية الواعدة.

مرةً أخرى أطلّت الفهلوة الفكرية والسياسية برأسها لتخلط الأوراق من خلال التركيز المتعمّد على الأخطاء في الممارسات ونقاط الضعف وتفريغ الذاكرة الجمعية العربية من الإنجازات المبهرة حتى ينسى الناس الموضوع الأصلي التاريخي: طريق نهوض الأمة العربية من خلال وحدتها وتحرّرها وتنميتها الذاتية واعتماد العدالة الإجتماعية نهجاً في حياتها.

هذا الإصرار العجيب عند البعض لاستعمال أية أخطاء أو نقاط ضعف في المشاريع والحراكات العربية الكبرى، وذلك من أجل تدميرها أو إيقاف مسيرتها وإخراجها من الذاكرة الجمعية للشعوب، بدلاً من تحليل أخطائها بموضوعية وتقديم الحلول المساعدة لمسيرتها، هذا الإصرار الانتهازي عند بعض المفكرين والكتاب والإعلاميين العرب ينذر باقترابهم من ممارسة رذيلة وعار الخيانة لأحلام وتطلعات أمتهم، ويضعهم في خندق القوى الامبريالية والصهيونية التي لا تريد لهذه الأمة أن تتوحّد وتتحرّر وتتقدّم.

ثالثاً، نفس الممارسة طبّقت على حدث تاريخي كبير حدث فوق أرض كربلاء. فالشهيد الإمام الحسين بن علي، رضي الله عنه، لم يمت كضحيةٍ مكسورةٍ تستجدي قليلاً من الماء لأهلها وتبكي دمعاً على ما حلّ بهم. لقد مات واقفاً كبطل تاريخي محارب من أجل مشروع إصلاحي لأمة الإسلام جميعها، وفضّل موت العزّة والكرامة على ذلّ الحياة المنكسرة.

لكن بدلاً من أن تصبح ذكرى موته السنوية تمجيداً للبطولة الثورية وتجييشاً لها في نفوس وعقول كل المسلمين والعرب، وإصراراً على نهج الإصلاحات الجذرية في وجه الاستبداد والفساد، بدلاً من أن تكون الذَكرى ألقاً إيمانياً وسياسياً بامتياز، قلبه البعض إلى قصص جانبية وأحياناَ متخيلة وبكائيات، ووجّهوا مشاعر الغضب والاستياء نحو مماحكات السياسة الحقيرة التاريخية التي رافقت ذلك الحدث التمرّدي العظيم.

هذا الخلط للأوراق إبان تلك المناسبة الرامزة لعبق البطولة والتضحيات المرفوعة الرأس السامية بالنفس البشرية نحو الأعلى والأفضل والأنقى، يضيع الموضوع الأصلي ويشوّهه في دهاليز فرعية تنتقص من قيمته.

الأمل في شباب ثورات وحراكات الربيع العربي، قادة المستقبل، أن لا يدخلوا قط دهاليز الضياع، ويركّزوا مشاعرهم وعقولهم ليل نهار على أصل المواضيع الكبرى في حياة أمتهم.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4451 - الخميس 13 نوفمبر 2014م الموافق 20 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:34 م

      نسيت نفسك

      ياسعادة الدكتور
      انت تحلل امور سياسية بعيده عن ثقافة مجتمعنا
      ولكل دولة زمان ورجال
      لم انسى عهدك عندما كنت وزير للتربية وابسط تجربة لك انك قمت بنقل افكار تربوية لاتتماشى مع حاجتنا وابسط مثال ادخلت نظام الفصل في مجال التعليم معتمدا على السياسة الامريكية في حربها مع الفيتنام وهذا النظام ثبت فشله في دولة الامارات الشقيق
      خلاصة كلامي بدل ان تحلل واقع البلدان الاخرى قم بتحليل واقع بلدك لعل وعسى ان يستفاد منها

    • زائر 4 | 8:43 ص

      د. علي الفرج - المملكة المتحدة

      مقال جميل.

    • زائر 3 | 6:40 ص

      هذا الواقع

      نعم هذا هو الواقع اللذي تغاظت عنه القوى الوطنيه اعتقاداً منها ان عبائة الجمعيات الدينية تخدم اجنداتهم بعد ان ابتعد هنهم الشارع العام ،،،، فلنبعد الخرافة عن الدين ولا نقحم الدين في السياسة بحجة التغيير ،،، فالجميع مسلمون ومتديينوون ولا يلزمهم انتماء لجهة معينه لاثبات ذالك ،،، الوطن بحاجتكم جميعاً، فلنكسر التابوه الجديد وهذه هي البداية وبدون خطوط حمره

    • زائر 2 | 12:47 ص

      ....

      فعلا البحرين تحتاج امثالك

    • زائر 1 | 12:38 ص

      ما دخل كربلاء في الموضوع

      يا دكتور انت تحلل تحليل سياسي استمر فيه دون التطرق الى أمور طائفية

اقرأ ايضاً