العدد 4468 - الأحد 30 نوفمبر 2014م الموافق 07 صفر 1436هـ

اللغة والهوية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

تطورت فكرة الأمة من أقوام تتحدّد هوياتهم على أساس انتماء عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة، وأصبح متوقعاً أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين.

في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة، حيث تشتعل الحرائق في عموم المنطقة، منذرة بتشرذم وتفتيت أكبر، فإن شكل المواجهة لا ينبغي أن يقتصر على نمط واحد. والبداية ينبغي أن تنطلق من التصدي للقواعد الفكرية للإرهاب. وهي قواعد تعمل على استحضار روح الهويات الصغيرة، وتغليبها على الهوية الجامعة، التي يمثل الانتماء للأمة ركنها الأساس.

وقد شاءت حقائق التاريخ، أن تكون اللغة العربية، الأساس في تكوّن الأمة، وبالتالي في بروز الهوية العربية الجامعة، ويركّز هذا الحديث على علاقة اللغة بالحضارة العربية الإسلامية، من حيث دورها في تشكيل هوية الأمة.

اللغة بشكل مبسط، هي نظام له وظيفة وغاية محددتان، هما التعبير والتواصل. وتعتمد اللغة على وسائل معينة لبلوغ أهدافها. وحين ناقش أفلاطون موضوعها تصدى لمعالجة علاقة الأشياء بالأسماء، فأكّد على أن الاسم انعكاس وتعبير عن المسمى، وهو مشتقٌ من مكوناته وتركيباته. بمعنى أن الدال باستطاعته محاكاة المدلول والتعبير عنه.

وذلك يعني أن علاقة اللغة بالأفراد الناطقين بها ليست مجرد عرف وتقاليد، ولكنها علاقة عضوية، إذ إن الكلمات والجمل في حقيقتها تعبير غير ساكن، كونها تعبّر عن صورة الأشياء في زمان ومكان محددين. وبالتالي فإن الصيغ اللغوية هي تعامل وتفاعل مع بيئة محددة بذاتها.

وعلى هذا، فاللغات ليست سابقةً على التاريخ أو صانعة له، بل هي نتاجه. ذلك أن المجتمعات التي تشعر بهوية واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة، تحقق من خلالها تواصلها، وتمكنها من التعبير عن ذاتها، كي تمارس إبداعاتها وعطاءاتها الإنسانية، ولتميز بين هويتها وهويات شعوب الأمم الأخرى.

لكن ذلك ليس نهاية المطاف، ذلك أن التفاعل الإنساني الذي يحدث بسبب من تمازج حضارات مع بعضها البعض، يمكن أن يؤدي إلى انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة، غير تلك التي انبثقت منها، مساهماً في خلق واقع موضوعي جديد تنتج عنه هزيمة البنية الاجتماعية السائدة من قبل، وقيام أخرى على أنقاضها. وهو بالدقة ما أدى إلى تطور الوعي العربي لمفهوم الهوية. فقد تزامن هذا الوعي مع هزيمة متدرجة للقبيلة كعامل أساسي في صنع الهوية، وتصاعد لدور اللغة كعامل حاسم في الانتماء إلى الأمة.

وقد بدأت هذه التطورات في أخذ مكانها مع نجاح الحركة العباسية. وكانت مشاركة الفرس فيها، وانطلاقها من بلادهم، إيذاناً باندحار العصبية القبلية، ونجاح فكرة التأكيد على المساواة ورفض التمييز. وتزامن ذلك مع بداية النهضة العلمية والحضارية التي شهدتها دولة الخلافة، وتصاعدت بتوسع رقعتها الجغرافية. حيث تحوّلت المراكز العربية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة، وبرزت مدينتا بغداد والبصرة كأكبر مركزين علميين في ذلك العصر، وأصبحتا قبلتين يحج إليهما طلاب العلم من كل أصقاع الأرض.

في المدن عاود العرب ممارسة التجارة، حرفتهم القديمة، وضعف وجود من هاجر منهم في الديوان. وفي ظل هذا الواقع، نشأت علاقات اجتماعية ومنظومة قيم جديدة. وبرزت اتجاهات ومصالح تسير باتجاهات معاكسة ومطردة لخط سير البناء القديم، مؤديةً إلى حدوث تغيرات جذرية في الحياة العربية، ما أبرز فكرة الانتماء للأرض بديلاً عن الانتماء للعرق. وقد تمت هذه التطورات الجديدة على أنقاض فكرة التنقل والارتحال بحثاً عن الكلأ والماء.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، تم اختلاط العرب بشعوب أمم أخرى من البلدان التي شملها الفتح العربي، بعد أن غادرت أعداد كبيرة منهم مركز الخلافة وانتشرت في مناطق نائية عنه، واتصلت بغيرها من الأجناس. وقد أسهم ذلك في انتشار اللغة العربية بين أقوام جديدة، كما كان سبباً في انتشار الإسلام وتعمق أثره في الحياة العامة.

وكانت نتيجة ذلك امتزاج العرب مع غيرهم، مما حقّق تماثلاً في القيم والنظر للحياة، بغض النظر عن الخلفية الحضارية والعرقية للبشر الذين انضووا تحت راية الدين الجديد، ما أدى إلى تضعضع القبيلة وتراجع أثرها.

لذلك فإن من البديهي بعد أن تراجع البنيان القبلي لصالح الانتماء إلى المدينة وبالتالي إلى الأمة، ألا يبقى منه سوى بعض الاعتبارات الاجتماعية. وفي ظل هذا الوضع المتشابك، تطوّرت فكرة الأمة، من أقوام تتحدّد هويتهم على أساس انتماء عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة. وأصبح متوقعاً أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين وغيرهم. وهذا ما نلاحظه منذ بداية القرن الثالث الهجري لدى الجاحظ وابن قتيبة وأخيراً عند ابن خلدون، فهم يرون أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب.

ومع أنهم يقبلون بدورٍ للبيئة والنسب في بعض الأحيان، إلا أن الرابطة الرئيسية هي اللغة. وقد أشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكوّنات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى، وهي صفات ذات صلة مباشرة بالثقافة. وقد أشار إلى ذلك أبو عمرو عثمان الجاحظ بقوله: «إن العرب لما كانت واحدة في التربية، وفي اللغة والشمائل، والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط.. وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى.. وقامت هذه المعاني عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.. وأن الموالي الذين تعرّبوا هم بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس لأن السنة جعلتهم منهم.. وهم أقرب إلى العرب في كثير من المعاني».

هكذا ارتقت «العربية» بفكرة الأمة من انتماء إلى عرق، إلى انتماء إلى لغة ودين، ولعل أصدق تعبير عنه إجابة مولى هشام بن عبدالملك حين سأله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عن هويته بقوله: «إن كانت العربية لساناً فقد نطقنا بها، وإن كانت ديناً فقد دخلنا فيه»... ويبقى الحديث بحاجةٍ إلى كثير من التأصيل والتحليل.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4468 - الأحد 30 نوفمبر 2014م الموافق 07 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً