العدد 4485 - الأربعاء 17 ديسمبر 2014م الموافق 24 صفر 1436هـ

القياسُ على النفس

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لو كان السّارقُ هو المسروق فَبِمَ يا ترى سيشعر؟ بالتأكيد، سيكون شعوره شعور المنتَهَكَة حقوقه. دعونا نفترض ما هو أكثر: فلو كان الظالِم هو المظلوم، والسَّجَّان هو المسجون، والضارب هو المضروب، والشَّاتِمُ هو المشتوم، والناهِبُ هو المنهوب، فهل يا ترى سيشعر كل أولئك البشر بغير شعور الضَّيْم الواقع عليهم؟ هذا هو السؤال المركزي.

يقوم البشر بأفعالهم تجاه الآخر، ويستغرقون فيها دون أن يشعروا بأيِّ غضاضة أو ألَم، كونهم الطرف «الفاعل» في الشيء، وبالتالي هم يستمرون: السارق في سرقاته، والظالم في ظُلمِه، والسَّجَّانُ مع سجنائه، والمُعذِّب في تعذيبه، والشاتم في شتمه. هذه هي المشكلة التي يتوجَّب علينا جميعاً إدراكها، إذا ما أردنا أن نعالج مسائل الأخلاق لدينا.

السارق عندما يسرق لا يحس بالساعات ولا بالأيام ولا بالشهور ولا بالسنوات الطوال، التي تصبَّب فيها جبين المسروق عَرَقاً، كي يجمع درهماً على درهم، يرى في لَمَعَان معدنها يديه وهي تضع اللبِنَات على اللبِنَات، ويرى فيها رجليه وهما تنهضان متثاقلتين في ساعة البُكُور من كل يوم، ويرى فيها قلبه الذي كان يدق كخَبَبِ الخيول من شِدَّة التعب.

والظالِم عندما يظلم، لا يرى الأسى والغَم الذي يُخلِّفه الحَيْفُ على المظلوم، ولا يستشعر الساعات التي لا تطوِي الواحدة منها نفسها على سابقتها إلاَّ بتقطيع نياط القلب، وكأنها سَنَة مما يعدّ هو. وبالتالي فالظالِم لا يتلمَّظ شيئاً اسمه الجَوْر ولا يعرف ما يعنيه مجاوزة الحد، ولا التشفِّي، ولا الإساءة، ولا الإفلات من العقاب، ولا غياب العدالة.

والسَّجَّانُ عندما يسجن المغَيَّبين في محبسه هو لا يعرف أيّ معنىً للفراق، ومغادرة الأحباب، وفلذات الأكباد. هو غير قادر على تخيّل أم عجوز تتحسَّر على ابنها، ولا الإحساس بزوجةٍ تتأوَّه غياب بعلها، ولا إدراك مشاعر أولاد صغار، لا يجدون ما يسندون عليه ظهورهم وقت الشِّدة. بل هو لا يعلم ما يعنيه حبس الحرية وتقييدها أصلاً.

والُمعذِّب عندما يضرب ضحاياه بيديه أو بآلات خشبية أو حديدية حتى يتناثر اللحم، وتتكسَّر العظام، هو لا يستشعر التجربة الحسِّية والعاطفية السلبية لألم المُعَذَّب، الناتجة عن الضَّرر النسيجي الفعلي للضرب الحاد، وتصدُّع خلايا المناعة في الجسم، وبالتالي فهو لا يعي بل ولا يعنيه الصُّراخ ولا العويل ولا الاستجداء الذي يبديه المحبوس.

والشَّاتم عندما يشتم هو لا يُدرك جرح الشتيمة على النفس، لأنه ليس في موضع المتلقِّي النفسي، بل وحتى الفيزيائي، حيث أنه لم يستقبل الموجات الصوتية الداخلة إلى الأذن، ولم يجمعها صيوانه المُقوَّس، ولم تمر على قناته السمعية، وبالتالي فهو لا يدرك أي اهتزازات بداخله تُحسِّسه بأن كلاماً جارحاً قد صدر بحقه.

وعندما لا نصل إلى درجة التصوُّر تلك في أننا «قد» نكون مسروقين أو مظلومين أو مسجونين أو مضروبين أو مشتومين أو منهوبين، فإننا نتكلَّس على هيئتنا الذئبية القبيحة، التي تُنتَزَع منها الصفة الإنسانية بصورة كاملة، فنصبح بلا مشاعر ولا أحاسيس، حيث لا غضب ولا خوف ولا فرح ولا حزن ولا تعجُّب ولا اندهاش ولا مفاجأة.

هذا الأمر لا يقتصر على الأفعال التي أشرنا إليها فقط، بل هي تشمل كل شيء في حياتنا العملية، سواءً أكان صغيراً أم كبيراً، سواء توقعناه أم لم نتوقعه، فالزمن قادر على جعل كل شيء ممكناً. فما يجب أن نؤمن به، هو أن نسبية الأشياء تجعلها مختلفة الأوزان. فما هو عَرَضِيّ لدي من أشياء وموضوعات، هو بؤرة لدى غيري وهكذا.

عندما تتعامل بقسوة مع مَنْ يخدمونك في منزلك من عاملات، عليك أن تتخيَّل لو أن أمك/ أختك/ ابنتك كانوا في بلدان (الخَدَم الآن)، بعد أن ضربت أرضنا الفاقة، يخدمون عندهم كما هم يخدمون الآن عندنا، وعاملوهم بقسوة وحَيْفٍ بمثل ما تُعاملهم أنتَ هنا، فكيف سيكون حالهم وحالك وأنتَ ترمقهم؟ هل سترضى أن يُفعَل بأهلك ما يرونه هم هنا دُونِيَّةً واحتقاراً لشخوصهم وإهانةً لكرامتهم؟

عندما نحتال على بائع متخيِّلين أنفسنا في نصرٍ مؤزَّر لأننا سلبناه حاجةً أو نقوداً، علينا أن نكون مكان المخدوع، عندما يفيق في نهاية يومه يَجْرد ما نَقَصَ من بضاعته أو نقوده، فيتحسَّر على ما ضاع منه بغفلة. فهل نحن قادرون على تجاوز هذا الألم حين نكون في موضعه؟

التربية والأخلاق ليستا قراطيس يتعلمها الإنسان كي يحفظ أنها منظومة قِيَمٍ، بل هي مدماك للفرد والمجتمع، حين يجعل منها ذلك الفرد وذلك المجتمع مرجعيته الأساسية في التعامل مع الآخر، من منطلق الإحساس بالآخر. وكما قال جمال الدين الأفغاني: «أقرب موارد العدل القياس على النفس».

وإن لم يكن أحدٌ قادراً على الاتعاظ من ذلك الكَلِم المُجرَّد، الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع كما هو يراه، فعليه أن يتعظ من الزمن، الذي أذَلّ مَنْ لم يكن أحدٌ يظن أنه «قد» يُصبح ذليلاً في يوم من الأيام، أو أن يرمي بأحدٍ حين كانت القوة تأتمر به، وإذا به بين أوباش ودهماء، لا يقدر أن يدفع عن نفسه الصَّفعة ولا الركلة.

أختم المقالة، بحادثة أوردتها كتب التاريخ الإسلامي تقول، بأنه وبعد أن خُلِعَ القاهرُ بالله العباسي، أُودِعَ السجنَ ثم أُخرِجَ منه عندَ تقلُّبِ الأحوال، ثم أعيد إليه، وأخرِجَ منه مرةً أخرى. وكان بعد خلعِهِ قد جُرِّدَ من كلِّ ما يَملكه، فخرجَ يوماً ووقفَ بجامعِ المنصورِ يطلبُ الصدقةَ من الناس، فرآه بعض العباسيين فمَنَعَهُ من ذلك وأعطاه خمسمئةِ درهم!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4485 - الأربعاء 17 ديسمبر 2014م الموافق 24 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 7:26 ص

      أصدق ميزان القياس على النفس

      شكرا على هذه المقال .

    • زائر 4 | 2:07 ص

      من اقوال الافغاني كذلك..

      لا امة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة ، ولا عقيدة بدون فهم.
      يقول شوقي"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا".

    • زائر 2 | 11:00 م

      متابع

      مقال جميل ، و أجمل منه قائله ، نتمنى من الأستاذ أن يواصل الكتابة عن الأسرة ، النواة الأهم و الأجمل في هذا العالم ، والمشاكل التي تعتريها في هذا الزمن

    • زائر 1 | 9:55 م

      يتم تدريبهم على السفه والنداله

      الكثير من يتم اختيارهم لوظيفة انفاد القانون في تلك البلد يتم مسح شخصيتهم ويتم تدريبهم بتفنيد مايطلب منهم حتى لو كان والده هو الضحية هنا الامر فيما يقوم من تجهيز أسترا تحيات وخطط وأهداف قمع البشر في اي مطلب انه الضمير أنيت والمؤسف ممن يقوم بالتنفيد ونقول هم جميعا يتشدقون بالإسلام العظيم وهو براء منهم

اقرأ ايضاً