العدد 449 - الجمعة 28 نوفمبر 2003م الموافق 03 شوال 1424هـ

تعديل الموقف الأميركي في العراق: العلّة الكافيّة...

طراد حمادة comments [at] alwasatnews.com

تعديل السياسة الأميركيّة في العراق، وقرارها في تسريع عملية نقل السلطة إلى قيادة عراقية منتخبة، وذات شرعية عربية ودولية معترف بها، مسألة كانت دائما في صلب اهتمام الشعب العراقي الذي استعاد في أوقات سياسيّة قياسية، ثقته بنفسه، وقدرته على إدارة شئونه الخاصة ومن دون تدخل خارجي: جاء هذا التدخل باسم قوات احتلال أو باسم قوات صديقة، تحل في ضيافة العراق لفترة وجيزة.

وإذا كان، جلاء القوات المحتلة عن العراق، بأسرع وقت ممكن، يمثل انتصارا صريحا للشعب العراقي، ومحل ترحيب صادق عند بقية الدول العربية، والدول الأخرى التي عارضت الحرب، أو أخضعت طبيعتها ومشروعيتها للنقد، فإن السؤال الذي يبدو أكثر حساسية هو الآتي: من دفع الأميركيين إلى إسراع خطوات سيطرتهم المباشرة على العراق.

وهل تراجعت أميركا خطوة إلى الوراء، من أجل التقدم في مناطق أخرى خطوتين إلى الأمام؟ وما دور العمليات المسلحة ضد المحتل الأميركي في كسر إرادة هذا المحتل ومنعه من استلحاق العراق، بعد إخضاعه للسيطرة الأمنية والاقتصادية والسياسية لفترة طويلة، ليكون فيها قاعدة انطلاق في سبيل تجارب ثانية؟ وهل استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تكسب أكثرية الشعب العراق إلى مشروعها؟ وما النتائج التي يمكن أن تترتب على الانتصار؟ ثم ما النتائج نفسها التي يمكن أن تترتب على الهزيمة أو التراجع، أو تعديل خطة العمل في الظرف الراهن؟

واجهت الولايات المتحدة في العراق، مجموعة من أشكال المقاومة، والممانعة، قلما توافرت في غيره من البلدان، وذلك لأسباب عدة، لعل من أهمها، طبيعة الشعب العراقي وقواه الحية، وعدم خشيته من أنواع العقاب الأميركي أو استنفار مجموع تراثه ورمزيته الجغرافية، وحساسيّة مكانه، وخبرته الطويلة مع الأنظمة الاستبدادية، وانتشار أبنائه ومثقفيه، في شتى أنحاء العالم، واكتسابهم، لغة جديدة وأفكار وتجارب جديدة، وحضوره القوي في المقدس الإسلامي، في جانب التاريخ القدساني والتاريخ الزماني من الإسلام. والمكانة السياسية التي يشغلها في العالم الإسلامي والعربي، بما فيها مكانته الجيوبولتيكية، وكذلك ميزاته الديمغرافية وفوق كل ذلك، عراقة العراق في تاريخ الحضارة الإنسانية، جعلت من هذه البلاد عصية على الابتلاع، وأنواع الاستتباع من خلال ممانعة واسعة، لم تخل منها منطقة عراقية واحدة، أو مدينة أو قرية، وكذا في فئات الناس من الأجناس إلى المذاهب الدينية إلى التكتلات الانتربولوجية، في العشائر، والأحزاب والنقابات، والمدارس والحوزات العلمية، والخبرات الإنسانية المتنوعة.

كل هذه القوى مجتمعة، أدارت عملية السيادة والاستقلال، وجلاء الاحتلال وبناء العراق الجديد، وإذا كان ثمة مكاسب من هذه المسألة، يجب أن تنسب إلى هذه القوى مجتمعة وليس إلى واحدة منها، مهما حاولت هذه القوة أو تلك ادّعاء ما هو مغاير لهذه الحقيقة الصريحة.

قد يذهب المحللون مذاهب شتى في القول أن ما يسمّى المقاومة العراقية المسلحة، وهي عمليات عسكرية متفرقة ومركزة في وسط البلاد، وفي العاصمة والمناطق المحيطة بها، تكاد تكون إستمرارا لأعمال الحرب نفسها، استطاعت أن تؤذي الاحتلال الأميركي، لكنها لم تستطع أن تتحوّل إلى مقاومة مشروعة مؤيدة من غالبية القوى الشعبية العراقية؛ قد يذهب المحللون إلى القول أن هذه القوى دفعت الأميركيين إلى تعديل موقفهم، وذلك استنتاج سهل، لا يصدق إذا ما قاربنا الموقف العراقي من جميع جوانبه ودخلنا إلى عناصر القوّة المتعددة في اجتماعه الإنساني، وربما كان الأميركيون، مدركين بقوة لهذه الحقيقة لأنه توجد إشارات صريحة تكشف عنها الإدارة الأميركية في تصريحات رامسفيلد، وباول، وبريمر، وحتى زعماء المعارضة في الحزب الديمقراطي، إضافة إلى أوساط الضغط، ومراكز الأبحاث، والدراسات الاستشارية، ووسائل الإعلام، وتجاذب كل هذه المؤسسات مع سلسلة من المواقف الدولية، من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والدول الأوروبية إلى الدول العربية والإسلامية، ودول الجوار مع العراق. كل هذه القوى وجدت أن نتائج البيدر العراقي لم تنطبق على حسابات الحقل الأميركي. أخطأ الأميركيون الحساب، بشأن العراق، ولذلك يستعجلون الانسحاب منه وعلى العالم أن يمدّ لهم يد الغوث، لترك العراق وشئونه إلى جهود شعبه، يتدبرون أمرهم، بدعم دولي ومساعدة حقه، ليست بذات عقارب.

إن سلسلة من العلل توصل إلى نتائج معينة على أساس صدورها عن علة واحدة، لأن ذلك مخالف لحقيقة علاقة المعلول بعلته من خلال وجوب العلة كافية، ولذلك ليست العمليات العسكرية التي شهدها العراق، ضدّ قوات الاحتلال بالعلة الكافية، ليستعجل هذا الاحتلال إنسحابه، أو ليسلّم السلطة العراقية إلى العراقيين، بل لعل هذا السبب كان لوحده، كافيا، لإدخال العراق، في خضم الفوضى، التي كثر الحديث عنها، قبل مدة قصيرة، حتى بات المراقبون يخشون نوعا من استدراج، لمراكز قوى متواجهة في ما يسمى المعركة العالمية ضد الإرهاب حتى بات العراقيون، يخشون أن يتحول بلدهم إلى ساحة لهذه المواجهة، وكان تنبه العراقيين إلى المخاطر المترتبة عن عملية استدراج بين مراكز القوى المتصارعة في حلبة الحرب الدولية ضد الإرهاب، تسمح لهم بالتحدث بقوة عن رفض تحوّل بلدهم إلى ساحة تصفية الحسابات إلى ما يسمى حروب الآخرين على أرضهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أظهر العراقيون في قواهم الحية، نضجا سياسيا عاليا من خلال الآتي:

- عدم قبول استمرار الاحتلال إلى فترة طويلة والمطالبة الصريحة بجدول زمني لنقل السلطات إلى العراقيين وخروج قوات التحالف الأميركي البريطاني.

- عدم الأخذ بالهيصات الإعلامية والشعائرية بشأن أهمية (المقاومة المسلحة) لقوات الاحتلال واعتبار ذلك الحل الوحيد للمواجهة مع هذه القوات.

- قبول التحدي بالقول أن المجتمع المدني العراقي، ناضج سياسيا، وقادر على إدارة نفسه بقواه الذاتية، وليس هناك من مصاديق لمخاطر ما يشبه الحرب الأهلية، أو حرب تنازع السلطات، كما كان الأمر في أفغانستان وسواها.

- رفض علاقة الاستتباع للقوى المحتلة، والبقاء على مسافة من المشروع الأميركي للعراق والمنطقة، ومقاومته بقوّة الممانعة الشعبية، والإرادة في السيادة والاستقلال. ولذلك قال باول علانية أن أميركا لم تجد في العراق «قارضاي عراقيا»، يعني رجلا يقبل السلطة بقوّة الخارج، وكان مجلس الحكم صورة عن قوى المعارضة العراقية، أكثر من قيادة استثنائية في مرحلة انتقالية، معينة من قبل الاحتلال. إن لعبة شدّ الحبال بين مجلس الحكم الانتقالي والإدارة الأميركية للعراق، انتهت لصالح قوى المعارضة العراقية الممثلة داخل مجلس الحكم وما كان ذلك ليحصل لولا تصرف هذه المعارضة كقوة تريد إدارة شئون بلادها في إطار من الاستقلال والسيادة الوطنية.

إن المسيرات المليونية التي اجتاحت المدن العراقية المقدسة، في عاشوراء وكذلك في تشييع السيدمحمد باقر الحكيم، وحركات الاحتجاج والمظاهرات داخل المدن، بما فيها مدينة الصدر في بغداد، والبصرة، والشجاعة المعنوية العالية وحس التعبئة والثقافة السياسية ورفض كل أشكال المهادنة مع قوى النظام السابق، وعدم الانجرار وراء الضغوط الإعلامية الكبرى، وما تحدثه من أثر في النفس، للاندفاع إلى مواجهة عسكرية، يقطف ثمارها النظام السابق من خلال إعادة إنتاجه من جديد والدور الذي لعبته الحوزات العلمية، والمرجعيات الدينية أثبتت قدرتها على خلق مقاومة مدنية لشعب لا يمكن أن يحكمه ويدير شئونه إلا أبناؤه بأنفسهم.

- التنسيق السياسي داخل مجلس الحكم بين الأحزاب السياسية العراقية التي اشتهرت بخلافاتها السابقة، داخل المعارضة فيما استطاعت تداول السلطة داخل مجلس الحكم بتناغم مقبول، فقد تعايش العرب والأكراد والتركمان والشيعة والسنة، والإسلاميون والعلمانيون،... الخ من دون أن تفسد هذه الفسيفساء قدرة المجتمع على الحياة، بل لعلّ في إعطاء كل هذه القوى حقها في العمل السياسي وإدارة شئون البلاد، وفق مكانتها قدّم خدمة كبيرة لنجاح تجربة، يمكن التأسيس على نتائجها في مستقبل النظام السياسي للعراق الجديد.

إن هذه القوة مجتمعة هي العلّة الكافية لتحقيق معلولها في جلاء الاحتلال وبناء العراق الجديد وكل حسابات أخرى، صيد في ماء عكر، لا يبدو أنها متوافرة، هذه الأيام في مجرى دجلة والفرات وبقية السبل في بلاد الرافديين

العدد 449 - الجمعة 28 نوفمبر 2003م الموافق 03 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً