العدد 4509 - السبت 10 يناير 2015م الموافق 19 ربيع الاول 1436هـ

السيرة في انتقالها بين الجغرافية العاطفية والأخرى الاضطرارية

«ذاكرة الوطن والمنفى» لعبدالنبي العكري...

عبدالنبي العكري في مناسبة توقيع كتابه
عبدالنبي العكري في مناسبة توقيع كتابه

ما الوطن؟ هو الرحم الثاني. كل ما يسكنك بمعاني الحب والأثرة، واستعدادك لأن تكون حجر عثرة في طريق من يحاول أن يتجاوز حدوده.

سنقف في «ذاكرة الوطن والمنفى» لعبدالنبي العكري، على تجوال بين الجغرافية العاطفية؛ حيث الطفولة في مكانها الأول... المشاهد. قدرة الذاكرة والذكريات على صوغ مرجعياتها، واللغة على اختلاف مستوياتها، تظل الأداة لتقديم نفسك إلى العالم.

ومثلما للوطن ذاكرته، للمنفى ذاكرته الحادّة والرهيفة؛ تلك التي تأخذك تجوالاً فيما صنعت، وما كنت، وما أنت عليه اليوم.

هل نتكئ على مقولة الفيلسوف الأيرلندي برنارد شو: «سوف لن يهدأ العالم حتى ينفد حب الوطن من نفوس البشر».

هل ينفد مثل ذلك الحب؟ كيف يكون شكل الحياة حينها؟ نفاد الحب يعني في صورة أو أخرى نفاد القيمة والمعنى الذي يمكن أن يتحدّد للإنسان.

حتى لو بدأت بعض السيَر من بيت الجد، كأنها تبدأ من المنفى، وخصوصاً إذا قُيِّض لصاحبها أن يمعن في أكثر من منفى، ولا يعرف استقراراً على مستوى المكان. المكان الذي سيعيد تشكيل روحه ونظره ورؤيته مع العالم من حوله.

ما المنفى؟ ألاَّ تجد أرضك داخل نفسك. أن تقف على أرض لها سماء غير التي تعرف في كثير من الأحيان.

وبحسب شاعر العرب الكبير الراحل، محمود درويش، ثمة منفيان، داخلي وخارجي، وفي تسجيله للمعنى الثاني، ربما يكون صاحب السيرة، الناشط عبدالنبي العكري، مسَّه الضر بالفعل الناتج عنه، وهو ضرٌّ بالمناسبة، أعاد تشكيله على أكثر من مستوى، تماماً كما يذهب درويش بالقول: «المنفى الخارجيّ هو انفصال المرء عن فضاء مرجعي، عن مكانه الأول وعن جغرافيته العاطفية. إنه انقطاع حادّ في السيرة، وشرخٌ عميق في الإيقاع، هنا، يحمل المنفيّ كُلَّ عناصر تكوينه: الطفولة، والمشاهد الطبيعية، الذاكرة، الذكريات، مرجعيات اللغة».

سيرة الانتقالات

الكتاب الصادر عن دار «فراديس» في طبعته الأولى العام الجاري (2015)، في 336 صفحة من الحجم الكبير، يقترب كثيراً من التسلسل الزمني، على الأقل في مفتتح السيرة، وإن جَانَبَ التسلسل نفسه في بقية فصول السيرة. إذا هو كتاب سيرة بامتياز، سيرة صاحبها مشفوعة بسيرة المكان. الأمكنة إذا صح التعبير. سيرة الوجوه. سيرة الأحداث المكتنزة بزمنها والوجوه في الوقت نفسه. سيرة الانتقالات التي أخذته إلى أكثر من أرض وكفاح في فترة مفصلية من تاريخ المنطقة، يوم كان الوجود البريطاني مهيمناً على كثير من جغرافية المنطقة. يوم كان الكفاح المسلح يشتد ويخبو أحياناً. الدرس الذي لن يفهم أبناء ذلك الجيل طريقتهم في الحياة وأسلوب تلك الحياة بعيداً عنه.

أول السيرة... المنفى الداخلي

بين الولادة في العام 1945، وحياة لم تكُ مستقرة بانتقالات سيعرفها الفتى، مرة للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، والانخراط في العمل النضالي الطويل، والعودة إلى الوطن في 28 فبراير/ شباط 2001، ثمة انتقالات لم تنتهِ أيضاً، وهذه المرة من الداخل. ونحن هنا إزاء منفى آخر: منفى الداخل، ذلك الذي لامسه درويش بحساسية الشاعر والمنفيِّ في وقت واحد بقوله: «المنفى الداخلي هو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته، وتأمُلّ عميق في الذات، بسبب اختلاف منظوره عن العالم وعن معنى وجوده عن منظور الآخرين، لذلك يشعر بأنه مختلف وغريب، وهنا، لا تكون للمنفى حدود مكانية. إنّه مقيم في الذات المحرومة من حريتها الشخصية في التفكير والتعبير، بسبب إكراه السّلطة السياسية أو سلطة التقاليد. يحدث هذا في المكان المضادّ، تعريفاً للمنفى. يحدث هذا داخل الوطن».

الوعي على الحماسة الأولى

في تفتُّح عينه على الدنيا «في منتصف الأربعينات في البيت الكبير لجدي منصور، وأبي هو أكبر الأبناء وكان طبيعياً حينها أن يسكن الابن مع أبيه ويؤسس بيتاً لنفسه؛ ولذا فقد كان البيت يضم أيضاً أعمامي وعائلاتهم».

في العادي من مفتتح السيرة وتسلسلها. اللحظة المتحمسة ما بعد الولادة تلك، بميلاد آخر يتحمس له الوالد مع نشأة هيئة الاتحاد الوطني، وحضور الابن للاجتماعات في أكثر من منطقة في البحرين، بين المنامة والسنابس والبلاد القديم. تتفتَّح عين الفتى على العنفوان في الحراك وقتها. وعي أول مثل ذاك لابد سيصيبه بخيار سيتخذه مسلكاً في المقبل من السنوات. الخيار الذي سيعيد صوغ رؤيته والطريقة التي يريد أن يحيا بها؛ وكذلك الناس.

وللموت في ذاكرته أثر «توفيت الأخت الكبرى باكراً»، «وأكثر لحظة مؤلمة في حياتي هي عندما وصلني خبر وفاة أمي وكنت في بيروت في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1977. اختليت بنفسي وبكيت بحرقة».

التخرج من الجامعة والعمل في دائرة الزراعة، والانهماك الضروري الذي اختاره في العمل الحزبي، كل ذلك ترك شعوراً بالتقصير تجاه العائلة الأولى. سيشكل ذلك في مسارات حياة ثرية بالانتقالات أثراً في تفاصيلها.

ذاكرة الأحداث

التشظية في تسلسل السيرة هي ما يجعلها حيوية. لا تترك للقارئ ذلك الانتظام الممل والمضجر. يحدث ذلك كثيراً في السير التي تتحرى الانتظام في تسلسلها. تختفي التفاصيل. الذاكرة وإن كانت مرتبة تكتنز بالكثير، والذكاء في التقاط ذلك الكثير دون التفات لتسلسلها في مناخ السيرة، وذلك ما يعمد إليه العكري في كثير من فصول كتابه.

«من أهم ما يعلق بالذاكرة الهجوم الذي تعرض له موكب عزاء عاشوراء في المنامة في 20 سبتمبر/ أيلول 1953، العاشر من محرم 1373، تلاه هيجان كبير، وأذكر أنني وعمي عيسى وجعفر العكري وبعض أقاربي، كنا موجودين بحكم الاحتشاد التقليدي، وحدث الهيجان والهروب الفوضوي، حيث ركضنا من المنامة إلى النعيم، ثم على امتداد الساحل حتى وصلنا إلى قريتنا الديه، وكذلك الصدامات المؤسفة بين الشيعة والسُنَّة، والتي بدأت في موقع مصنع التكرير لشركة بابكو في سترة في 15 يونيو/ حزيران 1954، وكذلك حادثة إطلاق النار على المحتجِّين عند القلعة (مقر دائرة وقوات الأمن) واستشهاد أربعة من المواطنين، وذلك يوم الأربعاء 1 يوليو/ تموز 1954».

سيشكّل كل ذلك ذاكرة الفتى في انتقالات بعدها، تفرُّغاً لتعهّد قضايا الإنسان وحقوقه. الوقوف على الصيغ التي تتعامل معه. لن يكون بمنأى عن ذلك.

انتقالات بيروت

يُقيَّض للعكري أن يكمل دراسته الثانوية في العاصمة اللبنانية (بيروت)، وقتها كانت مصدر الإشعاع، ومنها سيستمد قدرته على التكيّف مع بيئات هي على النقيض. بيئات مليئة بالمواجهات، وتغيّر الأمكنة، والقلق، والبحث عن وصفة ما للاستقرار وسط كل ذلك القلق والانتقال.

في الجامعة الأميركية في بيروت، والالتحاق بكلية الزراعة. تفاصيل يمتلئ بها الفصل عن المكان والدرس الأول، والمعلمين وزملاء الدراسة، وتزامنها مع حوادث مفصلية في الداخل والخارج.

رابطة طلبة البحرين، باعتبارها المدخل والإطلالة الأولى على المجتمع والسياسة والعالم أيضاً، والذين كانوا معه وعاصرهم وقتها: محمد خليفات، حمد أبل، والصيدليان جعفر العلوي، وسيد شبَّر شرف، وعلي مطر، وسلمان مطر، وعبدالرحمن النعيمي، والأخير سيظل ملازماً له في الانتقالات من منفى إلى منفى حتى العودة.

لهزيمة حزيران في العام 1967 حضورها وأثرها، قبل أن يتخرج من الجامعة. كان لذلك أثره في تشكّله، بصورة أو أخرى، قبلها كانت ثورة 14 تموز 1958 في العراق، واستقلال الجزائر في 1961، وانطلاق الثورة الفلسطينية في العام 1965. وإطلالته على مصر فترة الدراسة، ومعاصرة الوحدة بين مصر وسورية والخيبة التي ختمت ذلك الحلم.

البحرين... الإبحار عكس التيار

يعود العكري إلى البحرين في يوليو 1967. أجواء هزيمة حزيران تخيّم على الفترة تلك. المشهد السياسي في البحرين، كان سيئاً كما يصفه و»على صعيد المعارضة فقد كانت تعاني من تمزقات الصراعات السابقة ما بين التيارات الثلاثة: الشيوعي والناصري والبعثي، إضافة إلى انشقاقات في التيار البعثي في ضوء التوجهات اليسارية التي قادها صلاح جديد ورفاقه في سورية ضد قيادة عفلق...».

كان على العكري والنعيمي أن يبحثا مع رفاق آخرين عن صيغة جديدة لإعادة اللحمة للتنظيمات التي تتفق فيما بينها على الهدف، بعد قراءة للظروف المحيطة «في ظل هذه الظروف وبمبادرة من المناضل عبدالرحمن النعيمي، فتحنا حوارات مع التنظيمات القريبة منا، وهي منظمة الشباب الثوري بقيادة علي ربيعة، وجبهة تحرير الخليج العربي بقيادة الشهيد محمد بونفّور، وجبهة تحرير شرق الجزيرة (يسار البعث)، بقيادة عوض عبيد اليماني، وحسين قاسم. ومع عناصر التنظيم البارزة، فايز ربيعة، والعامل عيد ياسين من سكن العمّال في المحرق، وموظف مصرفي (أبوالفتح) من أم الحصم وآخرين...».

فكان ميلاد تنظيم الجبهة الشعبية - فرع البحرين؛ حيث توزعت المهام على النحو الآتي: عبدالرحمن النعيمي، المسئول التنظيمي والعالقة مع التنظيمات الوطنية الأخرى. عبدالرحمن جمشير، مسئول عن العمل في أوساط الأندية، كونه منسق اللجنة ما بين الأندية، وسكرتير نادي البحرين «وقد انسحب بعد ثلاثة أشهر»، وعبدالنبي العكري، مسئول العمل مع الجمعيات وأندية الريف، وليلى فخرو، مسئولة التنظيم النسائي.

انتقالات اليمن... نحو ظفار

ذلك التعدّد في الانتقالات يعمل عمله في إعادة صياغة الوعي. لكل مكان أثره وقدرته على ذلك الصوغ، كثر أم قل. نتحدث عن انتقالات لا استقرار فيها، بل تتنامى درجة الابتعاد عنه من مكان إلى آخر.

ربما شكَّلت الثورة العمانية واحدة من المفاصل المهمة في تجربة وحياة العكري، ومنها حدثت قفزات على مستوى مباشرة العمل التحرري، والنضال في تلك الفترة الزمنية المليئة بالتحولات والتحديات. تحضر في السيرة باعتبارها ضلعاً من تلك الحياة، وفي العمق من الانتقالات التي سبق تكرارها في هذه المراجعة. من هناك كانت عودة إلى بيروت «في غمرة الانشغال بالعمل التنظيمي للحركة الثورية في عُمان والخليج العربي في البحرين نهاية العام 1970، جاءني التكليف من عضو المكتب السياسي للحركة الثورية الرفيق المناضل المرحوم سعيد سيف (عبدالرحمن النعيمي)، بالتوجه إلى بيروت حيث كان يقيم حينها». كانت بغداد هي الطريق إلى بيروت، ثم سورية، وفي بيروت أخبره النعيمي أن المهمة تنتظره للتوجه إلى ظفار.

يسبق ذلك الدخول في دورة تدريب عسكرية قصيرة لدى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. «ومع التدريب كنت أجد نفسي متعباً بشكل لا يصدق».

بالوصول إلى عدن نقف على ما يشبه التفاصيل العابرة، ولكنها جزء من قدرة التواؤم والتكيّف مع المكان الجديد، الذي سيكون له زمنه المختلف في الوقت نفسه، وبشره الذين وجدوا أنفسهم في مواقع ومهمات لا مزاح فيها!

وصف لعدن، ومدينة شبام التي أسرته، وقبل ذلك المهام التي أوكلت إليه. يعبر بنا فصلاً من «تغير الأزمان»، وبعد سنوات، يتناول فيه مرحلة لاحقة «وبوساطة سعودية جرى الاتفاق بين اليمن الديمقراطية وسلطنة عُمان في 27 أكتوبر 1982، على ما يعرف باتفاقية المبادئ لعلاقات الطرفين القائمة على احترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل، وحل الخلافات بالحوار، وإقامة علاقات دبلوماسية».

وجوه رفاق ليسوا للنسيان

على امتداد الانتقالات، ثمة ما يجمع من أراضي شتى. يأتون/ يأتين من كل فجّ تلبية لنداء يرونه بالفطرة من المهمات التي تكمل حياتهم، على رغم المخاطر والأنواء، والتكاليف، ومن ثم الاستحقاقات. وجوه، أسماء، لكل منهم قيمته وأثره ودوره. في فصل «العمانيون كما عرفتهم»، سنقف على بعضهم ممن هو عماني بحكم النضال الذي يجمع، في الوقت الذي يؤجل النظر إلى الأمكنة التي جاء منها بعضهم منها، يبدأ الأسماء بـ: محمد أحمد الغساني، سعيد أحمد الغساني، سالم الغساني (طلال سعد)، سالم الغساني (أبوخالد)، علي الغساني (أبومنير)، خالد القاسمي، خالد الغساني، أحمد سالم البريكي، سعيد مسعود مريخ، رجب بن قرع، عمر جامدة، عبدالعزيز القاضي (أبوعدنان)، عبدالحافظ جمعان، جابر مرهون فليفل، محمد عوض السرج، أحمد عبدالصمد، مهدي جعفر (أبوطفول)، والكويتي أحمد الربعي، حسن سالم رجب، سعيد الرويحي، أم عزّة (عفيفة)، شعبان أحمد، عبدالله طاهر، عبدالله محسن، جبل عوض، خلفان الشمج (حمدان الظبياني)،، عاصمة الجمالي (وفا)، سعيد الشخصي (صالح علي)، بشرى حميد الغساني، نبيلة الغساني، محمد السبّاح، محمد بازنبور، أحمد سهيل فارح، سعيد دبلان (أبوأحمد)، وانتهاء بمحمد بن دعُّوس.

سيرة ممتعة، كُتبت بلغة غير متكلّفة، لن تشعر بـ «الأنا» في ثناياها؛ بل ستشعر بالمجموع، الجماعة، الناس، البشر الذين صنعوا تلك المرحلة، متحمّلين ما نتج عنها، لأنها تستحق مادامت تتحرّى الإنسان وقيمته وكرامته، وحياته في ظل ما يستحقه كبشر أولاً، وقدرته على صنع الجميل والفارق والمبهر حين ينال حقه من كل ذلك.

قائمة الإصدارات

بقيت الإشارة إلى أن للناشط عبدالنبي العكري عدداً من المؤلفات من بينها: «مسيرة القمع في البحرين»، «التقارير السنوية لحالة حقوق الإنسان في البحرين - لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في البحرين للأعوام 1992 - 1997»، «التنظيمات اليسارية في الخليج والجزيرة العربية»، الوجود الأجنبي في الخليج»، «آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان»، «قراءة في حقوق الإنسان»، «قراءة في مشروع الإصلاح الديمقراطي»، «حول خرق حقوق الإنسان في البحرين»، «محكمة أمن الدولة»، «الإصلاح المتعثِّر»، إضافة إلى عدد من الترجمات، من بينها: «الاتفاقيات المعقودة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي»، ترجمة سلسلة تقارير استراتيجية صادرة عن برنامج تقارير الشرق الأوسط، المعهد الملكي للعلاقات الدولية، «إيران والعرب»، «الجزيرة العربية بعد العاصفة»، روجر هاردي، «النفط والسياسة، الخليج بعد الحرب»، بول ستيفنز، «أوروبا والعرب»، ديفيد ماكدويل، «السعودية في الثمانينات»، وليم كوانت، «انتهاكات روتينية، انكسار روسي»، هيومن رايتس ووتش، و «مضيق هرمز».

العدد 4509 - السبت 10 يناير 2015م الموافق 19 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً