العدد 4512 - الثلثاء 13 يناير 2015م الموافق 22 ربيع الاول 1436هـ

مذبحة «شارلي إيبدو» والخلل الفاضح

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

تبدو تداعيات مذبحة «شارلي إيبدو» التي نفذها إرهابيون بباريس، مثيرةً للجدل والاختلاف على المستويين السياسي والفكري، ليس في الداخل العربي والإسلامي فحسب، وإنما في الخارج مع الآخر المختلف، فالجريمة همجيّة بامتياز وتمثل اعتداءً فاقعاً على حريّة التعبير والديمقراطية. وماذا أيضاً؟

أيضاً الجريمة أحدثت إرباكاً في الأوساط التي سادتها خطابات الشجب والإدانات، وذلك لأمر بديهي كشفته مداولات التواصل الاجتماعي، فما يندّد به بعضهم، يبرّره آخرون ويجدون له الأسباب، بل وينال التصفيق والإشادة من غيرهم وإن شكّلوا أقلية، وفي هذا مصيبة وكارثة أخلاقية بحق.

الإرهاب صنيعة تعليمنا

في التنظير الفكري نستذكر ما كتبه المفكر علي حرب في كتابه «الإنسان الأدنى»، (بيروت، 2005): «بأن الوحش الإرهابي، يفاجئنا ويصدمنا من حيث لا نحتسِب، والذي نستنكره وندينه، من حيث لا نعقل، هو صنيعة تعليمنا وتعاليمنا بقدر ما هو ثمرة عقولنا وأفكارنا. فنحن الذين ربّيناه ورعيناه في العقول والنفوس بنماذجنا الثقافية وفتاوانا الشرعية، بمهماتنا الإلهية ودعواتنا المستحيلة ووكالتنا الحصرية على القضايا والشئون العامة أو على الهويات والعناوين الوجودية».

في الشأن ذاته ينتقد سامي كليب بقسوة «الكامن في نفوسنا من عنصرية وحقد يشجعان ضمناً على الإرهاب ويهللان له»، يقول: «هي الأمراض الدفينة في مجتمعاتنا وعروبتنا وإسلامنا تلك التي تشكل جسراً صلباً يعبر فوقه الإرهاب بكل اتجاه، لاسيما والممارسة الإسلامية تعاني من خلل كبير يتسم بجمود فكري وعجز، وكذا في تربيتنا المذهبية والطائفية الحاقدة على المذاهب والطوائف الأخرى والمشككة والمحتقرة لها، إضافة لخلل فاضح في العروبة التي تحولت إلى مطيّة لديكتاتوريات وأنظمة وتسلط أمني يقمع حرية الفكر ويلغي العرقيات، وفي انتهازية اليسار العربي وتخليه عن مبادئه وتحوله إلى من يلوح له بالمال والثروة». («الأخبار»، 9 يناير 2015)، وبالتالي هل يكفي جلد الذات عند تفكيك ظاهرة التوحش الإرهابي؟ ماذا عن الآخر؟ ما مسئوليته؟ كيف ساهم بهذا القدر أو ذاك بحدوث هذه المذبحة وغيرها؟

لنلقِ نظرةً على مقاربة أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم» (2009) وما توصل إليه في تحليل الظاهرة، حيث يشير إلى أننا «أمام تفسيرين للتاريخ تبلورا حول مفهومين لـ (العدو)، الأول يرى أن الإسلام أظهر عجزه عن تبني القيم المسكونية التي ينادي بها الغرب؛ وأن ممارسة الدين في البلدان الإسلامية تعكس المأزق التاريخي الذي تعيشه الشعوب؛ فإذا خرجوا منه، سيجدون الآيات المناسبة للديمقراطية والحداثة والعلمنة والتعايش وتمجيد الحياة، وستكون علاقتهم مع قراءة النصوص أقل صرامة وتهيباً وأقل جموداً، فيما يرى الثاني أن الغرب يطمح إلى السيطرة العالمية التي يقاومها المسلمون بما بقى لديهم من وسائل محدودة. وعليه فالتفكر في عاهات العالم الإسلامي رغم واقعيتها ومأساويتها لا تفسّر كل شيء، ذلك لأن للعالم الغربي أيضاً تقصيراته التاريخية والأخلاقية الخاصة، وفي الغالب عرفته الشعوب المغلوبة على أمرها من خلال هذه التقصيرات، لم لا والحضارة الغربية بدورها عجزت عن نقل ما لديها إلى الآخرين كما يليق، لاسيما حين أقامت أميركا نظاماً للتمثيل السياسي بعد احتلال العراق يرتكز على الانتماء الديني أو الإثني، ما شجّع العنف، فتقديم الديمقراطية المسمومة التي تكرس الطائفية، خزى وعار بل جريمة تمت بقصد».

في التنظير السياسي، ثمة ما يستوجب الإشارة إليه، بأن صحيفة «شارلي ايبدو» تأسست العام 1969، وقد عرفت بخطابها الاستفزازي الساخر لأبرز الرؤساء الفرنسيين، فضلاً عن نشرها رسوماً كاريكاتورية مناوشة لكل الأديان اليهودية والكاثوليكية وللكنيسة والسيد المسيح، كما أنها تتماهى مع خطاب اليسار المتطرف، ونشرت دعوتها «إلى محاربة الإسلاموية بوصفها توتاليتارية دينية تهدد الديمقراطية بعد الفاشية والنازية والستالينية».

وفي 2011 أصدرت عدداً خاصاً بعنوان «شريعة ايبدو» أعلنت فيه النبي محمد «رئيس تحريرها الشرفي» ناشرةً رسمةً ساخرةً بتعليق «100 جلدة إن لم تموتوا من الضحك». تعرضت لضغوظ كثيرة، وأثارت تلك الرسمة موجة احتجاجات أدّت إلى إحراق مكاتبها وتعرّض موقعها الإلكتروني للقرصنة، ومؤخراً تعرضت لمذبحة وتصفية لهيئة تحريرها ورسامي الكاريكاتير الأربعة الأشهر في فرنسا، حيث أجمع المحللون على أن المهاجمين أظهروا كفاءة عالية واحترافاً في التخطيط والتنفيذ، ما يدلّ على أن العملية من صنيعة تنظيم احترافي. هذا وتجد «شارلي ايبدو» أن سخريتها من المسلمين أو غيرهم إنما تأتي في إطار ممارسة حرية التعبير ليس إلا.

أسباب المذبحة

كثرت الأحاديث عن أسباب المذبحة وتداعياتها، منهم من ركّز على دور الاستبداد والدكتاتوريات وانعدام الحريات والكرامة والفقر في المجتمعات المحلية، تلك التي شكّلت بيئةً مؤاتيةً للإسلام الأصولي بإغراء الشباب المسلم وجذبه نحو العقيدة الدينية السلفية المتطرفة، وتطويعه لتوجيه ضربات موجعة للغرب، وهو ما حدث في تفجيرات 11 سبتمبر ومدريد وبريطانيا، وآخرها هجوم «شارلي ايبدو»، وبالتالي فهو يعكس في جانب منه حالة الصراع السياسي والحضاري المفتوح بين الجماعات الإسلامية المتطرفة والغرب. بل ذهب أحدهم إلى القول بأن «الحضارة الإسلامية بمعتدليها وأصولييها، لا تحتمل التعرّض لرمزية نبيّها ومقدساتها، وتكفّر بشكل معلن أو مبطن صاحب الفعل».

بعض التقارير تناولت تأثير التجييش الغربي للقوى الطائفية والتكفيرية التي تم دعمها سياسياً ولوجستياً وإعلامياً وعسكرياً، الأمر الذي ساهم في تمدّد ظاهرة الإرهاب. كما تدور السجالات حول مسئولية الثغرات الأمنية الفرنسية وسياساتها الخارجية التي ابتعدت عن الحياد في الصراعات، وتدخلها في ليبيا وموقفها من سورية، ومشاركتها في التحالف الدولي ضد «داعش»، بل واستخفافها بشأن تنقل «الجهاديين الفرنسيين» من مطاراتها لـ «الجهاد» في الشرق الأوسط، واستخدامها الإرهابيين كأداة في سياستها الخارجية.

هنا يستوجب الإشارة إلى ما يتعرض إليه المغتربون في فرنسا وأوروبا من تمييز وأزمة ازدواج الهوية، والشعور بالإهانة والأبوية والتعالي إزاء سحنتهم أو أسمائهم أو لكنة لغاتهم الأصلية، وما تعكسه ظاهرة شباب الضواحي وأحزمة الفقر ممن يعانون التهميش الاجتماعي والبطالة. فلكي يتماهى المغترب مع المجتمع لابد من الاعتراف به أولاً، وبانتمائه المزدوج وبكرامته، وبصورة أدق كرامته الثقافية -كما يشدّد معلوف- تلك التي يمثل الدين واحداً من عناصرها.

في كل الأحوال، فرنسا وغيرها لاتزال معرّضةً لاحتمال هجمات جديدة، لاسيما مع تمدد حالة الطوارئ وتحفز الخلايا الإرهابية النائمة. ومع تصاعد حدة خطاب كراهية الإسلام المتنامي من قبل أحزاب اليمين المتطرف في القارة العجوز، باتت هذه الأحزاب تكتسب تأييداً متنامياً، فما حدث يمثل فرصة ذهبية لها لجذب المقترعين لخطابها وصناديقها، خصوصاً وقد بيّنت استطلاعات للرأي أن 61 في المئة من الألمان يرون أن الإسلام لا يتناسب وحياة الغرب، ويعتبر 57 في المئة منهم أنه يمثل تهديداً لهم، وها هي زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان، تشير بأصبعها إلى ما تراه سبب «الإرهاب» وهو الهجرة المغاربية، قائلةً: «إنه هجوم إرهابي باسم الإسلام المتطرّف»، داعيةً إلى «الردّ بحزم»، على الرغم من أن الخطاب الرسمي يتجنّب التحريض ويشدّد على وحدة الداخل الفرنسي والسلم الأهلي، إلا أن اليمين المتطرف بات يضع طرد الأجانب من أوروبا أولوية الأولويات.

والنتيجة، التغيير والتصالح مع الذات، وخلق مساحات التعايش بسلام مع الآخر والتخلي عن استعدائه، تبقى مهمات وجودية تتطلب قوى حية وعُدَداً فكرية تأخذ على عاتقها هز المتاريس التي نحتمي بها وتكمن فيها أسباب تخلفنا، وذلك بالإصلاح السياسي والديمقراطي وتوسيع مجالات الحريات واحترام الحقوق.

فهل ندرك هذه المهمات قبل فوات الأوان؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4512 - الثلثاء 13 يناير 2015م الموافق 22 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:36 ص

      من المخطط؟

      الإرهابون نفذوا المذبحة ؛ لكن أشك - بعد سيل التسريبات - أن يكونوا هم من خطط لها. هذا ليس عمل و تخطيط أولئك الدراويش. هذا هو السنياريو الحرفي الذي ذكرته سوزان لينداور في كتابها " الإجراء الأقصى extreme prejudice " عن 11 سبتمبر!

    • زائر 2 | 11:50 م

      هم ينتقمون لانفسهم

      فقد شعروا بانهم خدعوا وتخلوا عنهم من ارسلوهم وتبخر حلم دولتهم، بعد ان حوصروا وبدا واضحا هزيمتهم، وبدا الاسد ينهش فيهم

    • زائر 1 | 11:11 م

      اي كان

      الاضطهاد السياسي لا يبرر القتل .. و لا سب رسول الله .. تعجبت من مقطع فيديو منتشر حاليا لعربي يتحدث اللغة الفرنسيه و يقول جزاء من يسب الرسول القتل !!
      سيرة الرسول و في حياته مر بسب و شتم و ايذاء جسدي و لفظي من الكفار و لم يكن منه الا التسامح لا القتل من اجل كلمة !! و قوله السن بالسن واضح ..
      مشاكلنا الدينيه واضحه ، فنحن لا ندرس في مدارسنا الا مذهب واحد و طائفه واحدة ، و لو تم تدريسنا عن مختلف المذاهب و الطوائف و تركوا الخيار لنا لنختار ما يناسبنا لما حدث ما يحدث .. جهلنا و تعصبنا وحده يقتلنا

اقرأ ايضاً