العدد 4559 - الأحد 01 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الأولى 1436هـ

أميركا بين تصدير الثورة وتصدير الديمقراطية

رضي السماك

كاتب بحريني

مصطلح «التصدير» ارتبط في الأصل بمفردات علمي التجارة والاقتصاد، ولكنه انتقل الى اللغة السياسية، وعلى وجه الخصوص في عالمنا العربي للدلالة على أي دولة في الاقليم أو خارجه تحاول تصدير افكار ثورتها، إذا ما كان نظامها جاء نتاج ثورة شعبية، إلى شعب آخر. ولعل بدايات انتشار هذا المصطلح كان في أوج قوة الاتحاد السوفياتي السابق كإحدى القوتين العظميين خلال عصر الحرب الباردة والذي كان يسعى إلى مد نفوذه في المنطقة العربية من خلال دعم حركات التحرر الوطني العربية. فقد اُتهم من قبل الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بأنه يهدف الى تصدير ما سُمي بـ «الثورات الشيوعية» في المنطقة، اُتهم النظام الناصري الذي بعد ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 بزعامة الرئيس المصري الاسبق جمال عبدالناصر أنه يهدف إلى تصدير الثورة من خلال دعم حركات التحرر في البلدان العربية التي لم تتحرر من الاستعمار في الخمسينيات والستينيات، ومنذ نجاح الثورة الشعبية الايرانية العام 1979 ظلت طهران ومازالت هي اكثر دولة توجه إليها أصابع الاتهام بتصدير الثورة، وبالاخص في البلدان التي يشكل الشيعة جزءاً من تركيبة نسيجها الوطني.

وإذا كان المصطلح في اللغة الاقتصادية هو مصطلح دقيق جامع مانع لا لبس فيه، فإنه في اللغة السياسية وفي واقع عالم السياسة يغدو مصطلحاً تدليسياً مخاتلاً وديماغوجياً. في الاقتصاد والتجارة «التصدير» هو عملية تجارية بحتة تعني تصدير أي نوع من انواع السلع المادية العيانية أو حتى التي تنطبق عليها قوانين حقوق الملكية الفكرية من دولة إلى أي دولة اخرى وفق القوانين والأنظمة التجارية الدولية المعاصرة، أما في عالم السياسة فإنه يستحيل على أية دولة مهما بلغ جبروتها وعظمتها على الساحة الإقليمية أو الدولية أن تقرر تصدير أفكارها وشعاراتها هكذا اعتباطاً بطريقة معلبة كتصديرها البضائع التجارية، وبمجرد وصولها للدولة المستهدفة تشعل او تنشر عدوى أفكارها أوتوماتيكياً فيتأثر الشعب بها ويقوم في اليوم التالي او حتى بعد حين لإسقاط نظامه المستهدف.

إن البضائع والسلع المصدرة لا يمكن ان تعبر الحدود إلا من خلال المطارات المعابر الحدودية برية كانت او بحرية، أما الافكار على اختلاف مشاربها، فإنها تخترق الحدود والفضاءات بدون استئذان او تنظيم قانوني دولي لتصل إلى عقول الشعوب، تأثرت بها أم لم تتأثر. وإذا كان الأمر هو كذلك حتى فيما قبل الثورة الصناعية ورسم حدود الدول الحديثة، فمن باب أولى ان يكون الأمر هو كذلك في عصر الفضاءات او السماوات المفتوحة.

وبهذا فلا تستطيع دولة اليوم ترفع شكوى إلى الامم المتحدة أو لأية منظمة دولية، كمحكمة العدل الدولية، ضد دولة اخرى بدعوى أنها تحاول تصدير ثورتها إلى شعبها، بل تستطيع ان تقاضي أية دولة إذا ما عملت على تصدير بضائعها بشكل غير مشروع إلى داخل الأراضي التي تحت سيادتها.

لكن الولايات المتحدة التي كانت ممن يروجون لمصطلح «تصدير الثورة « نست انها باتت منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2011 عملياً إنما تنادي بتصدير «الديمقراطية» عندما تبنت علناً غداة تلك الاحداث استراتيجية جديدة تقوم على ما تدعيه بدعم القيم الديمقراطية وتشجيع التحولات الديمقراطية والتحفظ على سياسات الانظمة الاستبدادية التي تعتبرها هي التي توفر البيئة الحاضنة لبذرة الارهاب وتناميها في المنطقة، وجاءت حربها على العراق سنة 2003 لاسقاط نظام صدام حسين في اطار هذه الاستراتيجية الجديدة، لكن أفضى مسعاها لتصدير النبتة الديمقراطية من خلال حرق المراحل الى نتائج كارثية مدمرة على العراق والمنطقة برمتها بل وعلى أميركا والغرب، فقد تفقست الجماعات الارهابية في مناخ فوضى الانقسامات والنزاعات المسلحة التي عمت العراق على خلفية اسقاط نظام صدام حسين وسياسات الاحتلال وغياب ضبط الحدود ونشأت «داعش» واخواتها المنشقة عن التنظيم الام «القاعدة» وتمددت الى سورية، فمثلما يؤدي حرق المراحل في الثورات الفوقية لاحلال أنظمة اجتماعية بالقوة دون التطور التدريجي للقوانين والشروط الملموسة لأي مجتمع ما ودون قياس مدى تقبله ووعيه بأفكار النظام الجديد يقود إلى فشل تلك الانظمة ونتائج كارثية، كذلك هو الحال فيما يتعلق بشن حروب بغرض مساعدة شعب للتخلص من النظام الدكتاتوري القائم واقامة نظام ديمقراطي جديد. وهذا ما اتبعته واشنطن من سياسة في أفغانستان ثم في العراق وهي السياسة ذاتها التي تتبعها الآن في سورية المنكوبة بها ومن خلفها حلفاؤها الغربيون والعرب، وحيث ثبت فشلها الذريع لاحلال نظام ديمقراطي في سورية بالسرعة المأمولة وسط مجتمع منقسم سياسياً ودينياً ومذهبياً ونظام مازال يتمتع بركائز سياسية واجتماعية واقتصادية أخطبوطية معقدة لم يستنفذها بعد، ولا يلوح في الأفق ما يومئ باستنفاذها إياها أو سقوطه الوشيك، وما ذلك إلا لأن الولايات المتحدة تجهل أساساً خصائص مجتمعات وشعوب المنطقة، وتبني سياساتها واستراتيجياتها الآنية على معطيات تقارير ودراسات مكتبية طارئة لا تغوص في مفاصل تضاريس وخصائص هذه الشعوب وأمزجتها وتاريخها السياسي على نحو معمق وليس سطحياً يأخذ بعين الاعتبار درجة تطور مجتمعات المنطقة والشروط والقوانين الملموسة لدرجة وعيها وتطورها، بل وغير مستعدة البتة دراسة أسباب كراهية ومعاداة هذه الشعوب مجتمعة لسياساتها في المنطقة منذ بروز النظام العالمي الجديد الثنائي القطبية غداة الحرب العالمية الثانية.

ومن نتائج تلك السياسات الأميركية الخرقاء منذ دعمها لجماعات الجهاد في أفغانستان أن شعوب أميركا نفسها وحلفاءها في اوروبا والمنطقة العربية باتت جميعها بغير مأمن من شرور الجماعات الإرهابية التي دعمتها وتفقست وتبرعمت في مناخ الحروب التي شنتها أميركا ذاتها. و الولايات المتحدة لديها اليوم العديد من مراكز ومؤسسات الأبحاث والدراسات التي تعتمد عليها بهذا القدر أو ذاك لرسم وتخطيط سياساتها واستراتيجياتها في المنطقة، ومن هذه المراكز مركز «إن سي تي سي» وهو من المراكز التابعة لمدير الاستخبارات الوطنية، وتم تطويره ليتخذ المسمى الحالي بعد أن كان أسمه في عهد بوش الابن «تي تي آي سي» لكنه بعد أحداث سبتمبر/ أيلول فشل في التنبؤ بأي حدث إرهابي في طور الاعداد، وهو أحد أهم المراكز المتخصصة في تنسيق العمليات المحلية والدولية لمكافحة الارهاب، وهناك عشرات المراكز الأميركية المتخصصة لهذه الأغراض، مثل مركز «تي آر سي» الذي تأسس العام 1996 واشترته بلاك ووتر الأمنية التي ارتكبت جرائم حرب شنيعة إبان الاحتلال الاميركي للعراق، وهناك شركة «آر كي بي» وهي تابعة بصورة غير مباشرة لوزارة الأمن الوطني، دع عنك عشرات المراكز المتخصصة في الدراسات النظرية للإرهاب وتتبع الجامعات.

وإذ يُفترض ثمة خطط بديلة فورية في حالة فشل خطط الحروب العسكرية، إلا أن أياً من تلك المؤسسات الدراسية المتخصصة في الظاهرة الإرهابية لا تقدم للإدارة الأميركية خططاً أو سيناريوهات بديلة فورية للتراجع عن الفشل الذريع في التنفيذ للخطط المتبعة سواء في الحروب التي تشنها الولايات المتحدة باسم مكافحة الارهاب أو لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية التي تمول الارهاب ام لمكافحة العمليات الارهابية في أميركا نفسها أوفي بلدان عديدة وخاصة حُلفائها، ناهيك عن نزعة المكابرة عندها كقوة عظمى تأنف عن التراجع الفوري عن تلك السياسات العقيمة. وليس الورطة التي باتت عليها سياساتها في العراق الذي احتلته ثم انسحبت منه مخلفة من جراء ذلك الاحتلال مشكلات لا حصر لها، فضلاً عن خططها الفاشلة بعدئذ لاسقاط النظام السوري بواسطة جماعات مسلحة جلها إرهابية، إلا خير شاهد على سياسة دفن الرأس في الرمال وعلى الفشل الذريع لفهم طبيعة وخصائص تطور شعوب ومجتمعات المنطقة العربية وطبائعها القومية على نحو معمق ليس تنظيرياً مكتبياً كما ترسمه لها مراكز أبحاثها المتعاونة معها.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4559 - الأحد 01 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:36 ص

      أمريكا وبريطانيا معها يستحيل ان تصدّرا الديمقراطية او تدعوا لها حقيقة

      أمريكا وبريطانيا يستحيل ان يدعوان للديمقراطية الحقيقية وحكم الشعوب لأن الشعوب اذا وعت وحكمت فإنها لن ترضى لثروات بلادها وسيادة بلادها ان تصبح العوبة في يد هاتين الدولتين لذلك هاتين الدولتين على الدوام تدعم الحكم الديكتاتوري . نعم ربما يفسحون لشعوبهما ممارسة الديمقراطية ولكنها محرّمة على غيرهم

اقرأ ايضاً