العدد 4584 - الخميس 26 مارس 2015م الموافق 05 جمادى الآخرة 1436هـ

الفكر البيئي في منظومة السلوك البشري والتنمية المستدامة

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

الفكر البيئي قيمة حضارية متأصلة في السلوك الإنساني ويتجسد في الموروث التاريخي لقيم ثقافة العلاقة الرشيدة للجماعات البشرية مع معالم النظم البيئية ومنذ أن وجد الإنسان على البسيطة اخذ يبحث عن الوسائل التي تؤمن له سبل المعيشة الآمنة والحياة المستقرة والمستدامة، وممارسة السلوك الذي يؤمن له ظروف البقاء. وكان يمارس السلوك الرشيد في العلاقة مع الموارد المتاحة وترشيد استهلاكها واستغلالها وفق حاجته لضمان استمرار توفرها وصون ديمومة بقائه.

الترشيد أو ما صار يعرف لدى المختصين والباحثين في العلوم البيئية بالنهج المستدام ويجري تعريفه في المدونات والوثائق البيئية الحديثة بـ «الاستهلاك المستدام». يمثل مقوماً مهماً في معادلة قيم السلوك البشري في العلاقة مع الموارد البيئية ومناهج استغلالها وطرق استثمارها وتنميتها لضمان ديمومة توفرها لصون بقائه على وجه البسيطة. ووفق ما تسجله الوثائق التاريخية والدراسات والتقارير العلمية والبيئية، فإنها تشير إلى حقائق ممارسة الجماعات البشرية السلوك الرشيد وتتبنى ثقافة العلاقة الموزنة في استغلال الموارد البيئية كعنصر رئيس للحياة والبقاء. وعمدت العديد من الجماعات في مراحل تاريخية متقدمة قبل الميلاد، إلى اعتماد نظم إجرائية حرمت بموجبها الصيد الجائر للأحياء البرية والاستغلال غير الرشيد للموارد الطبيعية.

الوثائق التاريخية تشير إلى حقائق مهمة في مفاهيم السلوك البشري الرشيد والعلاقة مع الموارد البيئية. وتؤكد على ان المجتمعات في العصور القديمة كانت لها علاقات متميزة تحكمها مجموعة من القواعد القانونية والتقاليد الشعبية والأخلاقية. وتورد ثوابت ذات قيمة حضارية تشير إلى أن رجال الغابات في ناميبيا يثيرون غضب الههم إن هم قتلوا من الحيوانات أو جمعوا من الثمار ما يزيد عن حاجتهم، وان سكان الجبال في الغابات الشمالية يختارون مناطق صيدهم وفقاً لما تنبئهم به ممارسات الكهانة. كما أن الاراندا في استراليا أعلنوا أن جميع المواقع الكائنة في حدود كيلومترين من مستوطنهم مواقع مقدسة. وكانت لديهم محرمات طوطمية تكفل ملاذات مأمونة لأنواع معينة، وصيادو البرهور في شمال الهند يتركون بعض المناطق تستريح لفترات تتراوح بين سنة وأربع سنوات.

ثقافة صون التنوع الحيوي قيمة مهمة في منظومة السلوك البشري للمجتمعات القديمة، ويمكن تبين ذلك في المراسيم التي أصدرها ملك الهند أسوكا نحو 247 – 242 ق.م «في إطار السعي لحماية بعض الحيوانات من الانقراض والتي حدد بموجبها قوائم الحيوانات التي يحظر قتلها، وخصص غابات للفيلة جعل عليها حراساً ورئيساً للحرس، كما أن الأمبراطور صونج في الصين أصدر في العام 1107 مرسوماً إمبراطورياً حظر بموجبه قتل الرفراف لغرض استخدام ريشه في تزيين ثياب النساء.

وفي انجلترا تم حماية الأيائل بفعل حديقة الآيل المحاطة بخندق وأسيجة من أوتار البلوط. وفي العصور الوسطى كان لدى أسقف ورهمان عشرون حديقة من هذا النوع، ويتبنى القانون الروماني وقانون حمورابي منظومة من القواعد القانونية التي تحرم الأنشطة غير الرشيدة في العلاقة مع الموارد الحيوية لحياة الإنسان.

للموارد المائية كعنصر مهم للحياة والبقاء قيمة في مفاهيم الجماعات البشرية وحرص الإنسان منذ الازل على تبني نهج السلوك الرشيد في العلاقة مع هذا المورد الحيوي للحياة، وابتكار الوسائل والإجراءات والتدابير الوقائية التي تؤمن صون بقائه وتحقيقاً لذلك النهج عمد الى تشييد السدود المحصنة للحفاظ على وجوده وديمومة توفره، كما هو عليه الحال في سد «مأرب»، الذي وفق ما تسجله المدونات التاريخية، كان الضمانة الاستراتيجية لحياة الجماعات البشرية في شبه الجزيرة العربية، وأدى انهياره إلى هجرة القبائل العربية التي كانت تستمد حياتها ومعيشتها وبقاءها من مخزونه المائي للبحث عن مصدر مستدام للحياة.

الترشيد والنهي عن الاسراف وتنظيم العلاقة في استغلال الموارد الطبيعية وصون منظومة المعالم البيئية كمفهوم وثقافة ومقوم مهم في مرتكزات الفكر البيئي تمثل قيمة روحية وأخلاقية في جوهر المبادئ الإسلامية. ويجري الإشارة الى هذه المنظومة القيمية في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتوجب هذه القيم على الإنسان ضرورة الالتزام بنهج العلاقة السليمة في استثماره للموارد المتاحة، واعتماد الوسائل السليمة للحفاظ على قيمة الأرض وإنتاجيتها، وعدم ممارسة الأنشطة التي تتسبب في تدهور نظامها البيئي، وتبني السلوك السليم الذي يحد من الممارسات غير الرشيدة، ويفضي إلى صون نقاء ونظافة المحيط البيئي للإنسان.

القيمة الانسانية للفكر البيئي ضمن مفاهيم السلوك البشري الرشيد كضرورة استراتيجية لصون الامن البيئي للمجتمعات البشرية صارت تؤكد حضورها وقيمتها في المشاريع الدولية وفي منظومة القواعد والالتزامات في الاتفاقيات الدولية في الشأن البيئي وفي مبادئ المؤتمرات العالمية للبيئة والتنمية المستدامة ذلك ما يمكن تبينه على سبيل المثال في المبدأ (3) من مبادئ مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئةالبشرية (1972)، الذي يؤكد على أنه «يتعين الإبقاء على قدرة الأرض على إنتاج الموارد الحيوية المتجددة، وتجديد هذه القدرة حيثما تسنى ذلك عملياً». وتأكيداً على نهج السلوك الرشيد يبين المبدأ (8) في إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية (1992) «من أجل تحقيق التنمية المستدامة والارتقاء بنوعية الحياة لجميع الشعوب، ينبغي أن تعمل الدول على الحد من أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدام، وإزالتها وتشجيع السياسات الديمغرافية الملائمة».

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 4584 - الخميس 26 مارس 2015م الموافق 05 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً