العدد 4589 - الثلثاء 31 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الآخرة 1436هـ

يوم الأرض وعرب 48 الذين لا نعرفهم

رضي السماك

كاتب بحريني

يحمل الاحتفال بيوم الأرض الفلسطيني الذي مرت ذكراه الأربعون يوم أمس، مغزى تاريخياً سياسياً مميزاً لنضال الشعب العربي الفلسطيني، وعلى الأخص داخل «إسرائيل» أو ما اصطُلح على تسميتها بـ «أراضي 48»، ولنضالات شعوبنا العربية من أجل الحرية والديمقراطية بوجه عام. إذ يأتي هذا الاحتفال عشية الانتصار الانتخابي البرلماني التاريخي غير المسبوق الذي حققته القائمة الانتخابية الموحدة لعرب 48 والتي اكتسحت 13 مقعداً، وهو أكبر رقم تحققه هذه الأقلية القومية في تاريخ نضالها السياسي السلمي منذ اغتصاب وطنها فلسطين وإقامة الدولة العبرية الصهيونية على جزء كبير من أراضيها.

والملم جيداً بأوضاع «عرب 48» داخل «إسرائيل»، يدرك جيداً معنى ومغزى ذلك الانتصار الكبير الذي تحقق والذي لم يكن بالأمر السهل واليسير البتة، بالنظر للظروف الشاقة والمعقدة التي ناضل ويناضل في ظلها ذلك القطاع من الشعب العربي الفلسطيني الذي عجزت عصابات الاحتلال الاسرائيلي عن اجتثاثه من ترابه الوطني، وفشلت في حمله على النزوح والتشرّد كما فعلت تجاه الأغلبية من أبناء شعبه عدا من تمت تصفيتهم وإبادتهم، وبقي من يومها كالعظم في بلعوم الدولة العبرية.

لكن هذه الأقلية التي نجحت في التشبث بترابها الوطني المغتصب، إنما وجدت نفسها غداة النكبة في واقع سياسي جديد، محكومةً ظلماً وعدواناً ضمن أراضي وسياج هذا الكيان العنصري الصهيوني الجديد، وليس أمامها سوى خيارين أحلاهما مُرّ: فإما أن تقبل التحدي وترسم طريقها النضالي الخاص بها وإما أن تُسلّم أراضيها ومساكنها للدولة الصهيونية طواعيةً وتلتحق بقوافل المشردين في مخيمات اللاجئين داخل فلسطين وبلدان الشتات العربية. فكانت أن قبلت التحدي واختارت خيار البقاء، واختطت لها طريقها الكفاحي الخاص، لترسم أروع لوحة سياسية في تاريخ النضال العربي، عبر اتقان تلازم النضالين الوطني والديمقراطي معاً. وبفضل هذه التجربة النضالية البرلمانية والسلمية المميزة رغم كل علاتها وشروطها العنصرية الاسرائيلية، ليس من قبيل المبالغة القول إن هذه الأقلية هي أكثر فئة من فئات الشعب العربي اعتدالاً وواقعيةً في الممارسة النضالية بسقفها الموضوعي منذ نكبة شعبها العام 1948، وباتت تكتنز اليوم تجربة فريدة ليس في الجمع بين النضالين الوطني والديمقراطي داخل الكيان الاسرائيلي، والخارج (الضفة والقطاع والشتات) فحسب، بل وتكتنز خبرة مديدة في العمل البرلماني اكتسبت بفضلها نضجاً ديمقراطياً مميزاً بين سائر فئات شعبها، ليس في مواجهة أعدائها داخل الكنيست فحسب، بل وفي طريقة أداء وإدارة وتنظيم اختلافات قواها السياسية، وهو ما افتقر إليه أشقاؤها للأسف في فصائل المقاومة المسلحة والذين طالما لجأوا إلى الاقتتال لحسم خلافاتهم ومازالوا، كما حدث في قطاع غزة قبل بضع سنوات، وتحديداً بين «فتح» و»حماس»، حتى بعد انتهاء عصر الكفاح المسلح انطلاقاً من الأردن ولبنان.

بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة العام 1965 على يد أكبر فصائلها «فتح»، وصعود العمليات الفلسطينية المنطلقة من أهوار الأردن وجنوب لبنان في أعقاب هزيمة 67، وما ترتب عليها من شعور طاغ لقطاعات من الشعب الفلسطيني ولا سيما في أماكن الشتات بخذلان الأنظمة والجيوش العربية لقضيته للمرة الثانية بعد المرة الأولى عام 1948 قبل نيل استقلالاتها، كان الشعار الوحيد السائد والمقدس لتحرير الوطن هو الكفاح المسلح، ومن يقل بخلاف ذلك فهو خائن وانهزامي. ولم يسلم عرب 48 من هذا الاتهام، لا لعدم تبنيهم هذا الشعار الاختزالي لكل أشكال النضال الممكنة في شكل وحيد، بصرف النظر عن أفقه العدمي كما أثبتت بكل قوة التجربة الموضوعية المريرة لكونه يُخاض وينطلق من على أراضي دول غير أراضي وطنه، وما لذلك من تبعات باهظة دفعها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية التي استضافت نضاله، بل وتخوينهم لأنهم مضطرون لحمل الجنسية الإسرائيلية، وكأن حملها جرى باختيارهم أو أنهم يملكون إمكانية رفضها إذا ما أرادوا البقاء في وطنهم.

لكن بعد أن ثبت بالملموس التكاليف الباهظة التدميرية للكفاح المسلح من الخارج، جرى تفهم خصوصية وظروف النضال الذي اختطه لأنفسهم أخوتهم عرب 48 في الداخل، وأقرت منظمة التحرير الفلسطينية شرعية الالتقاء بممثليهم العام 1974 من أجل تنسيق النضال المشترك معهم، كما رُفع بموازاة ذلك شعار النضال المرحلي لإقامة الدولة الفلسطينية على أية أراضٍ يتم تحريرها. وكان المقصود ضمناً الأراضي المحتلة عام 67 في الضفة والقطاع، بدلاً من شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر غير القابل للتحقيق موضوعياً في الأفق النضالي المنظور، والذي تم أيضاً تخوين من لا يتبناه.

وكان مما لفت أنظار العرب والفلسطينيين لنضالات هذا القطاع من الشعب الفلسطيني غداة النكسة، بروز رموزٍ من المبدعين في صفوفه، من شعراء وروائيين أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي، وكان بروز هؤلاء الأدباء الكبار حينذاك بحد ذاته أشبه بالمعجزة، بعد مرور أكثر من عقدين من اغترابهم عن محيطهم العربي داخل الكيان الصهيوني الجديد والستار الحديدي المضروب عليهم لطمس وتغييب هويتهم وثقافتهم العربية.

أما أبرز مناسبة لفتت أنظار أشقائهم في الشتات والعرب عموماً، فقد جاءت بعدئذٍ في مناسبة يوم الأرض في 1976، الذي أصبح منذئد يوماً رمزياً سنوياً عميق الدلالة، لا لنضال عرب 48 فحسب بل لكل الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده وفي الضفة والقطاع وبلدان الشتات، وذلك عندما خططت قواهم السياسية المناضلة لإضراب شعبي ناجح في كل المدن والقرى الفلسطينية لأراضي 48 على إثر مصادرة السلطات العبرية آلاف الدونمات بمناطق وقرى مثلث الجليل، والتي بيّتت «إسرائيل» النية لتهويدها، وكان أن تصدّت سلطاتها العنصرية بوحشية للإضراب وفعالياته، وسقط عدد من الشهداء برصاصها. ومنذ ذلك اليوم الملحمي التاريخي، أصبح مناسبة وطنية نضالية يحتفل بها كل الشعب الفلسطيني بلا استثناء في كل أماكن تواجده وليس في أراضي 48 فقط.

ولعل هذه التجربة النضالية المفعمة بالعِبر والدروس النضالية التاريخية جديرةٌ بالاستفادة من قِبل كل القوى النضالية الفلسطينية بوجه خاص والقوى السياسية العربية المناضلة من أجل التغيير داخل بلدانها بوجه عام، وعلى الخصوص في ظل العثرات والإخفاقات التي تعتور تجارب كل منها والتي أفضت ضمن ما أفضت إليه لإجهاض حلم الربيع العربي في معظم بلدانه.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4589 - الثلثاء 31 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً