العدد 4626 - الخميس 07 مايو 2015م الموافق 18 رجب 1436هـ

إهمال الشعوب يعمّق هشاشة الأنظمة العربية

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

تتشكّل الأوضاع العربية من حولنا في ظل صراع يزداد حدةً بين قوى محلية وإقليمية، وذلك كمحاولة لتثبيت مواقع الفرقاء قبل بروز تشكيل جديد للمنطقة العربية. لكن صراع اليوم ينطلق بصورة أكبر من قناعة عند معظم الأطراف بإمكان إضعاف، وإن أمكن إلغاء الطرف الآخر من المعادلة من أجل فرض شروط التسوية.

الأوضح في الأوضاع العربية أن شروط استمرار السخونة قائمة في كل مكان بينما شروط التسويات لم تتبلور بعد. لهذا ينمو سباق محموم بين أوضاع عربية مختلفة بفضل ثورات العام 2011 ثم الثورات المضادة العام 2013، ثم بسبب تعاظم الدور الإيراني في الداخل العربي، ثم تراجع وعودة الدور التركي المقترب أخيراً من المملكة العربية السعودية ودول الخليج. ويستعر الصراع في ظل تراجع دور الولايات المتحدة وسياسة التدخل المحدود الذي تتبعه.

في منطقتنا لا يبدو الاستقرار قريباً، فكل ترتيب مرتبط بالمدى المنظور، بما في ذلك الترتيبات التي سيتم طرحها على الرئيس الأميركي في قمة الولايات المتحدة ودول الخليج، ستجد معوقات تخفف من اندفاعها وتكشف نقاط ضعفها. ستأخذ منطقتنا المتناقضة مع نفسها والمدمنة على الإحتكار السياسي زمناً لبناء النماذج التي تجمع بين مشروع الدولة الراشدة من جهة وبين المساءلة السياسية والعدالة والقيم الإنسانية القائمة على الأنسنة والحقوق من جهة أخرى.

من صفات صراع الإقليم الجديد أن الدول العربية فقدت عبر الزمن الكثير من مناعتها الذاتية التي تسلحت بها في بداية تأسيسها. في الدول العربية نسب متفاوتة من أزمة الشرعية التي تعكس مدى اختلاف الناس على السياسة والحقوق والتمثيل ومكانة القضاء وطرق صنع القرار. فالشرعية السياسية تعكس حدود تقبل الناس الطوعي للسياسات الحكومية من دون الحاجة للفرض والقوة. لهذا فكلما ازدادت نسب استخدام القوة وإغلاق المساحة العامة والاعتداء على الحريات، يتبين أن المكان يواجه أزمة تتعلق بالشرعية والإحتكار السياسي. ويزداد الأمر حدّةً عند عزل فئات محددة في المجتمع (تيارات، فئات، حقوقيون، طوائف، قبائل، أقاليم، شباب).

إن خوف الدولة العربية من التعبير النقدي يعكس جانباً من هذه الإشكالية، لكنه في الوقت نفسه يسهم في تدهور مناعتها وبروز الهشاشة التي يصعب علاجها، كما أكّدت أحداث العام 2011 وكما تؤكد الأحداث الراهنة في عدد كبير من الدول العربية.

ويؤكد طالب نسيم في مقال له في مجلة «فورين أفيرز» (عدد يناير/ كانون الثاني- فبراير/ شباط 2015) أن «هشاشة» الدول ترتبط أولاً بنظام حكم يصنع قراراته بمركزية ومن خلال فئة صغيرة من الأفراد. فالكثير من الدول يعتقد أن المركزية وسرعة القرار طريق مضمون للإستقرار، لكن نسيم يؤكد أن ذلك وهمٌ مرحلي، فالمركزية في صنع القرار تخلق خلافات أعمق بين مكونات الدولة ونخبها، كما تسهم في تشقق بنيانها وبروز خلافات أكثر حدة.

المركزية وسرعة القرار يغيب عنها النقاش الحقيقي حول التوجهات وينقصها الإستماع لوجهات نظر أخرى مما ينتج قرارات متسرعة في الحرب والسلم، وفي الإقتصاد والسياسة. وكما يقول نسيم، فالهشاشة تتعمق بتداخلها مع عناصر أخرى كالديون وضعف المساءلة وغياب التنوع السياسي والإقتصادي وعدم وجود تاريخ في إمتصاص الصدمات الكبرى.

إن توافر 4 من هذه العناصر كفيل بإحداث صدمات لأكثر الأنظمة استقراراً كما حصل أثناء الربيع العربي. لهذا بالتحديد وفق نسيم، فالأنظمة التي تسودها مرونة ولامركزية هي أكثر متانةً من الأنظمة الشديدة المركزية. ففي هذه الأنظمة (كحال لبنان بعد الحرب الأهلية) التي قد تبدو غير مستقرة، هناك حصانة أكبر ومناعة أعمق من الأنظمة التي تبدو مستقرة ولا تملك معارضة سياسية وتسيّرها دائرة ضيقة كما كانت حال سورية على سبيل المثال.

ولو تركنا مقال نسيم القيّم جانباً، فمن الصعب التحدّث عن مناعة الدول من دون التحدث عن دور القانون. فعندما تميّز القوانين بين مواطنيها على أساس الريف والمدينة، والقادمين الجدد والقدامى، ثم تميّز ضد المرأة وضد طوائف محددة وضد فئات من العشائر والقبائل، تكون تلك مقدمات لغضب واحتجاج وراديكالية غير محسوبة التكاليف.

الدول النامية كحال الدول العربية، لم تعتنِ بالمؤسسات، بل تحوّلت عنايتها بالمؤسسات إلى حالة من الشكلية، مما دفع بهذه المؤسسات للتحول إلى عبء على نفسها، وإلى شكل بلا مضمون، وصورة تستهلك الثروة من دون أن تنتج القيمة. وهذا يتحوّل بدوره إلى عنصر إضافي من العناصر المسببة لأزمات الدول.

كيف سنبني دولة مؤسسات فعّالة بينما لم نتعامل مع مشروع الدولة ومرونتها وبنيتها باحتراف كما هي حال تركيا وإيران (بالمقارنة مع الإقليم العربي)؟ كيف نبني دولةً تملك مناعةً بينما فئات في مجتمعنا تشعر بالغبن لحد الانسحاب من الدولة وفئات أخرى تسعى للهجرة (الشباب والكفاءات) بينما فئات تعيش آمالاً ما تلبث أن تتراجع. إن مشروع الدولة ضرورة، لكنه غير ممكن بلا أنسنة وحقوق واضحة ودمج الفئات الاجتماعية الجديدة. إن مواجهة التطرف من دون جدوى بلا وضع الإنسان العربي في كل بلدٍ في المقدمة.

الصراع الراهن في المنطقة العربية يفتح الباب لأكثر من صراع في الوقت نفسه: صراع بين النخب نفسها على من يفوز بالسلطة المركزية، وصراع آخر من أجل استعادة قوة النظام تجاه المجتمع (وهذا يؤدي إلى صراع أهلي بعد فترة من الزمن)، وصراع حول الحقوق والحريات والمساحة العامة والتعبير، وصراع بين أقطاب الحروب الأهلية الراهنة للحفاظ على قوتهم وأسلحتهم خوفاً من أن يكون تسليمها مقدمةً لسيطرة الخصوم.

لهذا من الصعب تشخيص واقعنا العربي إلا كواقع يفتقد لوضوح الرؤية وللثقة الذاتية. فكل مكوّن عربي يخشى انتصار المكوّن الآخر. بل إن صراع النخب والمكونات حول السلطة والقوة والذي يتداخل مع حروب أهلية سينتهي بصراعات أكثر عمقاً بين النخب العربية إياها. على الأغلب نبدو أقرب إلى صراعٍ خالٍ من التسويات. إذ سنكتشف أن مستقبلها ليس مضموناً بلا تمثيل حقيقي وصناديق اقتراع وديمقراطية وتنازلات تؤثر على مركزية الدولة وتوزيع القوة.

كيف يمكن لأمن الدول العربية أن يتحوّل إلى أمن شعوب وحقوق قبل أن يكون أمن أنظمة وأشخاص؟ كيف يمكن أن يكون أمن الدول مرتبطاً بالتمثيل والمساءلة وحق المعاملة الكريمة في ظل مساحات جديدة للتعبير لا يجري تقليصها والإعتداء عليها؟

إن إهمال أمن الشعوب في ظل الصراعات الإستراتيجية بين الدول والأيدلوجيات هو سبب ثورات 2011، وسيكون مع مرور الوقت السبب الأول في تعميق هشاشة الدولة العربية.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4626 - الخميس 07 مايو 2015م الموافق 18 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:25 ص

      هل هو فقط اهمال ؟ ما معنى ان شعوب الخليج غير جاهزة للديمقرايطة؟

      هل ما يحصل لشعوب الخليج هو فقط اهمال ام انه اكثر من ذلك؟
      هو استنقاص واستصغار بل واحتقار لهذه الشعوب حين يكون الحق للعمّال والخدم الذين نجلبهم للعمل في بلداننا لهم كل الحقوق السياسية في بلدانهم بينما يكرّر مصطلح ان شعوب الخليج غير جاهزة للديمقراطية

    • زائر 3 زائر 2 | 3:22 ص

      هل فعلا شعوب الخليج غير جاهزة للديمقراطية ؟؟ كما وصفها الكاتب

      الاجابة كل مايحدث في دول الخليج من تحولات ومشاهد سياسية توضح السؤال

    • زائر 1 | 2:06 ص

      الإهتمام بالتسلّح وترك الشعوب تولّي

      الحكومات الخليجية ليست في وارد ان تنظر لشعوبها نظرة احترام او اهتمام .
      اهتمام دول الخليج فقط وفقط بالسلاح والتسلّح ومحاولة التدخّل في دول الجوار وكأنهم اوصياء الله على هذه الشعوب. بلد يطالبون رئيسه بالاستقالة لانه لا يمثّل شعبه وبلد آخر يطالبون بارغام الشعب على القبول برئيس يقولون عنه شرعي.
      في هذا البلد يطالبون بديمقراطية لشعب ما وبيوتهم من الديمقراطية خالية

اقرأ ايضاً