العدد 4644 - الإثنين 25 مايو 2015م الموافق 07 شعبان 1436هـ

أسرار وتفاصيل تُنشر لأول مرة عن حياة الفنانة الراحلة فاتن حمامة

مذكرات ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، والتي صنعت تاريخها بميزان صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا التي تنشرها صحسفة الشرق الأوسط بترتيب مع وكالة «الأهرام» للصحافة.

قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.

وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا.

فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.

اسمي فاتن أحمد حمامة من مواليد 2 مايو (أيار) عام 1931، ولدت في حي عابدين، وهو حي يسكنه أبناء الطبقة المتوسطة من المواطنين المصريين، بين أشقائي «نبيل ومظهر وليلى»، أما اسمي هذا الذي عرفت به فلم يكن اختياره صدفة بل إن له قصة، بدأت عندما كان لشقيقي «نبيل» الذي يكبرني بعامين «دمية»، أطلق عليها من بنات أفكاره اسما غريبا، وكان هذا الاسم هو «فاتن»، فلما وضعتني أمي جاء شقيقي إلى جوار فراشي ووضع «فاتن» هدية منه لي، فأطلقت أمي اسم العروسة الدمية عليّ، فأصبحت أنا «فاتن حمامة» ابنة الأستاذ «أحمد حمامة» المراقب الإداري بوزارة المعارف.

وابنة لأم طيبة سهرت علينا الليالي كانت لها حكمة خاصة في إشاعة العدل بيننا، وفي إضفاء شعور المودة والتضامن بين صغيرنا وكبيرنا، وهو الأمر الذي تعجز الأم كثيرا عن إقراره بين الأولاد الذين يولد بعضهم فوق رؤوس البعض، وللحق فقد ترك عدل أمي وقدرتها على صنع الحب في بيتنا أثرا باقيا في نفسي، وهو درس كنت أحاول دائما أن أطبقه بين ابنتي نادية ذو الفقار وابني طارق عمر الشريف، وألتزم به في معاملتي لهما.

ولكن الدرس الذي تعلمته من أمي كان من موقف لها حين تزوجت «بعد ذلك»، فقد كنت صغيرة، وفي العام الأول من زواجي أنجبت ابنتي نادية من المرحوم عز الدين ذو الفقار، ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيف أعتني بها، ومتى أرضعها؟ ومتى تنام؟ وكيف أضعها في الفراش؟ كانت قطعة من اللحم الأحمر لا تكف عن الصراخ، وكانت تثير حيرتي لأنني أشعر أحيانا أنها تشكو من شيء لا أعلم ما هو؟ لأنها لا تتكلم! إذ ذاك تصدت أمي للعمل كله، وكنت قد قرأت كتبا عن تربية الطفل، ولكن المعلومات النظرية عن الأرق شيء والتطبيق العملي شيء آخر، والحقيقة أنني وجدت أمي أفضل من أي كتاب في تربية الطفل، فإنها ببساطة علمتني فن الأمومة، أعطتني كل تجربتها وتركت بيتنا الكبير «بيت الأسرة» لتقيم معي أياما تعطيني فيها الدروس في غير ملل، حتى السهر على نادية تعلمته منها، لأن نادية كانت عنيدة وتفضل نوم النهار وسهر الليل، وإذا سهرت الليل فينبغي أن نسهر معها كـ«الديدبان» في نوبات تستغرق الليل بطوله وتنتهي في الصباح. وقد كنتُ ساخطة على السهر، ولكن جَلَد أمي علمني أن هذه هي ضريبة الأمومة، وكنت متذمرة من بكاء نادية لغير سبب، ولكن محاولات أمي دون يأس معها علمتني الصبر، وتحولت ابتسامة نادية في وجهي إلى وسام وإلى إشراقة سعادة تعوضني عن كل التعب معها، أمي علمتني الأمومة الحقيقية بينابيع الحنان المتدفقة منها بمعاني إنكار الذات المتجلية فيها بالتحمل البطولي من أجل «الضنا» الغالي، وكنت كلما حاولت أن أخفف عنها الأعباء التي تحملها معي أجدها تقول لي: «أنا سعيدة هكذا.. فليس أحلى من الفرحة بالبنت إلا الفرحة ببنت البنت».

أعود لأكمل أن قيود وظيفة والدي كانت هي التي تتحكم في محل إقامتنا، فكان أبي كـ«ـقطعة الشطرنج»، تنقله وزارة المعارف من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وترتب على ذلك أنني أمضيت سنين الطفولة الأولى في مدينة المنصورة (مقر عمله الجديد)، وعندما كنت في السادسة من عمري، كنت موضع حب سيدات الأسر الصديقة جميعا، وكانت إحداهن كلما ذهبت إلى السينما تصحبني معها، وكنت أعود من السينما وأجلس إلى والدي لأروي له قصة الفيلم بتسلسل عجيب، فلم يكن يفوتني مشهد واحد، ثم أعقب تلخيصي للقصة بأسئلة عن الهدف الذي ترمي إليه، وهذا هو أول الدروس التي وعيتها عن فن السينما، وأفادني هذا الدرس فيما بعد في قراءة قصص أفلامي ومعرفة نواحي القوة والضعف في كل فيلم، لأنني ناقدة بفطرتي وكنت لا أمل مشاهدة الأفلام مع هذه السيدة أبدًا، بل كنا أحيانا ندخل السينما في حفلتين متعاقبتين «حفلة الساعة الثالثة ثم حفلة السادسة» وأعود أكثر نشاطا وأكثر تفتحا لمذاكرة دروسي. وكانت لأبي هواية، هي تصويري في مشاهد ومواقف مختلفة وأنا بين الخامسة والسابعة، وكنت ذكية ولماحة أفهم ما يعنيه والدي دون إفصاح.

وفي أثناء زيارة بعض الأقارب لنا ذات مرة، نظر إليّ أبي نظرة فهمت منها ما يعنيه على الفور، ولم تتمالك إحدى السيدات نفسها فقالت: «الله هو احنا في سينما ولا أيه؟»، وضحكوا وعقب أبي ضاحكا، وقال: «سأقدم فاتن للسينما فعلا»، وبالفعل، فما إن قرأ في مجلة «الاثنين» عن مسابقة صور للأطفال، حتى سارع بإشراكي فيها، وأحضر لي حينذاك زيا خاصا بالممرضة، وحملني حملا إلى أحد المصورين الذي التقط لي «أروع صورة لممرضة في السادسة من عمرها»، وطلب من والدي أن يطبع له خمسمائة صورة، فتعجب والدي لطلبه، متسائلا عن سبب كل هذا الكم من الصور، فقال له المصور: «وجه طفلتك جذاب، وستكون نجمة كبيرة وهذا العدد لنوزعه على المعجبين»، فضحك والدي واعتبر الأمر مزحة من المصور المتفائل، ولكن بالفعل فازت الصورة بالجائزة.

وبدأت أتردد على مكتب عبد الوهاب كل يوم ليقوم المخرج محمد كريم بتدريبي على التمثيل والوقوف أمام الكاميرا، وكنت أستيقظ كل صباح فأجلس في سريري الصغير وأقول لأبي: «بابا، أحنا مش رايحين عند المُعلم كريم النهار ده؟»، هكذا صور لي خيالي مخرجي الأول، صورة معلم، فقد كان المعلم أقرب الشخصيات إلى نفسي بعد والدي، والطفل لا يبتعد كثيرا في تشبيهاته وتصويره البدائي للأمور عن المحيط الذي يعيش فيه، ومن هنا كان مخرجي الأول في نظري معلما، وكان كريم يستقبلني على الرغم مما اشتهر به من عصبية بابتسامة مشرقة، وكنت أرى على مكتبه دائما عشرات الهدايا وقطع الشوكولاته ووعودا صامتة من المخرج ونداء للإجادة.

فكنت كلما أتقنت مشهدا حصلت على إحداها، وقد عرفت فيما بعد أن دور «أنيسة» الذي لعبته في فيلم «يوم سعيد» كان دورا ثانويا لا يتطلب ظهور صاحبته على الشاشة سوى دقائق قصيرة، ولكن المخرج كريم إزاء ما رآه في من مقدرة وما لمسه من موهبة (وهذا كلام أنقله بأمانة وبلا غرور) رأى أن يعيد كتابة القصة في كل ما يختص بدوري، وقد اقتضى التغيير في الدور إدخال تعديل كبير في السيناريو بأكمله، كما استعان المخرج بثلاثة من كبار كتاب الحوار ليضعوا للطفلة الصغيرة حوارا يلائم سنها وتنطقه كما ينطق الأطفال.. وأتذكر في تلك الفترة أن أجري معي أول حديث صحافي حمل عنوان «مع الطفلة فاتن»، وحضر الصحافي إلى المنزل وجلس يتحدث معي:

- هل تحبين التمثيل؟

- ماذا يعني التمثيل؟

- يعني التمثيل في السينما.

- نعم، أحب أروح السينما دائما.

- ما شعورك عندما شاهدت نفسك على الشاشة؟

- اسأل بابا يقول لك.

- وأنت لا تستطيعين أن تقولي؟

- لأني لست أفهم ما تقول.

- تقدري تسأليني سؤالا جيدا؟

- نعم.. أنت جاي عندنا ليه ونحن لا نعرفك؟ وأنت لست قريب بابا ولا ماما؟

- أريد أن أجري معك حديثا صحافيا.

- أنا معنديش حديث.

بهذه العبارات البسيطة والعفوية جرى الحديث، ونُشر في مجلة «الاثنين»، لقد كنت حينذاك الزائرة اليومية الوحيدة لمكتب عبد الوهاب، كما كان كريم هو الوحيد الذي التقيت به هناك، ولكني لاحظت في أحد الأيام وجها آخر غير وجه كريم، وجها آخر صاحبته ممتلئة الجسد تتكلم بطلاقة لغة لا أفهمها، ويوافقها كريم بإعطائها ورقة راحت ترسم عليها خطوطا سريعة، وبعد أن انتهت من الرسم عرضت عليه رسوما ترسمها ويدخل هو عليها بعض التعديلات، وعلى الرغم من أن زيارة السيدة الغريبة أثارت فضولي، فإنني لم أسأل عمن تكون أو ماذا كانت تريد، وعرفت فيما بعد أن هذه السيدة لم تكن إلا «خياطة ثياب» للممثلات، وقد جاءت يومها لتصمم ملابس الفيلم، وبعد هذه الزيارة بأيام ثرت للمرة الأولى كما تثور كل حواء، وكان السبب هو أقوى ما يثير حواء؛ فقد حملوا إليّ بضع «جلاليب» من النوع الريفي ذي الألوان الزاهية، وقد رفضت بشدة أن أرتديها، وصحت قائلة: «مش ممكن ألبس زي داده نفوسة» (وهكذا ثارت فاتن الصغيرة دفاعا عن أناقتها قبل أن تعرف ما هي الأناقة وما الغرض منها، ولكنها غريزة المرأة وإحساسها الداخلي).

وقد لجأ كل من والدي وكريم إلى الحيلة في جعلي أرضخ لهذا الأمر، وعرضا علي أن أرتدي ما أريد، بشرط أن أرتدي قبلها «الجلاليب» في الفيلم، وكان العرض عادلا فقبلته على الفور، وكان طبيعيا، وقد طرأ تغيير كبير على حياتي، أن يتغير معه نظامي اليومي فقد وضع لي المخرج برنامجا دقيقا يبدأ في الساعات الأولى من الصباح، وينتهي بدخولي السرير، وكان من بين ما اشترطه في هذا البرنامج أن أستقبل الصباح الباكر في إحدى الحدائق بالغناء، وأن أتناول كل وجبات محدودة الأصناف في مواعيد دقيقة، وأن أزور كل ليلة الطبيب الخاص، وللزيارات الطبية هذه ذكريات عندي، ذكريات مؤلمة، حيث كان رسول الإنسانية بملابسه البيضاء يثير في نفسي الفزع ويدفع بالدموع إلى عيني.

 

وبدأ العمل في الفيلم، ودخلت الاستوديو للمرة الأولى، وتخيلت نفسي صورة غريبة في بلاد العجائب؛ فقد كان كل ما حولي غريبا (الأضواء والآلات السوداء العملاقة) وتلك العين السحرية التي راحت تحصي علينا حركاتنا وتسجل علينا لفتاتنا، التي كان صراخ كريم يعلو في كل مرة ينظر أحدنا داخلها. إنها «الكاميرا» تلك الآلة الساحرة التي صنعتني وصنعت الكثيرين مثلي. وأذكر عن أول لقطة لي أنها كانت تجمع بيني وبين الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة فردوس محمد، وأذكر أيضا أن نوبة قوية من الضحك كانت تستبد بعبد الوهاب بعد كل كلمة أنطق بها، وقد طلب المخرج محمد كريم إلى عبد الوهاب مرارا أن يكتم ضحكه، ولما تعذر عليه ذلك صرختُ فيه بدوري طالبة منه أن يكف عن الضحك، ونظر إلى عبد الوهاب بعينين فيهما الكثير من الدهشة، ثم استغرق في الضحك ثانية، وكان العمل في بعض مشاهد الفيلم يتطلب السهر ليلا، وقد حرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لي في الاستوديو سريرا صغيرا، ولكن الذي حدث هو أنني لم ألجأ إلى السرير مرة واحدة، فقد كان شغفي بالعمل يشد جفوني شدا قويا، ويطرد النعاس من عيني، بل أكثر من هذا؛ كنتُ لا أنام ولا أترك غيري ينام، وكثيرا ما كنت أتجول في أنحاء الاستوديو ثم أصرخ قائلة: «بابا.. بابا.. شوف الراجل الكبير النائم.. والست دي اللي بتتثاءب» فيترتب علي حديثي الصارخ أن ينهض النائم خجلا، وأضحك أنا عليه.

وأيضا أثناء تصوير الفيلم قال لي المخرج محمد كريم محاولا تدريبي على التعبيرات الحركية للوجه: «وريني الغضب»، ثم قال: «ورينى الفرح»، ثم قال: «احتقريني»، فقلت له «يعني أيه يا أونكل»، فقال لي: «إخص عليكي يا فتونة ما تعرفيش احتقار يعني أيه، أُمّال بتروحي المدرسة إزاي»، فقلت له: «أصل أحنا لسه ما أخدناش خط رقعة، وما أعرفش غير النسخ»، وغاص الجميع في موجة من الضحك. والطريف أيضا أن التصوير كان يتم في «استوديو مصر»، وكانت المنطقة مليئة بالناموس، وكانوا يصورون من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحا، وعندما كنت أشعر بالضيق كان المخرج يمارس ألعاب الأطفال معي، بينما والدي ووالدتي اللذان يصطحباني دائما غارقان في النوم، وأيضا أثناء تصوير الفيلم وفي أحد مشاهده كانت تقول لي فردوس محمد: «خدي يا أنيسة طلعي الأكل لسي كمال (عبد الوهاب) واللّه ما أنا عارفة حيدفع أجرة الغرفة إمتى»، وأقوم بدوري وأتناول الصينية وأخرج من الشقة وكأني سأصعد لأعلى، وبعد انتهاء المشهد انشغل المخرج بتصوير مشهد آخر لم أكن مشاركة فيه، وبعد مدة فوجئ بي أحضر إليه وأنا ما زلت أحمل الصينية، وأقول له: «أنا مش عارفة اطلع له الصينية فين يا أونكل»، ويضحك المخرج معلقا علي ذلك ويقول: «يا للمسكينة. لقد تصورت أن عليها أن تصعد لأعلى فانتظرت وهي تحمل الصينية كل ذلك الوقت».

انتهينا من تصوير الفيلم، وعرض فيلم «يوم سعيد» في عام 1940، وقد نشأت منذ اليوم الأول لعرضه منافسة جادة بين اسمي «فاتن» واسم «أنيسة»، الاسم الذي حملته في الفيلم، فكانت زميلاتي في المدرسة ينادينني باسم «أنيسة»، وكنت أثور لهذا فقد كان الاسم في نظري «بلدي»، وقد شاهدني مكتب الناظرة ثائرة أكثر من مرة، وكان السبب هو اسم «أنيسة»، وقد رأت الناظرة أن تهب لنجدتي، فأصدرت أمرا مشددا بحرمان من تناديني باسم «أنيسة» من الطعام يوما كاملا. وأيضا لا يمكن أن أنسى موقفي مع عميد الممثلين يوسف وهبي، كما كان يحب أن نناديه، فقد كان له مواقف مرحة تبعث على الضحك أحيانا كثيرة رغم أنه يؤثر أن يحول العمل الفني، سواء كان مسرحية أو فيلما إلى مأساة؛ فقد دعا يوسف وهبي ذات مرة إلى اجتماع عاجل في نقابة الممثلين لبحث شؤون المهنة، وكان نقيبا للممثلين حينذاك، فعلق على باب القاعة التي سيعقد فيها الاجتماع لافتة تحمل العبارة التالية: «رجائي للسيدات من الممثلات أن يتركن أطفالهن خارج القاعة»، وحدث أن حضرت إلى النقابة لحضور الاجتماع بصفتي ممثلة، ودخلت القاعة مع راقية إبراهيم، وجلست فيمن جلس لكي نشترك في المناقشة ولكن رغم أن القاعة قد غصت بالممثلين والممثلات، فقد بقي يوسف وهبي صامتا لا يريد أن يفتتح المناقشة، وكان ينظر تجاهي وسمات الغضب بادية على وجهه، ثم قال آخر الأمر: «يبدو أن الزميلات تجاهلن الرجاء المعلق بخطوط كبيرة على باب القاعة، وجاءت إحداهن بطفلة معها»، وتلفتت السيدات من الممثلات حولهن، وقالت إحداهن: «ليس في القاعة أطفال يا أستاذ، ولم تأتِ إحدانا بطفلها أو طفلتها معها»، ولكن يوسف وهبي أشار نحوي وأنا أجلس بجوار راقية إبراهيم قائلا: «وهذه الفتاة بنت من منكن؟»، وساد القاعة سكون واتجهت الأنظار كلها نحوي، وأغرورقت عيناي بالدموع، وملأت حمرة الخجل وجنتي، وأشحت بوجهي بعيدا ولم أستطع أن أقول شيئا، فقد كنت ما زلت طفلة صغيرة، ولكن راقية إبراهيم سارعت تقول: «هذه ليست طفلة يا أستاذ يوسف. إنها فاتن حمامة الممثلة»، وتمتم يوسف بك معتذرا، وصاح بلهجته التمثيلية المعروفة قائلا: «يبقى نبدأ الاجتماع». وفي أعقاب الاجتماع استبقاني يوسف وهبي ليتحدث إلى وليعيد اعتذاره لي وتأسفه لأنه لا يعرفني ولم يرني من قبل، ولم يستطع يوسف بك على ما يبدو أن ينسى هذه الحادثة، رغم أنه كثير النسيان، ولم يكد يشرع في إنتاج وإخراج فيلم «ملاك الرحمة» حتى أسند إلى أكبر أدواري على الشاشة حتى تلك الفترة، وكان هذا الدور بالذات هو نقطة التحول في حياتي، حيث جعلني حقيقة واقعة كممثلة يشهد لها الجميع بالموهبة.

من هنا كانت بدايتي

جاءت إلى سينما «عدن» بالمنصورة السيدة «آسيا» المنتجة الشهيرة، لمناسبة عرض فيلم لها بالسينما، ولست أدري لماذا «سرحت» في تلك اللحظة. لقد شعرت بشعور عجيب وغريب، وهو أن الجميع يصفقون لي، وأن آلاف العيون تتطلع إلى وتقول: «هذه ملكتنا.. وإنها لجميلة وصغيرة»، وفسرت حلمي اليقظ بأنني سأكون يوما ما مثلها، ولم أكن أعرف عن التمثيل والسينما سوى أنني كنت أذهب بين الحين والآخر مع أسرتي لنرى حوارا ونسمع كلاما ونخرج بسلام آمنين، وقلت لأبي: أريد أن أسلم على هذه السيدة التي أراها أمامي على الشاشة، فوافق أبي، وتحركت نحو السيدة آسيا، ولكنني وجمت بل خفت من الزحام الشديد الذي أحاط بها فتراجعت. ثم قرأ أبي إعلانا في الصحف أو نداء من الصحف ممهورا بإمضاء المخرج محمد كريم، وكان يطلب صغارا بشروط خاصة للظهور في الفيلم الذي يخرجه هو وينتجه ويمثل فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأرسل أبي صورتي وأنا بزي الممرضة إلى المخرج الكبير، وسرعان ما تلقى أبي البرقية التالية «احضر ومعك الطفلة»، فحملني أبي إلى محمد عبد الوهاب ومحمد كريم، فأجريا امتحانا لي، وطلب كريم مني أن ألقي نشيدا، فألقيت عشرة أناشيد بدلا من نشيد واحد، وكان أن عدل محمد كريم في الرواية في الدور الذي يخصصه للطفلة، وتعاقد معي على القيام بهذا الدور في فيلم «يوم سعيد».

مع الموسيقار عبد الوهاب في {يوم سعيد}

وقد جمع بيني وبين عبد الوهاب مشهد آخر اشترك فيه معنا الممثل فؤاد شفيق وفردوس محمد، وكان حواري في هذا المشهد من النوع الساذج الذي يثير الضحك، وكعادة عبد الوهاب لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك، وشعرت بالضيق من ضحك عبد الوهاب المتواصل، فتوقفت عن العمل ورفعت أصبعي الصغير في الهواء، وقلت لعبد الوهاب بصوت عالٍ: «أنت راح تشتغل كويس وإلا نجيب غيرك» ولم يضحك عبد الوهاب وحده هذه المرة، وإنما ضج معه كل من في الاستوديو بالضحك، ووقفت أنا في دهشة من تصرفهم اسأل نفسي: «إشمعنى المعلم كريم يطرد الممثلين ويجيب غيرهم وأنا لا؟!»، وكنت أذهب إلى الاستوديو لأعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا والألعاب، ولم يكن المخرج والمنتج هما وحدهما اللذان يقدمان إلى الهدايا، بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضا. وعلى ذكر الزائرين أقول إن المخرج محمد كريم كان يصدر تعليمات مشددة بألا يدخل أحد الزوار إلى الاستوديو، ولكني وجدت أن إحدى السيدات زارتنا في أحد الأيام بإذن من كريم، وقدمت لي هدية لطيفة، ثم جلست تتسامر مع بعض الموجودين، ودارت الكاميرا، فلم تسكت الزائرة، وهنا تقدمت منها ولكزتها في يديها وقلت لها: «يا ستي خدي هديتك ولا تعطلينا»، وشعرت السيدة بحرج شديد فانخرطت في البكاء، وتقدمت منها اربت على كتفها وأقول: «معلهش يا ست هانم، أصل الشغل متعب شوية»، ففوجئت بها تتوقف عن البكاء وعادت تضحك على الببغاء الصغير الذي يردد كلام مخرجه.

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً