العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ

مخاطر انهيار الدولة الوطنية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

لم تعد مشاريع تفتيت البلدان العربية، التي بدأ الحديث عنها منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي خططاً استعمارية مستقبلية، ولم يعد بالإمكان اعتبار الحديث عنها، استكمالاً لنظرية المؤامرة، فقد أصبحت واقعاً ملموساً في عدد من البلدان العربية، التي كان لها الدور الريادي في قيادة مشروع النهضة العربية. فقد سقطت عملياً، وعلى أرض الواقع، خريطة التقسيم التي أعدت للمشرق العربي في سايكس - بيكو. وجرى تفكيك سريع لليبيا واليمن. ومصر تعيش حالة استنزاف يومي، لعله ينتهي بفرج قريب، يعيد للقلب خفقاته.

ومحاولات العبث بأمن البلدان العربية واستقرارها تجري على قدم وساق، لتصل إلى قلب الجزيرة العربية، في عمل إرهابي جبان استهدف مسجداً، أثناء تأدية صلاة الجمعة، في قرية القديح بمحافظة القطيف شرق المملكة العربية السعودية، يعلن تنظيم «داعش» عن تبنيه للعملية الانتحارية.

أين تكمن البداية في التصدّي للمخاطر التي تهدّد الدولة الوطنية؟ سؤال يراود الكثير من المواطنين، الذين يواجهون حرب التدمير والتكفير بصدورهم العارية. فهل يكفي أن تكون مواجهة الإرهاب والتطرف أمنية فقط، أم أنها تقتضي مراجعةً للأفكار والسلوك، وإعادة بناء الثقافة ومناهج التربية، وتحفيز فكر التسامح لدى وسائل الإعلام العربية؟

ثم لننتقل بالأسئلة إلى ما هو أعمق: هل يمكننا القول إن التكفير هو نهج طارئ على ثقافتنا، أم أنه نهج راسخ وقديم، من حيث كونه في مدوناتنا الفقهية والدينية، وذلك هو الأقرب للواقع، لكن ذلك لم يتسبب في الماضي في وجود انفجارات وتهديد للسلم الاجتماعي.

واقع الحال، أن قراءة الواقع الراهن، تشير إلى صعوبة إحالة تفسيرات ما يجري إلى ثقافة التكفير، والصراع الطائفي. فالصراع في ليبيا على سبيل المثال، يدور بين أتباع مكون مذهبي واحد، ويأخذ شكلاً مختلفاً. مناطقي أحياناً وقبلي في أحيان أخرى. ولم يغير انسجام الليبيين المذهبي، من حدة الصراع بين الخصوم، الذين يجمعهم دين واحد ومذهب واحد.

ولا يختلف الوضع كثيراً في مصر، فالإرهابيون في معظمهم من المصريين الذين ينتمون مذهبياً، إلى المذهب الذي ينتمي له معظم المصريين، ومع ذلك تنشط في سيناء حركات التكفير والتفجير. ويكفر الإرهابيون كل المجتمع، معتبرين أنفسهم في حال هجرة من أرض الشرك، محتكرين لأنفسهم صفة الإسلام وداره.

في السودان كان الصراع، عرقياً ودينياً بين الشمال والجنوب، ولكنه لم يكن كذلك بين المركز والجهة الغربية من البلاد. فكلهم سودانيون مسلمون وعرب. وهذا الواقع ينطبق على الصراعات التي يعلن عنها بين فينة وأخرى، في الشمال العراقي بين الأكراد في أربيل والسليمانية. وكلا المجموعتين تنتمي إلى مكون قومي واحد، وتدين بدين واحد هو الإسلام.

نسوق هذه الأمثلة، ليس بهدف إنكار أثر التربية والثقافة والإعلام، فتأثيرات هذه المجالات في إعادة تشكيل العقل مؤكدة، وليس فيها شك، ولكن إحالة كل مسببات ما يجري من عواصف وكوارث، وأعمال تخريبية لها، سيجعلنا نغفل أموراً لا تقل أهمية ووجاهة، في توجيه جيل الشباب، في كثير من البلدان العربية، للارتباط بمنظمات التكفير.

في حادثة العليا، بمدينة الرياض في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، تكشف أن جميع من شاركوا في العملية، كانوا من العاطلين، وممن لم يكملوا تحصيلهم العلمي. والحال هذه تنطبق على معظم الإرهابيين الذين يقاتلون في عدد من البلدان العربية. فهؤلاء يقاتلون أحياناً في سبيل الحصول على المال، ويطمعون في ثواب الآخرة، حسب ما يعتقدون.

إن ذلك يطرح بحدة، مواضيع لا تقل أهمية كالأمن الاجتماعي والأمن الغذائي، فتفشي البطالة، من شأنه أن يؤدي في حالاته الأدنى، إلى تهديد للأمن الاجتماعي، وارتفاع معدلات الجريمة، وتشكيل عصابات المخدرات والنهب والقتل. وفي حالاته الأعلى إلى انضمام جيوش العاطلين، لحركات التكفير والتفجير.

انتشار البطالة، واتساع الفروقات بين الغني والفقر، من شأنه أن يوفر احتياطاً هائلاً لحركات التطرف، تغدو عندها العناصر الأخرى، كجمود مناهج التربية، وتحريضها على التعصب، وركود الثقافة، وعجز وسائل الإعلام، عناصر مساعدة على انتشار ظاهرة التطرف، ولكنها ليست سببها المباشر.

والأنكى، أن ظروف التخريب أدت إلى متواليات من شأنها تعزيز ظواهره. فحالات التدمير المنهجي لمؤسسات الدولة، ومؤسسات الإنتاج الاقتصادي، وتفكيك الكيانات الوطنية، أدت إلى مضاعفة ظاهرة البطالة، بشكل غير مسبوق. ولم يكن أمام جموع الفقراء والمعدمين، سوى الالتحاق بعصابات القتل والتكفير، أو تشكيل عصاباتها الخاصة. وقد وضع ذلك الدولة الوطنية، بالأماكن التي طالتها عصابات الإرهاب في وضع مأساوي لا تحسد عليه، ولا يبدو في الأفق ما يشير بأن نهايته ستكون قريبة.

يعاني الوطن العربي أيضاً، مخاطر تهدّد الأمن المائي العربي. فقد شاءت حقائق الجغرافيا أن تكون منابع الأنهار الرئيسية فيه من خارجه. ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، خضعت سورية والعراق، لابتزاز تركي، نتج عنه في مراحل عدة تجفيف نهر الفرات، وتهديد البلدين بالعطش. والحال هذه تنطبق على نهر النيل، الذي تشكل هضبة الحبشة منبعه الرئيسي، ماراً بالسودان ومصر، إلى المصب في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وليس سراً أن الحبشة تقوم الآن ببناء سد النهضة الذي يهدد بناءه بإنقاص كميات المياه المتدفقة إلى السودان ومصر. وكلنا نعلم أن النيل هو مانح الحياة لأرض مصر، وأن مصر كما قال المؤرخ اليوناني هي «هبة النيل».

وبالمثل هناك تهديد ماثل للمعابر والممرات الاستراتيجية العربية، وهناك أيضاً خطر صهيوني حقيقي ظل لما يقرب من سبعة عقود، خنجراً مسموماً في خاصرة الأمن القومي العربي. وسيظل الوجود الصهيوني بالمنطقة العربية جرحاً نازفاً يهدد الوجود العربي بأسره.

مخاطر انهيار الدولة الوطنية العربية، لا يمكن مواجهتها إلا بمنظور الأمن القومي العربي، بكل تجلياته. وهي مهمة لا يمكن لأي بلد عربي أن يضطلع بها بمفرده، فتحقيق الأمن القومي، هو حاصل تفاعل خلاق ومثمر بين جميع البلدان العربية، والهدف هو التصدي لكل المعوقات والمخاطر التي تهدد الدولة الوطنية، وعلى رأسها الأمن الاجتماعي والأمن المائي والأمن الغذائي، وحماية الحدود والمعابر، وعدم التفريط في الأطراف، ورفض الاستسهال في التسليم بضياع الحقوق العربية. وهي وحدها التي تتكفل بهزيمة الإرهاب. فهل آن قرع ناقوس الخطر؟

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً