العدد 4734 - الأحد 23 أغسطس 2015م الموافق 09 ذي القعدة 1436هـ

هل يصلح العبادي ما أفسده الدهر؟

رضي السماك

كاتب بحريني

لو قيّض لمؤرخين موضوعيين تدوين التاريخ السياسي لعالمنا العربي بحلول منتصف قرننا الحالي، لخلصوا بلا جدال، إلى أن الربع الأول منه هو أخصب فترة عرفت خلالها الأنظمة الشمولية العربية ببراعة غير مسبوقة تاريخياً، كيفية تأجيج النعرات والتناقضات الطائفية بين فئات شعوبها لترسيخ وجودها وإلهاء الطبقات الشعبية ذات الانتماءات الطائفية المختلفة والمتضررة من فسادها ودكتاتوريتها، بزجّها في أتون الصراعات المذهبية، تفادياً من مخاطر توحّدها ضد فساد واستبداد تلك الأنظمة. ومن هنا تتجلى أهمية الحركة المطلبية الشعبية السلمية الراهنة في العراق، التي مازالت متواصلة منذ نحو شهر ضد الفساد الذي استفحل في جهاز الدولة الجديد رغم الصيف الحار، حيث تصل درجة الحرارة حتى الستين، وفي ظل انقطاع شبه متواصل للكهرباء يستغرق معظم ساعات اليوم؛ ولتبرهن هذه الحركة بقوة أن الفساد لا دين له ولا مذهب، ولا حزب حاكم دون آخر. ذلك أن القاعدة العريضة للانتفاضة الجماهيرية إنما هي تنحدر من المكون الديني الذي تنتمي إليه الأغلبية الائتلافية الحاكمة. فحيثما غابت السلطة التشريعية الرقابية الفاعلة والسلطة القضائية المستقلة النزيهة ظهر الفساد وتعاظم داخل مؤسسات السلطة التنفيذية.

ويُخطئ من يظن أن هذا الفساد إنما بدأ وتراكم في عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، بل إنه يضرب بجذوره إلى ثلاثة عقود ونصف خلت من الحكم البعثي الشمولي السابق، وللأسف فإن أغلب من وصلوا إلى السلطة منتخبين وتوسّمت فيهم جماهير ناخبيهم الذين جذبتهم شعاراتهم البراقة المتدثرة بالتقوى والإيمان والخلاص... هؤلاء جذبتهم شهوة المال من خلال ما يمتلكونه من نفوذ هائل في السلطة، فانغمسوا بدورهم في مراكمة اختلاسات جديدة من المال العام بدلاً من تطهير المؤسسات والأجهزة الرسمية من أدرانه، وهذه لعمري جريمة نكراء تُرتكب على أيدي المسئولين الجُدد المعارضين للنظام السابق أشنع من جرائم أسلافهم في العهد الدكتاتوري، وذلك باستغلال عذابات الشعب وجراحاته المديدة في المزيد من نهب ماله، وهو الذي لم يذق طعم الاستقرار والغذاء الكافي طوال 35 عاماً من الحروب وأهوال القمع الدكتاتوري المتواصلة، وذلك من خلال دغدغة مشاعره الدينية.

ولعل معظم أسماء الطبقة الحاكمة الموجّه إليها أصبع الاتهام بضلوعها في الفساد، كانت كوادر جهادية في الحركات الإسلامية المعارضة للنظام السابق سواءً من المقيمين في أوروبا وإيران وسورية أو غيرها من الدول الأخرى.

وإذا كان من حسن حظ الحركة الشعبية المطلبية أن يدي رئيس الوزراء العبادي بيضاوان لا تشوبهما شائبة، وما انفك يعلن المرة تلو الأخرى عن تجاوبه المبدئي مع مطالبها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أي حد يستطيع أن يذهب بعيداً في تلبية مجمل مطالب هذه الحركة، وخصوصاً تلك ذات الطابع الجذري التي تمس أسس وأعراف النظام الحالي القائم على المحاصصة الطائفية، وهي التي بفضلها وصل العبادي نفسه إلى سُدة رئاسة الحكومة؟ وهل تستطيع حزمات إصلاحاته المتتالية أن تجتث الفساد المزمن في جهاز الدولة من جذوره؟

إن أبرز الإصلاحات المعلنة من قِبل العبادي حتى الآن: إلغاء مناصب النواب الثلاثة لرئيس الوزراء والنواب الثلاثة لرئيس الجمهورية، وتقليص وزارات ودمج أخرى، وتحديد أعداد المستشارين. ويُقال إنه بصدد حزمة إصلاحات جديدة تقلّص أعداد وكلاء الوزارات والمديرين العامين، لكن هل كل ذلك يلبي مطالب المتظاهرين ويقضي على أهم مرتكزات القوة ومراكز النفوذ الكبيرة التي يستند عليها الفساد؟ وخصوصاً إذا ما علمنا أن هيئة النزاهة تسعى إلى إعادة 242 مُداناً فرّوا إلى الخارج بما اختلسوه، بينهم أربعة وزراء و19 مديراً عاماً، هذا بخلاف 175 نائباً يرفضون كشف ذممهم المالية، وثمة 2171 متهماً بقضايا الفساد أحِيلوا على المحاكم من بينهم 13 وزيراً. وحسب تقرير هيئة النزاهة نفسها فقد صدر أكثر من 2000 أمر ضبط قضائي بحق متهمين من بينهم تسعة وزراء.

ثم ماذا سيكون دور العبادي إزاء التقرير الخطير الذي خلصت إليه لجنة أسباب سقوط الموصل في أيدي داعش والذي يكشف الفساد الخطير الذي ينخر المؤسسة العسكرية؟ فهل يستطيع حقاً تنفيذ ولو الحد الأدنى من توصيات هيئة النزاهة وتوصيات لجنة سقوط الموصل ومطالب الجماهير المحتشدة ساعات طويلة في ساحة التحرير والمحافظات الجنوبية، أم ينتهي ربيعها الصيفي بالإحباط كما انتهى ربيع انتفاضات الشعوب العربية في شتاء 2011؟

في واقع الحال ليس بمقدور العبادي موضوعياً أن يمتلك العصا السحرية لضرب الفساد واجتثاثه من جذوره مهما كانت نواياه صادقةً، فالفساد لم يعُد اليوم أفراداً أو رموزاً يمكن تنحيتها وكفى الله المؤمنين شر القتال، بل أضحى الفساد اليوم أشبه بالمؤسسة المافيوية القوية القائمة بذاتها، بروابطها السياسية والاقتصادية والدينية المتشابكة المعقدة في الداخل وببعض القوى الإقليمية المجاورة للعراق، وهذه قادرةٌ على التلوّن وإعادة خداع الجماهير باللعب على عواطفها الدينية المذهبية. فمن دون إعادة صياغة الدستور وإلغاء المحاصصة الطائفية وبناء وعي وطني يقوم على المواطنة والهوية الوطنية المشتركة الجامعة كبديل عن الهويات الفرعية الطائفية، لن يتمكن العبادي من تحقيق الإصلاح ولو بحده الأدنى المأمول. وللأسف فإن الحركات الإسلامية العربية المعاصرة على اختلاف انتماءاتها الطائفية، ورغم تضحياتها الهائلة للوصول للحكم، مازالت تفتقر إلى تبني وعي عابر للطوائف والقوميات يكون قادراً على استقطاب أعرض قاعدة جماهيرية ممكنة، تمثّل النسيج الوطني لشعوبها بمختلف تلاوينه.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4734 - الأحد 23 أغسطس 2015م الموافق 09 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 8:10 ص

      الهوية الوطنية الجامعة هذا ما عملة على تخريبه الأحزاب الطاءفية

      هي لا غيرها تتحمل الفتنة التي حلة بالعراق وستغلة الدين للوصول للسلطة

    • زائر 6 | 2:46 ص

      من البر

      زائر 1
      اتفق معاك

    • زائر 4 | 1:43 ص

      معلومات الكاتب ناقصة

      مع احترمنا للأستاذ الكاتب إلا أن معلوماته بشأن هذا الموضوع تبدو غير وافية والدليل كلامه بأنه يدي العبادي لم تتلوث بالفساد. يا ترى هل يعلم الكاتب بأن العبادي كان وزيرا للاتصالات في عهد أول حكومة برئاسة إياد علاوي؟ وهل يعلم بأن العبادي كان رئيسا للكتلة البرلمانية لحزب الدعوة في الفترة التي تولى فيها المالكي رئاسة الحكومة؟ إذن العبادي ليست شخصية هامشية في الحزب الذي كان ينتمي له نوري المالكي وإنما من رموز هذا الحزب

    • زائر 3 | 1:40 ص

      العراق لا تقوم له قائمة إلا برجوع إلى المواطنة وترك الطائفية

      التي اسستها الأحزاب المذهبية وفرقة الشعب وجعلة المحاصصة الطائفية هي التي تدير العراق وتتحكم في أهم مفاصله وكذالك وجود المليشيات لكل حزب

    • زائر 2 | 11:55 م

      لماذا

      لماذا استاذنا الفاضل لا تسمى الاشياء باسمائها وتذكر اسم الدوله التى اسسست للفساد فى العراق بالتعاون مع امريكا وعملت على تجهيل الشعب العراقى واستغلال احدى مكونات الشعب العراقى دينياً وعاطفياً ومادياً من اجل مصالحها واكبر دليل ان الهاربين الفاسدين من العراق يتجهون الى هذه الدوله لحمايتهم , كل ميزانية العراق خلال عهد رئيس الوزراء السابق ذهبت لفك الحصار المفروض على تلك الدوله فى الفتره السابقه اما الشعب العراقى فنقول له اعانك الله على من تولى الحكم بعد ... /// تحياتى

    • زائر 1 | 11:23 م

      راي واقعي

      الراأي الاخير في المقال رأي فية واقعية ووعي جميل اتمنى يأخذ السياسيون به او على الاقل يفهموه او يعترفوا به

    • زائر 7 زائر 1 | 7:14 ص

      ملاحظة

      هذا اللى ذابحكم لا كون ثق ان نجوم السماء أقرب لكم من الحكم مرة ثانية

اقرأ ايضاً