العدد 4769 - الأحد 27 سبتمبر 2015م الموافق 13 ذي الحجة 1436هـ

مولد الرجل العجوز

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في مثل هذا اليوم (28 سبتمبر) وقبل 2566 عاماً وُلِدَ هذا الرجل: كونفوشيوس. يلفظه الإنجليز هكذا: Confucius والصينيون هكذا: ...... والحقيقة أن اسمه باختصار يتكوَّن من جزأين: الأول هو اسم القبيلة التي ينتمي إليها وهي كونج، والثاني هو الصفة التي حملها وهي الزعيم أو الفيلسوف ليصبح اسمه بالعربية: فيلسوف الكونج أو زعيمها.

عندما وُلِدَ كونفوشيوس وجد نفسه في بيئة عائلية فقيرة لكنها نابهة. ولم تمض سوى سنين ثلاث حتى مات عنه والده ليدخل الطفل في نظام اليُتْم والبؤس. لذلك، فرضت عليه الظروف أن يعمل منذ صغره في أعمال شاقة كالرَّعي وغيرها. وقد قُدِّر أن يلمح فيه أحد الأمراء فراسةً وذكاءً وحباً للتراث الصيني القديم وآدابه، فأبعده عن العمل في الرَّعي وجعله موظفاً في مهنة أعلى.

فكانت تلك فرصته كي يزيد من اطلاعه ويُطوِّر من مهاراته في الكتابة والخطابة، فكرّس ذلك صورته لدى الأوساط السياسية والثقافية في الصين. وربما كان لمسقط رأسه دورٌ في أن يكون متقد الذهن ومنفتح الروح. فقد وُلِدَ في شرق الصين بمنطقة تطل على البحر الأصفر، جزء منها جبلي والآخر نهري. حيث أن المناطق الجُزُريَّة البحرية عادة ما تجعل أهلها أكثر انفتاحاً وتوقداً.

ولم يُكمل كونفوشيوس عقده الثاني حتى بزغ اسمه وعلا نجمه. وكان اهتمامه الأول هو التعليم ثم التعليم ثم التعليم. ولم يمنعه تعيينه حاكماً لولاية صينية ومكافحته الفساد ومواجهة قطّاع الطرق وكسر الاحتكار أن يستمر في مشروعه الثقافي، الذي تأثر به ملوك وأمراء عديدون في الشرق. فهو لم يكن داعية في الدِّين ولم يدَّع اختصاصه بمنصب ديني، بل كان رجل علم وفلسفة وأخلاق. وقد استمرت أفكاره بعد وفاته لغاية اليوم كجوهر وكروح للصينيين.

ارتكزت الكونفوشيوسية على العناوين العامة للسلوك الإنساني كتهذيب النفس وإقامة مجتمع يؤمن بالعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمحبة والأخوَّة. لذلك، كانت هذه الدعوات لا تختص بدين أو تراث محدد دون آخر، وبالتالي تحوَّلت إلى أفكار مقبولة من الجميع في الصين وعابرة لكل معتقداتها الدينية، التي سبقت عصر كونفوشيوس بسنين طويلة.

والحقيقة، أن ما قام به هذا الرجل يُمثل تجربة جديرة بالنظر رغم مرور 2566 عاماً. فالقواسم المشتركة بين البشر هي القادرة على خلق قاعدة أوسع من التفاهم والتعايش فيما بينهم. كما أن من أهم حسنات تلك القواسم المشتركة أنها لا تتفرَّع ولا تُفسَّر بطرق اجتهادية مختلفة، كونها غير مختصة بفئة من الناس دون غيرهم: فالصِّدق والكذب موجودان ومفهومان للجميع.

أما الاصطباغ بنوع محدد من الانتماء ومحاولة الدعوة من خلاله فإنها لا تمنح قبولاً واسعاً. فعندما تقول: يهود، فأنت تتحدث عن 16 مليوناً ونصف المليون إنسان في العالم. وعندما تقول: مسيحيون، فأنت تتحدث عن ملياريْن و170 مليون إنسان. وعندما تقول: مسلمون فأنت تتحدث عن مليار و60 مليون إنسان. وعندما تقول: هندوس فأنت تتحدث عن مليار و73 مليون إنسان، إلى آخره من الديانات والمعتقدات الأخرى. لكن في المحصلة فإن لكل تصنيف منها فضاء خاصا.

هذا الفضاء الخاص يَحُول دون التقاء تلك الأديان في تفاصيل ما تعتقد، لذلك، فهي تلجأ إلى المشتركات لتخلق فيما بينها فضاءً عاماً كي لا تصطدم. وقد أثبتت التجربة أن تقادم الزمن لا يخلق ذاكرة ميتة لدى تلك الأديان أبداً، فيما خص النظرة المتوجسة من الآخر، بل هي في تذارر مستمر، وخصوصاً مع وجود قوى متطرفة فيها، لا يستقر لها حال إلاَّ بالمواجهة والصراع.

فبعد 3500 عام لم ينته الهندوس إلى لحظة السكينة التي تجعلهم لا يدخلون في صراعات مع جيرانهم. وبعد 2500 عام لم ينته اليهود إلى ذات النتيجة، بل هم اليوم في أوج الصراع العرقي والديني بعد احتلالهم فلسطين. أما البوذيون فقد بيَّنت المجازر في بورما ضد الروهينغا، أن لغة التسامح لديهم يمكن أن تُقلَب إلى عكسها في أول اختبار عرقي وديني في جوارهم. وهو أمر يتكرر مع المسيحيين والمسلمين بل وحتى عند تفريعات تلك الأديان حيث المذاهب. وبالتالي تبقى المأساة مستمرة، مع تطلع الجميع إلى كلمة سواء، تقوم على ما يشتركون فيه من أشياء.

وللعلم، فإن هناك مجموعة من المشتركات التي يمكن التوافق عليها للعيش في مجتمع آمن، وردت حتى في القرآن الكريم، لكن لا يتم التطرق إليها دائماً، كالبر بالوالدين وتحريم القتل والابتعاد عن الفواحش وعدم مس مال اليتيم وضرورة العدل في الكيل والميزان وعدم الكذب والوفاء بالعهد وغيرها من الأمور، التي تصلح أن تكون قواعد مشتركة للناس في حياتهم.

اليوم، فإن حاجة البشرية الأولى هي أن تقتنع بأن تفاصيل ما تعتقد به ليس هو الخلاص لمآسيها كما يعتقد المبشّرون هنا وهناك، بل في الاعتقاد بما هو عام، ويكون مقبولاً ومُقرَّاً عند الجميع. أما الإصرار على إرغام الآخرين على العيش والاعتقاد بمثل ما نعتقد فهو المدخل إلى الجحيم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4769 - الأحد 27 سبتمبر 2015م الموافق 13 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 8:04 ص

      كلنا بنو آدم

      فلا هطلت علي ولا بأرضي * سحائب ليس تنتظم البلادا
      ولو أني حُبيت الخلد فردا، * لما أحببت في الخلد انفرادا

    • زائر 5 | 4:15 ص

      متابع

      يا أخي المشرف و الله مافي مشكلة في كلمة الخمس كل التعليقات الأخرى و على مدى سنوات كان فيها هذه الكلمة الاف المرات ، مبدأ اسلامي يقر به الجميع ومذكور في القران الكريم (( فان لله خمسه و للرسول ولذي القربى ... )) و يختلفون في بعض التفاصيل بعد من شنو خايف ؟

    • زائر 3 | 4:00 ص

      متابع ..... ( 2 )

      وفيه نظام قضائي و سياسي و حقوقي و حتى يصل إلى تنظيم الملابس و تفاصيل أخرى ( طبعا نتحدث هنا عن ما هو متفق بين المذاهب الاسلامية الكبرى حتى لا يشكل أحد بوجود الخلاف بينها ، فالمشتركات بينها كثيرة وتفي بصنع منظومة حياتية متكاملة و ليس فقط مبادئ عامة ) ....... فلن يقبل الاسلاميين بعد هذا بالقول إن الحل في العام المشترك لا في التفاصيل ، وبصرون على أن يقدموا الاسلام بصفته (تفاصيل) تؤدي لخلاص المجتمعات .
      فما رأي الأستاذ محمد هنا ؟

    • زائر 2 | 3:51 ص

      متابع .... ( 1 )

      اقتباس (( حاجة البشرية الأولى هي أن تقتنع بأن تفاصيل ما تعتقد به ليس هو الخلاص لمآسيها كما يعتقد المبشّرون هنا وهناك، بل في الاعتقاد بما هو عام، )) ......

      بعض الاسلاميين سيناقشون هنا بأن الخلاص للمجتمعات ليس في المشتركات بين الأديان ، بل في التفاصيل الموجودة في الدين الاسلامي . فالدين الاسلامي هو الوحيد الذي يقدم منظومة كاملة للحياة وليس مجرد مبادئ عامة . ففيه نظام اقتصادي به حلول للمشاكل العالمية كال..... والزكاة.... التي لو طبقت على المئات من أصحاب التلريونات لارتاحت البشرية من الفقر ....

    • زائر 1 | 2:13 ص

      من اقوال هذا الرجل العظيم:

      العقل كالمعدة المهم ما تهضمه لا ما تبتلعه

اقرأ ايضاً