العدد 482 - الأربعاء 31 ديسمبر 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1424هـ

وزارات الإعلام بين الإلغاء وتجديد الـدور

سلمان صالح تقي comments [at] alwasatnews.com

.

لم يكن مفاجئا الغاء وزارة الاعلام من التشكيلة الوزارية التي صدرت حديثا في المملكة الأردنية الهاشمية، فقد سبقتها الشقيقة قطر الى مثل هذا الاجراء... بل إن الكثير من الأقوال تتردد بين فترة وأخرى في بعض الدول العربية حول الاتجاه الى خصخصة الجهاز الاعلامي أو الغائه... فما هو الدافع وراء هذه الخطوة؟ هل فقد الاعلام الرسمي دوره في عالم الاتصال التكنولوجي والفضاء المفتوح؟! هل انتهت الحاجة الى توصيل الرسالة الحكومية لمتلقيها من المواطنين؟! وهل اتسعت مساحة حرية الاختيار أمامهم لينصرفوا عن (الصوت الأوحد) الموجه لهم؟! هل أصبحوا على درجة من الوعي ترفض الوصاية على الفكر وتقييد التعبير عنه؟! هل أصبح الاعلام اسطوانة مشروخة تلف حول نفسها فانفض عنها السامعون؟! هل هناك من سعى الى تشخيص الداء ولم يجد له دواء غير الحل والالغاء؟!

كل هذه الأسئلة أصبحت مطروحة بشكل ضاغط أمام كل منشغل بالهم الاعلامي وكل من يسعى الى ابقاء جذوة الحياة متألقة في شراييـنه... فهل انتقل جزء ولو بسيط من هذا القلق للقائمين على الأجهزة الاعلامية في حكوماتنا العربية؟! أخشى أن نصدم بالنتيجة التي تتجلى من خلال متابعة معطياتهم التي شلها الجمود وعصف بها التكلس... فقد اقتصر الاعلام العربي على دوره التقليدي كتابع منفذ لتوجهات لا دور له في صوغها، وأصبحت وزارات الاعلام في معظم دولنا العربية عبارة عن (مكاتب للعلاقات العامة) همها السعي وراء القاء ضوء باهت على الانجازات الحكومية واستغلال سـيئ للأجهزة الحديثة التي تتكدس في أروقة محطاتها الاذاعية والتلفزيونية واهتمام سطحي بالتراث والثقافة جعلهما في مصاف أساطير جحا والشاطر حسن! وأكملت دورها (الحضاري) بتبني القوانين المتشددة الساعية الى تقييد الفكر وقولبة الاتجاهات! فماذا تبقى لها من دور أو تأثير في عالم اليوم المتطور؟!

هل معنى هذا أن تلغي الحكومات العربية وزارات الاعلام فيها؟ لا... فمن يشكو الصداع لا نداويه بقطع رأسه، بل بالسعي لايجاد دواء ناجع يعيد اليه صحته وعافيته... وأولى خطواتنا يجب أن تنطلق من تشخيص الداء قبل أن يستفحل ويستعصي على العلاج... لابد من استراتيجية جريئة تقلب المفاهيم التقليدية والأساليب المتوارثة التي ما عادت تواكب العصر... استراتيجية تحمل من الخطط والبرامج ما من شأنه أن يحول وزارات الاعلام العربية من مكاتب ادارية تجتر عملها في حلقة مفرغة الى مراكز اشعاع وتنوير يكون لها دورها الفاعل في مجتمعاتها وخارج حدود دولها على حد سواء.

لماذا لا تجدد هذه الوزارات دورها بحيث تتحول الى مراكز تنوير لاعداد القادة ونشر الوعي بين المواطنين أسوة بمؤسسات الفكر والرأي في الولايات المتحدة الأميركية... وعلى رغم كون تلك المؤسسات مراكز خاصة بينما وزاراتنا تتبع الحكومات إلا أن ذلك لا يمنعنا من الاستفادة من طريقتها في خلق مفاهيم جديدة للاعلام والاتصال بما يتفق واحتياجاتنا الوطنية... ان مؤسسات الفكر والرأي هذه هي العقول المفكرة والخبرات المتألقة التي ترسم لأميركا حاضرها وتخطط لها مستقبلها... ويتم اختيار أفرادها وفقا لمعايير دقيقة تعتمد العلم والكفاءة من دون اعتبارات أخرى... وفي مقال قيّـم لمديـر التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، رتشـارد هـاس وأحـد الأعمدة البارزين في تلك المؤسسات أوضح المهمات التي تتولاها بقوله:

«تقدم مؤسسات الفكر والرأي، من منظور صانعي السياسة الأميركية، خمس فوائد رئيسية، ويكمن تأثيرها الأكبر في توليد تفكير جديد يبدل الطريقة التي ينظر لها صانعو السياسة الأميركية الى العالم ويستجيبون له، ومن الممكن أن يؤدي التبصر الجديد الى تغيير تصور المصالح القومية الأميركية وفهمها والتأثير في ترتيب الأولويات وتوفير خرائط طرق العمل وحشد التحالفات السياسية والبيروقراطية وصوغ شكل قيام مؤسسات مستديمة، غير أنه ليس من السهل لفت انتباه صانعي السياسة المنشغلين والغارقين في المعلومات أصلا... لذلك تحتاج مؤسسات الفكر والرأي لكي تنجح في ذلك الى استغلال قنوات متعددة والى استراتيجيات تسويق من خلال نشر مقالات وكتب وأبحاث ودراسات بين الفينة والأخرى، والظهور بصورة منتظمة على شاشات التلفزيون وفي مقالات الرأي على صفحات الصحف وفي مقابلات صحافية واصدار نشرات وبيانات حقائق، وصفحات على شبكة الإنترنت، وتوفر جلسات الاستماع أمام الكونغرس فرصة أخرى للتأثير في الخيارات السياسية، فالبحاثة المستقلون يستطيعون اعطاء تقييم صريح للتحديات العالمية الملحة ولنوعية الردود الحكومية... وتساعد تلك المؤسسات في اثراء الثقافة المدنية الأميركية الأوسع عن طريق تعريف مواطني الولايات المتحدة بطبيعة العالم الذي يعيشون فيه، وقد زاد تسارع وتيرة العولمة من أهمية وظيفة التواصل مع الجمهور أكثر من أي وقت مضى، فمع ازدياد اندماج العالم أكثر فأكثر باتت الحوادث والقوى العالمية تطال المواطن الأميركي العادي وتؤثر عليه».

هذه باختصار أهم المهمات التي تضطلع بها مؤسسات الفكر والرأي كما أوردها هاس... ومن المعلوم أنها لا تقتصر على دراسات وأبحاث مكتبية تحفظ في الملفات وانما يتخرج منها جيل مؤهل من أقطاب الفكر والسياسة الذين يستعين بهم معظم الرؤساء في إداراتهم... الى جانب اختيار الكثير من تلك الدراسات كاستراتيجية للعمل القومي، فقد استعان بها الرئيس رونالد ريجان حين تبنت حكومته مطبوعة (تفويض بالتغيير) التي أصدرتها مؤسسة هيريتيج كبرنامج عمل للحكم... كما كان تقرير مؤسسة كارنيغي ومعهد الاقتصاديات الدولية الذي قدم مقترح انشاء (مجلس أمن اقتصادي) موضع اهتمام ادارة الرئيس كلينتون حين تبنته بانشائها (المجلس الاقتصادي القومي) الذي لايزال قائما الى يومنا هذا.

لماذا لا نستفيد بهذه التجربة الناجحة بإعداد دراسة عاجلة تخطط لدور جديد للاعلام، بحيث تجعل من الوزارة مؤسسة فاعلة توظف امكاناتها المادية والبشرية في ايجاد أرضية خصبة للمعلومات والأفكار يكون لها دورها المؤثر في صوغ الرأي العام وتنويره وفي ايجاد الجيل الآخر من قادة الفكر والرأي والسياسة، مستنيرين بالتجربة الأميركية؟ لماذا لا يتم تكليف مركز البحرين للدراسات والبحوث، وهو مؤسسة علمية رائدة، باعداد دراسة عن هذا المقترح تحدد فيها استراتيجية جديدة لوزارة الاعلام بحيث تخرج من أسر التوجه الرسمي الضيق الى الإطار الرحب الذي يخدم المشروع الاصلاحي لجلالة الملك من خلال التوعية المدروسة التي تأخذ في اعتبارها خلق الأرضية الصالحة لانجاحه في ظل مجتمع ديمقراطي حـر متنور وجهاز حكومي مقتدر ومدرك لمتطلبات المرحلة الدقيقة التي تمر بها منطقة الخليج ومستوعب لاستحقاقاتها، على أن تتسم هذه الدراسة بامكان التطبيق الواقعي بعيدا عن التحليق في الفضاء الأكاديمي المجرد.

هذا الدور الجديد للإعلام يحتاج الى تفكير خلاق وخطوات جريئة لا ترتعش مخافة التغيير والى إيمان بمواكبة العصر ومعطياته... وإلا سنظل خارج اهتمامات المواطن باصرارنا على مواصلة تسطيح الفكر وتكرار ذات الأسطوانة المشروخة التي ستجعلنا كالراقص على السلم (لا اللي فوق سمعوه ولا اللي تحت شافوه) الى أن تتعثر خطواتنا فلا نجد غير الالغاء والحل سبيلا... فهل نحن مدركون؟

إقرأ أيضا لـ "سلمان صالح تقي"

العدد 482 - الأربعاء 31 ديسمبر 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً