العدد 484 - الجمعة 02 يناير 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1424هـ

من طغيان صدام إلى طغيان التحالف

نظرية المؤامرة تغلف فهم العراقيين للحوادث

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

لم يكن العميد توفيق الياسري من الموالين لصدام على الاقل منذ نهاية حرب تحرير الكويت، فقد انشق عليه وغادر الى الخارج لينضم الى المعارضة في المنافي التي تحالفت مع واشنطن للاطاحة بنظام صدام، وعاد الياسري مثله مثل المئات من شخصيات المعارضة العراقية بعد احتلال بغداد وسقوط الطاغية.

الياسري الذي تولى الاشراف على وزارة الداخلية بتكليف من سلطة التحالف قبل تعيين مجلس الحكم وتعيين الوزراء مازال يقر انه لم يكن ممكنا الخلاص من دكتاتور بغداد من دون الدور الأميركي. ولكنه قال في ندوة عقدت منذ اكثر من الشهر في فندق الشيراتون في بغداد انه عندما رأى ما فعله الجيش الاميركي في منطقة بلد والضلوعية اللتين تؤويان معاقل المقاومة، من تجريف للبساتين وقطع للنخيل تذكّر قيام جيش صدام العام 1991 بقلع النخيل في مناطق الفرات الاوسط لقمع الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في هذه المنطقة بعد تحرير الكويت.

ويتزعم الياسري الائتلاف الوطني الذي يضم عدة احزاب عراقية بعضها كان في المنفى وبعضها الآخر تأسس بعد سقوط صدام، وبالتالي فهو مثله مثل الكثير من اعضاء الصفوة السياسية العراقية الجديدة التي تطمح ان تكون لها حصة في كعكة السلطة في المرحلة المقبلة، لا يتطرق الى المداهمات الاميركية التي يتم فيها تفتيش البيوت وتخريب اثاثها، كما تنهب فيها احيانا المدخرات بالدولار. وهو لا يلتفت إلى شكوى بعض العراقيين من خضوعهم لاهانات كبيرة من نوع معس وجوههم تحت جزمات الجنود الاميركيين. ولكن في كل الاحوال الياسري وغيره يتحسسون آلام العراقيين، ويوجهون الانتقادات إلى سلطة التحالف.

ولا نعرف على وجه الدقة اذا ما كانت الصورة واضحة لدى سلطة التحالف، الى ان العراقيين يقارنون بين ممارسات جيش التحالف واجهزة صدام القمعية، فلا يجدون فارقا نوعيا، لاسيما عند اولئك العراقيين الذين يتعرضون لمبدأ العقاب الجماعي، اذ تدفع عائلة او قبيلة كاملة ثمن سلوك احد اعضائها، وهو مبدأ طالما مارسه النظام المخلوع. ولكن للانصاف فإن المعارضين المسلحين لقوات التحالف وانصارهم يدركون جيدا انهم لن يتعرضوا للتعذيب وفق تقنيات تفوق الخيال، وان زوجاتهم لن يغتصبن تحت انظارهم ولن يعدم أهلهم وابناؤهم. فالجميع يعرف في داخله ان عصر الارهاب ولى؛ وهذا العامل فقط ربما أجّل انفجار انتفاضة شعبية واسعة النطاق، ولكن من جانب آخر فإن استمرار المقارنة ورؤية الامور بمنظار الثقافة الموروثة عن المعاناة من النظام المخلوع قد يفجر مثل تلك الانتفاضة المتوقعة في أية لحظة.

ومع ذلك فإن استاذا جامعيا مثل رحيم عبدالله الذي طالما كان يشكو من ممارسات النظام المخلوع بل ويعتبر نفسه متضررا منها، وهو فعلا كذلك، صار يجد الاميركيين الآن أسوأ من ذلك النظام. يقول «لقد ولدت لدينا خبرة الخوف من نظام صدام تفادي صواعقه، وقد اتقن معظم العراقيين مع مرور السنين القدرة على تفادي هذه الصواعق وتآلفوا مع الخوف الذي اضحى جزءا من شخصيتهم وتعودوا عليه، ولكن المشكلة الآن اننا لا نعرف صواعق الاميركيين ولا كيفية تفاديها، ولاسيما ان هذه الصواعق اتت وهي تحمل معها غياب الامن في الشارع والانفلات والفوضى التي صارت تنذر بقرن الفتنة الطائفية والعرقية التي يمكن ان تحرق كل شيء».

وفي الواقع فإن الكثير من الناس هنا يتشاركون في هذه الرؤية؛ إذ من الصعب معارضتها، لاسيما انه عندما يتم تفحص الامور على الواقع، فلا مناص من اكتشاف النزوع الواضح لدى قوات التحالف للدفاع عن مصالحها الخاصة تحت غطاء خطاب يعتمد المصلحة العامة في الشكل فقط؛ وعلى نحو يقترب مما كان يفعل النظام السابق، فأمن سلطة التحالف وقواتها يفوق كل اعتبار، مثلما كان يفعل النظام مع أمنه. ومثل النظام السابق الادارة المدنية والقوات الاميركية اعتمدت سياسة المعاقل المحصنة التي كانت سائدة في زمن الطغيان. ولم تكتف باحتلال القصور الرئاسية وقصور الضيافة والنوادي الخاصة، بل سيطرت ايضا على بعض الفنادق والمدارس والمجمعات السكنية إذ اتخذت اجراءات أمنية ضخمة. ولتفادي الهجمات المحتملة بالسيارات المفخخة، باتت بغداد مقسمة بكتل كونكريتية يسميها العراقيون «الجدار العازل» في اشارة واضحة الى ان القوات الاميركية تستعير الاساليب الاسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين. وبينما المواطنون متروكون من دون رعاية، تحاط القصور المحصنة برجال مسلحين موالين تماما لها، وسلطة التحالف تحتكر الاموال المتوافرة وفق آليات (نفقات تشغيل باهظة او فساد بكل معنى الكلمة) لا تبتعد كثيرا عما كان سائدا من آليات كان يحتكرها ديوان الرئاسة، إذ تنعم القصور بالكهرباء فيما بغداد وغيرها من المدن تعج بالظلام معظم الوقت. وحتى عندما دعا الجيش الاميركي العراقيين الى التعاون معه لتحقيق الامن الذي لا يمكن من دونه إعادة الإعمار ورفع شعار «اعطونا الامن لنعطيكم الكهرباء» اعتقد الكثيرون ان الكهرباء متوافرة، وان قطع التيار مجرد عقاب لهم.

ومثلما كان يدفع صدام الجنود الشيعة الى نقاط التماس في حربه على ايران، يعمل الجيش الاميركي على استبدال جنوده بالعراقيين في المواقع الاكثر سخونة ولاسيما في نقاط التفتيش. ومثلما كانت حاشية صدام تقتل لمجرد الاشتباه، فانه خلال الاشهر التسعة الماضية ارتفع عدد الضحايا بين المدنيين العراقيين الذين ماتوا برصاص قوات التحالف بسبب الاوامر المتساهلة لاطلاق النار.

وعلى نحو واحد مثلما كان خطاب صدام يتذرع باستمرار مآسي العراقيين نتيجة المؤامرات الخارجية التي جعلت البلد يعيش حروبا متوالية وبالتالي حصارا دوليا، فان قادة سلطة وقوات التحالف يرفعون بصورة عامة عن أنفسهم أية مسئولية في أعمال العنف والخلل في آليات العمل وينزعون لترسيخ ادراك من ان المعارضة المسلحة التي تواجههم مجرد اعتداء على الشعب نفسه. وفي الخطاب الرسمي تصور سلطة التحالف القائمين بالهجمات في خانة الاشرار ضد العراقيين قبل كل شيء، وان القضاء على هذا العدو من شأنه ان يفتح باب التقدم وعلى الشعب ان يدرك ان معاناته انتقالية، مثلما كان يعد صدام العراقيين انه بانتهاء ظرف الحصار ستحل كل الامور ويسود التقدم والديمقراطية.

وفي المحصلة فان «نظرية المؤامرة» هي التي تغلف فهم العراقيين لكل ما جرى على مدى العقود السابقة وما يجري حاليا، ويرون ان منطق الطغيان مستمر، وان صدام أتى بالاحتلال باتفاق مسبق بعد ان انجز مهماته في العقود الماضية ومهد السبيل للمظلة الاميركية لترفرف عاليا في ارجاء المنطقة... حتى ان بسطاء العراقيين يرددون «لقد ذهب التلميذ ليتولى مكانه المعلم»

العدد 484 - الجمعة 02 يناير 2004م الموافق 09 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً