العدد 4850 - الخميس 17 ديسمبر 2015م الموافق 06 ربيع الاول 1437هـ

تناقضات المركزية العربية

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

من أهم منطلقات المشكلة العربية سيطرة نظرة دونية بين الكثير من النخب العربية تجاه الشعوب والشرائح الاجتماعية المختلفة، وذلك بصفتها قاصرة وغير قابلة للتطور والنمو. لا تستوي كل النخب في هذا التفكير، فهناك تفاوتات. لكن قطاعاً ليس صغيراً من النخب العربية يعتبر أنه لسوء طالعه يعيش في جغرافيا سلبية ومع شعوب دون المستوى. هكذا لا تعود قضايا الفقر والبطالة والتردي مسئولية النظام، ولا يصبح الاحتكار السياسي والفردية إلا ضرورة في التعامل مع هكذا شعوب. للحظة يبدو الأمر وقد اختلط، فهل الذي يتحدث هو الاستعمار أم وريثه، أم أن قيم الاستعمار (حول عدم قدرة الشعوب على ممارسة السياسة والتداول على السلطة) انتقلت عبر الوقت لتصبح قيم النخب الجديدة. وقد أضافت ثورات الربيع العربي مخاوف جديدة في صفوف النخب الحاكمة. لهذا تتحصن قطاعات من النخب العربية وبدرجات متفاوتة وصولاً إلى التطرف يميناً ضمن أسوار وقلاع مفادها أن الديمقراطية والحريات والمساحة العامة تمثل خطراً على النظام. بعض النخب يخشى من كل تغيير، وبعضها يفضل التغريب الشامل لكن بشرط عدم إصطحابه: الحريات والحقوق والمساحة العامة التي تمثل أحد أعمدة قدرة الغرب على التطور. مأزق الأرستقراطية العربية (وبالطبع ليس كلها) تحول إلى مأزق عربي بامتياز. من جهة أخرى إن أول النخب العربية التي ستخرج من هذا الحصار الذي فرضته على نفسها بنفسها ستكون قادرة على تجيير قدراتها وخبراتها لصالح تقدم الشعوب. يبقى هذا الأمر (الإصلاح القادم من الأعلى، أم من الأسفل أم من الاثنين) مفتوحاً على مصراعيه.

إن أصل التحدي يقع في ذلك الحيز من النظام العربي غير المساءل والمفرغ من التوازن بين شرائح ومؤسسات. يكفي أن نستعيد كلمة اللورد أكتون الشهيرة في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر: «السلطة تميل إلى أن تكون مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة شاملة». لكن أكتون تابع قائلاً: «العظماء من الرجال وفي معظم الحالات رجال سيئون». وقد قصد هنا أكتون أن الأكثر مقدرة من الرجال على تجاوز الآخرين والتلاعب بهم ثم بالقانون هم الذين يصلون إلى القمة، وأن الناس بطبيعتها ستعطي من هو في القمة الفرصة ليستغل قوته وإمكاناته مما يفتح الباب للفساد.

ولقد سبق أن قال ابن كثير في القرن الرابع عشر: «الناس على دين ملوكهم». وبالفعل تتأثر مجتمعاتنا بالنماذج التي تحكمها. وبما أن النماذج العربية الحاكمة أكثر ميلاً للمركزية وعدم تقبل الرقابة فمن الطبيعي أن يتأثر المجتمع بهذه المدرسة. لهذا يصبح مدير مدرسة صغيرة ديكتاتوراً متشبهاً بالنموذج الذي يغذيه الإعلام وتعكسه الصحافة المنغمسة في تأليه الشخصية، ونجد أن المسئول عن دائرة في مؤسسة حكومية أو خاصة لا يتقبل نقداً أو مساهمة بسهولة ويسر. لقد أنتج الواقع العربي نظاماً سياسياً وأيضاً اجتماعياً وثقافياً لا يرى ولا يسمع إلا ما يهدد احتكاره ولهذا قلما يتصدى لما يهدد الوطن الأوسع. وبما أن لدى الأنظمة العربية ميلاً طبيعياً لتهميش الكفاءات والأنماط النقدية من الأفراد، نجد أن أبسط مسئول قسم يمارس ذات السياسة بهدف التفرد والبقاء. فالأولوية للسيطرة التي تتحول إلى غاية بحد ذاتها عوضاً عن أن تكون السلطة المساءلة في دائرة أم أكبر وسيلة للإنجاز تتحول إلى وسيلة إفساد.

وقلما استوردت الدول العربية من الغرب التجارب الديمقراطية وتجارب الحريات، بل على العكس من ذلك تم استيراد أكثر أدوات التكنولوجيا تقدماً من الغرب، وتم تفادي تعلم قيم الحرية والنقد والديمقراطية بصفتها آلية وسطية لحل نزاعات المجتمع. هنا وضعنا أنفسنا في تناقض كبير بين الانتفاع التكنولوجي من جهة وبين أدوات التفكير والعلاقات القائمة على الحرية والنقد والمساءلة التي انتجت هذه التكنولوجيا. بل فضلنا استعارة التجارب المفرغة من كل حرية وديمقراطية من بعض مناطق العالم الثالث أو في جوانب من تراثنا الرسمي القديم وذلك بهدف جعل السياسة والمساحة العامة مجال احتكار الأقلية. هذا النموذج المتناقض والذي يعيش انفصاماً بين الشكل والمضمون أدى إلى ضعف تجارب الشعوب والمجتمعات العربية لكنه تحول إلى فتيل مشتعل قابل للانفجار تماماً كما حصل في الربيع العربي في 2011. كان الربيع انفجاراً كبيراً لهذه الجدلية التي تعشش في النظام العربي منذ عقود.

إن الهدف الأساسي للنظام العربي بصورته العامة يتلخص في العمل على منع الخيار الديمقراطي. لكن هذا الخيار بين النخب العربية، المستمد في تبريراته من تاريخ للاستبداد السياسي، يتحول إلى حد كبير إلى خيار مضاد للتنمية، فلا تنمية جادة ومسئولة لا تتحول في ما بعد إلى مشاركة وانفتاح ونقد وشفافية، وهذه مكونات تؤدي إلى الديمقراطية. لا يمكن تطوير المجتمع من دون تدريبه بحرية ولامركزية على أسس العمل النقابي والتعبيري والحقوقي والسياسي، فلا بلدية أو حكومة أو وزارة أو أجهزة حكومية بلا مساءلة. التجارب الآسيوية في التنمية دليل على أثر النمو الاقتصادي الجاد على الحياة السياسية، فكوريا الجنوبية، تلك الدولة المركزية، والتي مارست الديكتاتورية لعقود تحولت بفضل التنمية إلى كوريا الديمقراطية. ينطبق هذا الأمر على عدد من دول آسيا وأميركا اللاتينية.

في زمن المخاض العربي الكبير الذي بدأ عام 2011 لن تكون الديكتاتورية، سواء أرادت النخب الراهنة أم لم ترد، إلا من تعبيرات الماضي. في المشهد الراهن تمثل السلطوية قوة مؤثرة في المشهد العربي، لكن المشهد في حالة تغير. إن الأرضية، بسبب الحراك العربي الراهن والقادم، مفتوحة لكل من يريد من النخب العربية أن يفكر بطرق جديدة تجمع بين الحريات والحقوق بين الآليات الضامنة لكل الأطراف ضمن دولة عادلة. النماذج القديمة لن تصمد إلا لسنوات، وقد تصمد لخمس سنوات أو لعقد، لكنها ستنهار عندما تشيخ وتفقد الروح الشرعية التي ميزتها قبل عقود تاركة الباب للفوضى. يجب التأقلم مع زمن جديد يدق على كل بوابات النظام العربي القديم.

أتساءل من المسئول عما آلت إليه الأوضاع في البلدان العربية؟ من المسئول فعلاً: ضعفاء العرب وفقراؤهم ومهمّشوهم أم قادتهم وأقوياؤهم وأنظمتهم؟ هل نلوم الأسد أم نلوم الشعب السوري؟ وهل نلوم القذافي أم الشعب الليبي؟ لهذا فالإجابة الغريبة التي نسمعها كل يوم في ظل الأوضاع العربية المتحولة: العرب غير مهيّئين للديمقراطية وهم لا يعرفون كيف يمارسون عملاً مدنياً أو ديمقراطياً. هي إجابة مبتورة تهمل بوضوح تلك السياسات الرسمية التي ساهمت في إعاقة قدرة المجتمعات العربية على ممارسة حقوقها.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4850 - الخميس 17 ديسمبر 2015م الموافق 06 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:33 م

      جواب علي السؤال الأخير

      الانسان يولد بمخ خال من كل شيئ علي عكس بقية المخلوقات التي تولد و فيها من الغرائز التي تكفي لعيشها و لا تحتاج الي التعليم. اما الانسان فيحتاج الي التعلم الذي يتغير حسب الزمان. اليوم يجري التغيير بوتيرة أسرع. مع الاسف هذا التطور و التغيير ممنوع علي الانسان في كل مكان علي هذه الكرة. لذلك التغيير يجري بالتجربة العملية و التي تؤدي الي كوارث بشرية.

اقرأ ايضاً