العدد 4874 - الأحد 10 يناير 2016م الموافق 30 ربيع الاول 1437هـ

كل ممنوع مرغوب

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هكذا قيل: كل ممنوع مرغوب. وهو قولٌ ليس بشعبيٍّ أو حديث، بل هو قديم قِدَم كتب التراث والأدب التي تناولته. يُفسِّر الجاحظ ذلك القول بأن الناس «مطبوعون على شهواتٍ عديدة ترغبُ في الارتواء والإشباع». فحين تُمنَع عما «يُشبعها أو يرويها» تتعلقُّ به وترغب فيه وتُفتِّش عنه.

لكنها حين تحصل على ذلك الشيء الممنوع وتشبع حاجتها منه يقلّ «قَدْره عندها» فتعرض عنه. ويستثني من ذلك «المال والعلم؛ لأن المال يتخذه البعض لا لقضاء الحاجة بل لقمع الحرص، والحرص لا حدَّ له. ولأن العلم لا حدَّ له ولا نهاية، وكلما ازداد المرء طلباً ازداد فيه رغبة». على رغم أن الجاحظ يرى أن المبالغة في الارتواء من المال والعلم هو خروجٌ «على العقل؛ لأن النهم هو تجاوز القدر».

ما جعلني أذكر ذلك هو أنني كنتُ أقرأ خبر قيام مؤسسة ميونيخ للتاريخ المعاصر بطباعة كتاب «كفاحي» لـ أدولف هتلر وطرحه في الأسواق الألمانية للمرة الأولى منذ سقوط النازية واختفاء هتلر قبل سبعين عاماً، بسبب منعه طيلة تلك الفترة، إذ بلغت النسخ المطلوبة أربعة أضعاف ما هو موجود لدى المؤسسة. (المتاح هو 5000 نسخة بينما طلبات الشراء بلغت 15 ألف طلب).

ليس ذلك فحسب بل إن أندرياس ويرشينج، وهو رئيس مؤسسة ميونيخ للتاريخ المعاصر، قال في مؤتمر صحافي قبل أيام إن مؤسسته تلقت «طلبات لترجمة الكتاب إلى الإيطالية والفرنسية والإنجليزية فضلاً عن طلبات من تركيا والصين وكوريا الجنوبية وبولندا» كذلك!

والمعروف أن كتاب «كفاحي» قد ألّفه أدولف هتلر بين العامَين 1924م و1926م عندما كان في السجن، ثم صار من أكثر الكتب مبيعاً لاحقاً، إذ تُرجِم إلى ثماني عشرة لغة، وبِيْعَ منه ما يربو على 12 مليون نسخة حتى العام 1945م قبل أن يُمنَع في ألمانيا وتحظر نشره قوات الحلفاء آنذاك.

وربما كانت دواعي المنع هو ما يحتويه الكتاب من ترويج للأفكار النازية، إذْ إن القارئ يجد ومنذ أول أسطره كيف كان هتلر يُفكِّر. فهو وفي السطر الثاني يتحدث عن ألمانيا والنمسا اللتين أسماهما بـ «الدولتين الألمانيتين اللتين يجب أن يكون اتحادهما مجدداً في رأس الأهداف التي نعمل بها في الحياة»، في تحدٍّ منه للحدود التي رُسِمَت لأوروبا بعد معاهدة فرساي.

بل هو يضيف أنه وإذا لم يحصل ذلك فـ «لن يكون الشعب الألماني ذا حق في أي نشاط استعماري ما لم يُجمَع أبناؤه في دولة واحدة». وهو ما يعكس النفس الكولونيالي والتوسّعي للرؤية النازية التي كان يقودها هتلر في تلك الفترة، والتي سبقت تقلده منصب مستشار ألمانيا في الثلاثينات.

أطرح ذلك كي أقارب الأمر مع واقع سياسي محدد في عالمنا العربي. فقاعدة: كل ممنوع مرغوب هي شاخصة في العديد من قضايانا الاجتماعية والسياسية خصوصاً. والحقيقة أنها لعبة «ذكية» إن أحسَنَت الحكومات استخدامها وبالتحديد في شئون الدولة ومرافقها.

فالقاعدة تقول إن كثرة الممنوعات من الدولة يزيد من كثرة المرغوبات لدى الناس. وعندما تزداد رغبات الناس تزداد معها في المقابل كوابح الصَّد والغِلظة، فتشتعل الفتن؛ لأنه بالأساس صراع مع شَدَّيْن متناقضيْن. إما إذا حصل العكس، فقلّت الممنوعات وتوافرت المرغوبات تهون على الناس وتصبح أمراً عاديّاً لا هَمّ لهم في طلبها بالرغبة ذاتها التي كانت عندهم وهي ممنوعة.

ما أعنيه هنا، هو أن هناك مساحة كبيرة من الصراح والفسحة التي من خلالها يمكن للحكومات أن تتخلص من رغبات الناس والتي تستثمرها المعارضات السياسية عبر توفيرها من دون أن يكون ذلك وبالاً أو خطراً عليها. من بين تلك الأشياء هي منحهم ما يُطالبون به ويرفعونه من شعارات عبر جعلهم في المكان ذاته الذي يُسيِّرون به شئون وأمور تلك المطالب والشعارات في المراكز التنفيذية.

فكُلفة حَمْل الشعار المرغوب في تطبيقه لدى المعارضة والممنوع في تطبيقه لدى الدولة تختلف عن كُلفة جعله واقعاً ورديّاً ومثاليّاً على الأرض. فالأول قول مُرِيح، والثاني فعل شاق دون شيب الغراب. وشتان بين القول والفعل. والواقع يقول إن العمل في السلطة يعني حرقاً للشعارات.

أطرح هنا تجربة من الواقع العربي. عبدالرحمن اليوسفي هو مناضل مغربي منذ العام 1943م، حُكِمَ عليه بالسجن ثم الإعدام ثم عُفِيَ عنه مَلَكيّاً في العام 1980م وبقي عضواً ثم أميناً عامّاً للحزب الاشتراكي لكنه استمرّ معارضاً سياسياًّ في المغرب طيلة 55 عاماً ضدَّ سياسات الحكومات المتعاقبة ختمها بالصراع مع شخص الرجل القوي آنذاك ادريس البصري.

لكن، عندما عرض الملك الراحل الحسن الثاني على المعارضة المغربية الدخول في حكومة التناوب، قَبِلَ اليوسفي ذلك وعُيّن وزيراً أولاً في (فبراير/ شباط 1998). ظلّ في منصبه حتى (أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2002) إذ شاهد الفرق بين أن تكون معارضاً وبين أن تكون سياسيّاً تنفيذيّاً، بعد أن غاص في الصراع مع الأحزاب والصحف (لوجورنال والصحيفة مثالاً) فضلاً عن البرامج ومطالب الناس.

والمغرب في ذلك قد أجاز الممنوعات السياسية لدى المعارضة، فَقَلَّت المرغوبات السياسية لدى جمهورها، والذي هان عليه تشبّثه السابق بها وبالشعارات بعد أن شاهد صعوبة التجربة ونتائجها. مثل هذه التجارب هي تجارب ذكية ويُصيب بها المرء أكثر من عصفور في رمية واحدة، فبعد أن يكون: كل ممنوع مرغوب، يُصبح: كل متاح مزهود فيه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4874 - الأحد 10 يناير 2016م الموافق 30 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 3:40 ص

      متابع ... طلب آخر
      بما أننا اقتربنا من انتخابات مجلس الخبراء في ايران ، نتمنى من الاستاذ محمد أن يكتب عن ابرز الخلافات و المميزات بين ابرز زعيمين في ايران ، الشيخ رفسنجاني والسيد خامنئي ، أعتقد أن هذا الموضوع مهم جدا في مرحلة قد ترسم مستقبل الجارة ايران لعقود مقبلة .
      لم نعتد أن يخيبنا الاستاذ محمد يوما .

    • زائر 9 | 3:39 ص

      متابع
      سأظل أكرر الطلب من الأستاذ
      من يكثر قرع الباب يفتح له

    • زائر 8 | 3:38 ص

      متابع ... طلب سابق ينتظر اجابة من الاستاذ
      أجد الأستاذ محمد خبيرا بالشأن الايراني وذو معلومات وافرة في مسائله , المشكلة أن المواقع الايرانية الرسمية الناطقة بالعربية لا تغطي أشياء كهذه ، أريد من الأستاذ أن يرشدنا إلى المواقع و المصادر الجيدة التي تهتم بأمور مهمة كهذه وتقدمها بعناية ، وكذلك افضل الكتب التي يراها الأستاذ محمد تقدم صورة صحيحة في هذا المجال ، الصحف والكتاب البارعين في ذلك ( الذين يقرأ لهم الأستاذ محمد في هذا المجال شخصيا )
      طلب والأستاذ محمد كعادته لا يرد طلبا من متابعيه

    • زائر 7 | 3:23 ص

      متابع
      لم تعرضوا طلباتنا يا إدارة

    • زائر 4 | 1:04 ص

      سأظل أطلب هذا الطلب من الأستاذ
      من يكثر قرع الباب يفتح له

    • زائر 2 | 11:37 م

      كلام منطقي أستاذنا الكاتب الكريم

      المنطقه الآن في وضع متوتر جدا ،، لو أنا من الرؤساء العرب والخليجيين بالذات أن أتصالح واتحالف مع إيران سياسيا واقتصاديا وعسكريا وفي جميع المجالات وشوف ما هي نواياهم.

    • زائر 1 | 10:46 م

      صحيح الف في الاف

      لو أنا مكان الرئيس السوري حطيت واحد من هالمعارضة وشفت ويش يسوي

اقرأ ايضاً