العدد 4947 - الأربعاء 23 مارس 2016م الموافق 14 جمادى الآخرة 1437هـ

68 ألف سنة من اللعب!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

دعوني أبدأ بمقدمة قصيرة. كثيرٌ من العوائل تواجه ضغوطاً متزايدة عندما يأتيها مولودٌ جديد. من بين تلك الضغوط هي مواكبة ما يجب تقديمه لهذا المولود من متطلبات معيشية منها الملابس. فعند انقضاء شهرين أو أربعة أشهر أو أكثر، يجب عليها تغيير مقاسات تلك الملابس كل حين. فنموّ الطفل في هذه المرحلة، قد يُرَى أنه في حالة بطءٍ شديد مقارنة بالعديد من الكائنات الأخرى من الحيوانات، لكن الحقيقة ليست كذلك فأيام الطفل وشهوره تجعله مختلفاً بشكل دائم.

وقد لا يتوقف هذا النمو إلاَّ بعد مُضِيّ عشرين سنة أو أكثر قليلاً، حيث تستقر الأعضاء على حالها مدّة أكثر من السابق، بينما يبقى الأنف وتبقى الأذنان في النمو حتى الوفاة. نعم، قد يتعاظم حجم عضو ما، لكن بفعل تغذية مُوجّهة، أو رياضة مُركّزة، فتجعل من ذلك العضو في حالة بروز كما نرى عند رياضيِّيْ كمال الأجسام وخلافها من أنواع الرياضات. هذا فيما خصّ الجسم ونموّه.

لكن، هناك مسألة أخرى تتعلق بالنمو خارج فيزياء الجسم: إنها الخاصة بالعقل. كيف تنمو عقولنا؟ وكيف تتطوَّر وفقاً لتطور أجسامنا؟ وما هي الفروق الفردية بين عقول البشر؟! هذه أسئلة جوهرية إلاّ أنها لا تستطيع أن تحجب حقيقة واحدة، وهي أن العقل له مسار تطوري كما الجسم. وهذا المسار لا ينمو بشكل منفرد ومن دون مؤثرات، فهو يوازي الأكل والشرب الذي ينمو بهما الجسم.

من الأشياء المهمَّة التي تجعل عقولنا تنمو هي «المحاكاة». ماذا نعني بالمحاكات؟ دعوني أطرح شيئاً هنا. قبل سنتين تقريباً جُمِعَت ساعات اللعب التي قام بها الأطفال في الولايات المتحدة الأميركية وفي بحر شهر واحد فقط، لإحدى ألعاب الفيديو فبلغت ثمانية وستين ألف سنة من اللعب! وعلى رغم أن ألعاب الإثارة قد ارتبطت بسلوك الشر وعدم الإنتاجية، وبالتالي البدانة إلاّ أن هناك مَنْ يؤيد مقولة إن هناك جوانب إيجابية فيها أيضاً إذا أُحسِنَ التعامل معها تصنيعاً وثقافة وتسويقاً، كيف؟!

هذه الجوانب الإيجابية لا تتحقق إلاّ عندما يتم وضع جوهر تلك الألعاب في مسارات السلوك الإيجابي. بمعنى، أنه وحين يتم اختراع لعبة ما تتضمّن حثّاً على أخلاق أو مبادئ إنسانية يقوم بها بطل ما كمساعدة الآخرين أو الدفاع عنهم ضد شرّ يواجهونه، فإن النتيجة هنا ستكون إيجابية. وقد عدَّد باحثان مشهوران في الولايات المتحدة مجموعة من الأمثلة التي أتت بنتائج إيجابية.

فمثلاً، وفي مسألة الإحباط الناتج عن الأمراض الخطيرة، فإن قيام مجموعة من الصغار باللعب، عبر محاكاة مواجهتهم الصارمة لمرض السرطان وتحطيم خلاياه والتهابات العوارض العلاجية له جعلهم يتمتعون بثقة أكبر بنفوسهم، وقيامهم بتشجيع الآخرين على التصرف بثبات! وعندما يتمّ البحث في ذلك يُرَى أن محاكاة الأشياء الإيجابية في اللعب يؤثر تأثيراً جيداً على النمو العقلي.

فمن الأشياء الثابتة (أو تكاد كي نكون نسبيين) أن تقليد الآخرين في التفكير بشكل مُتقَن ثم مواجهة ذلك التقليد بِمَلَكَات الفرد يساعد كثيراً على التطور الثقافي. بالتأكيد التقليد هو ليس في الأشخاص ذوي العقول الراجحة وفي طريقة الكلام والاستدلال على إثبات الأشياء وتحوّل القناعات، وإنما في الإنتاج الثقافي والعلمي الذي يقوم به البشر، سواء بالاختراعات أو البحوث والأفكار.

فعندما تصدر دراسة ما في أيّ مجال من المجالات، فإنها وفي الوقت الذي تفتح للناس آفاقاً جديدة لرؤية العالم ومكوناته، فإنها أيضاً تفتح الباب أمامنا كي نبحث فيما توصلت إليه تلك الدراسة وما قبلها، لنخرج بأشياء جديدة، كما خرجت هي في السابق باستنتاجات كانت تعتبر سابقة. هذا العلم التراكمي، هو الذي صنع العلوم والابتكارات في أوروبا منذ أن تخطت حروب الدّين والطوائف باتجاه التنوير.

عندما كان البعض في بريطانيا نهاية القرن الثامن عشر، يتخوَّف من طرح أفكار جديدة في بعض العلوم كالرياضيات والفيزياء، أطبق الجهل عليه وعلى نطاق تأثيره في الجامعات والمدارس. وبعكس ذلك في فرنسا، عندما فتح معهد إيكول بوليتكنيك الباب نحو تقديم البحوث الجديدة على ما سبقها استطاعت فرنسا أن تُنتِج العديد من الاختراعات والعقول. هذا الأمر أيضاً تكرر في ألمانيا خلال تلك الفترة (أو قريب منها) مع مؤسسة بيرغاكاديمي البروسية.

قبل بعضة أشهر كنت أقرأ أن هيئات البحث العلمي في بريطانيا حذرت الحكومة هناك من تقليص موازنة البحوث، على رغم أن الأخيرة أعلنت أنها سيَّجت موازنة العلوم الأساسية كالفيزياء والاقتصاد والعلوم الإنسانية والبيئة وغيرها، كي لا تتضرّر من أي برامج تقشف. هل تعلمون كم تبلغ تلك الموازنات المرصودة للبحوث والابتكارات؟! إنها 6 مليارات و700 مليون دولار!

تُرى لماذا يُصرّ البريطانيون على عدم المساس بتلك الأموال؟! باختصار هم يُدركون أن منظومة تنمية العقول في المدارس والجامعات بل وعند التفكير العام في المجتمع البريطاني الحاضن للأجيال ينطلق من هذا الأمر، وهو إنتاج بحوث واختراعات لا للعلم والاستهلاك فقط، بل لإيجاد مساحة واسعة أمام الناس لمحاكاة ذلك التطور، وبالتالي الإتيان بكل ما هو جديد. هذا الأمر، جدير بأن نتأمل فيه كدول ومجتمعات إذا ما أردنا تنمية أحوالنا العلمية والثقافية ومواجهة التخلف على جميع الأصعدة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4947 - الأربعاء 23 مارس 2016م الموافق 14 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً