العدد 4996 - الأربعاء 11 مايو 2016م الموافق 04 شعبان 1437هـ

حكايات «اللكَمَات»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سأسألك أيها القارئ الكريم. أنتَ ممن أنهيت مراحل تعليمك المدرسي وربما أصبحتَ ربّ أسرة اليوم. هل تتذكر يومياتك عندما كنتَ طالباً؟ أعتقد أنك تتذكر. فـ ست سنوات إبتدائية وثلاثاً إعدادية ومثلها في الثانوية ليس من السهل أن تُمحَى من ذاكرتك.

ربما في بعضها تتذكر يوماً نسيتَ نقودك فتلوّيتَ بجوعك طوال نهارٍ قائظ. وربما تتذكر خصومتك لزميلك المسكين يوماً أو دهراً، بعد أن تخامَشَتَ أيديكُما في جسديكما. أو تتذكر حين أخفقتَ في مادة دراسية كنتَ تراها مثل كابوس الليل. نعم ... كثيرة هي المشاهد التي حصلتْ لك، أو لِغَيرِك.

شخصياً أتذكر أنني وعندما كنتُ في الصف الأول الابتدائي فَقَدَ أحد الزملاء نقود طعامه الصباحي. كان المبلغ المفقود مئة فلس. عَفَرَ الزميل «الطفل حينها» بجسمه في الأرض وهو يبكي بكاء الفاقد لعزيز.

قد أتجاوز وأقول اليوم أنها كانت مجرد مئة فلس فقط تخففاً واستهجاناً بها كَوْن الزمن تجاوز قيمتها الآن. لكنها لم تكن كذلك حينها، والأهم أن وزنها لذلك الزميل كان ثقيلاً. لم أعرف إلاّ عندما كبرت قليلاً أنه ينتمي لعائلة ضَرَبها الفقر المدقع فأوجع أيامها ولياليها، لذلك أصبحت تُقدِّر الفلس.

وسط هذه الذكريات الحزينة المختلفة تبقى ذاكرة محددة لها، تلمّظ مختلف لا أعتقد أن أحداً منا لم يصادف «مصداقها» في مشواره المدرسي. إنها ذاكرة التنمُّر من زميل في فصله أو من عموم مدرسته. ماذا نعني بالتنمُّر؟

هو باختصار السلوك العنيف الذي يلجأ إليه «بعض» الطلاب للتعامل مع زملائهم. أغلب ذلك التنمُّر كان سلوكاً عنفياً باستخدام الضرب، وفي أحيان أخرى «أقل» كان سلوكاً عنفياً باستخدام اللسان والسخرية (المسبّب للأذى النفسي) الذي قد يجعل الطالب يفشل في دراسته، بعد أن يفقد الثقة في نفسه ويتثاقل عن المجيء إلى المدرسة خشية من هؤلاء.

أتذكر أن هذا الأمر كان شائعاً بكثرة عندما كنا طلاباً. كان ذلك أشبه بثقافة «غابيّة» بامتياز على رغم أن فاعليه هم طلاب صغار أو مراهقون. كان هؤلاء يفتعلون أيّ شيء لضرب زملائهم مستعينين بفارق القوة بينهم وبين ضحاياهم أو من خلال الشّر المتضامن معهم من آخرين.

وعندما أقول ضرباً فلا أعني به الضرب العادي و «المسئول» الذي يراعِي فيه العاقل تجنب استهداف المناطق الخطرة في الجسم كـ العينين والأذن ومنطقة الصدر وأسفل البطن، بل هو ضرب في كل تلك الأماكن تحديداً. فهدف المتنمّر لا يقل عن رؤيته لكَ وأنتَ تبكي أو مطروحاً على الأرض والندوب على وجهك كي يُثبتَ للآخرين المتجمّعين حولك أنه لا يهزمك فقط بل يُذلّك أيضاً.

أما في حالات التنمّر النفسي فقد كان كسابقه من حيث الانتشار والشياع. كان المعوزون والمرضى ذوي العاهات المزمنة وأصحاب الأجسام الناقصة والمتفوقون والمعتنَى بملبسهم ومأكلهم من أسرهم أهدافاً سهلة لهؤلاء المتنمّرين كي يجعلوا منهم سخرية، أو حاملِيْ ألقاب تحطّ من كرامتهم. وكانت القهقهات تتعالى في الفصل والساحات عندما يُشارُ إلى أحدٍ منهم بطريقة استفزازية. كنا نرى تلك المشاهد بشكل دائم وبالتحديد في المرحلتين الابتدائية والاعدادية.

كان ذلك أمراً محطماً لنفوس العديد من الطلاب. أتذكر أن ذلك الطالب الفقير الذي فَقَدَ نقوده كان هدفاً سهلاً لمثل هؤلاء، الذين كانوا يؤذونه باستمرار. وللأسف، لم تكن «حينها» برامج تربوية لتعديل ذلك السلوك السلطوي الناشيء عن بيئة أسرية واجتماعية مضطربة رغم خطورته التي «قد» تؤدي إلى حالات انتحار بين الطلاب.

فبعض الدول المتقدمة سنَّت تشريعات لمكافحة التنمُّر وإنصاف ضحاياه، سواء من حيث إعادتهم إلى سلك التعليم أو علاجهم الجسدي والنفسي نتيجة المضايقات التي تعرضوا لها، بعد أن وَقَفَتْ تلك الدول على الكثير من حالات الانتحار من طلاب وقع عليهم التنمُّر.

أتذكر أن عالِماً إنثروبولوجياً كَتَبَ تجربة فريدة في ذلك. كان يقول إن زملاء له في المدرسة كانوا «قساة جداً» في مضايقاتهم لزملائهم. كانوا ينعتون زميلاً لهم واسمه برادشو بـ «الحلقة المفرغة». لم يستطع ذلك الطالب وزميلاً آخر له من مواصلة تعليمهم فـ تركا المدرسة إلى غير رجعة. كَتَبَ يقول: «كان الخوف من التعرض لهذا النوع من المعاملة يُولّد ضرراً نفسياً ويكون سبباً في إخفاء المرء أفكاره ومشاعره، وأدى إلى خوف داخلي في المجتمع» المدرسي. هذا التوصيف دقيق جداً.

بالتأكيد، مَنْ يقرأ هذا اليوم وقد أصبح رجلاً وربّ أسرة، ليس بوسعِه أن يفعل شيئاً لتصحيح الماضي، سواء ممن كانوا على هذا السلوك في صباهم أو ممن وقَعَ عليهم «حَيْفُ التنمّر». لكن تبقى هناك فرصة باقية يمكن اقتناصها، وهي أننا كآباء يجب أن نستشعر ذلك المشهد التربوي البائس الذي كان سائداً وعشناه في مدارسنا عندما كنا طلاباً كي نقوم بتصويبه في سلوك أبنائنا.

نعم، مَنْ يجد في ابنه نزعة نحو التنمُّر فليبادر إلى معالجتها فوراً. عليه أن يُعالِج ميوله نحو التسلّط والهيمنة بالقوة أو بسلاطة اللسان والشعور بالنرجسية كي يحفظ حقوق زملائه في الفصل والمدرسة وعلى إدارات المدارس أن تعي خطورة هذا الأمر. وإن كان ابنه من ضحايا ذلك السلوك فعليه أن يُبادر كي يُخرجه من ذلك «الجحيم»!. نعم هو جحيم فعلاً ولا يوجد وصفٌ أدنى من ذلك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4996 - الأربعاء 11 مايو 2016م الموافق 04 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 6:01 م

      أتذكر في واحد أذاني في المرحلة الثانوية، يوميا يهزئني و يجعلني سخرية للي يسوى و اللي ما يسوى! ما صار وياي في صف، و لكن في الباص و في كل مكان في المدرسة، سواء في الفسحة أو لما يشوفني يهزئني و يجعلني مضحكة للناس.
      لم أكن أستطيع أن أجابهه، لأنني أولا لم أكن طالب قوي، و كنت مؤدب نوعا ما و مجتهد في الدراسة، بينما هو كان ينتمي لعائلة عرفت بالإجرام و صلافة اللسان. دارت الأيام و تزوج هذا الشخص و أنجب، و وقع في مصيبة هو و عائلته، الكل يدعو له بالفرج و أنا أدعو الله أن يزيده عذاب.
      ربك ينتقم و لو بعد حين!

    • زائر 11 | 10:39 ص

      التنمّر موجود حتي في بيئة العمل

      نعم حتي بيئة العمل لا تخلو من هذه السلوكيات الشريرة
      فتجد المدير الضعيف القليل الكفائة والفاقد للثقه بالنفس يمارس هذه السلوكيات الدونيه ضد من يعتقد أنهم خصوم له أو أكفأ منه أو يخشي علي وظيفته منه/ منهم
      وبالخصوص الأجانب الذين يتولون مسؤولية إدارة مدراء وموظفين بحرينيين أكفاء يجد نفسه في بؤرة الخطر بشكل مستمر أن يفقد وظيفته لأحد من هؤلاء المواطنيين فيبدأ بالتقليل من إحترامه لهم ومن ثم مواصلة إهانتهم بمختلف الأساليب والطرق حتي يطفشهم من وظائفهم

    • زائر 10 | 8:57 ص

      كان يا ما كان
      في إحدى المباريات في البوكسنغ أو عند ما كان الملاكم الشهير أيام زمان محمد علي كلاي كان الجمهور باللغة ألإنجليزية يشجعونه ويقولون آلي ... آلي. يعتي روبت روبت. فلكمات محمد علي كلاي كانت تسقط الخصم فيقع ليصفق له الجمهور المتابع للمباراه. أما منظموا الملاكمة فيجمعو من المباراة مبالغ من المشاهدين للملاكمة. وهنا يقال هذه الحياة في أمريكا مصارعة حره وملاكمة ومباريات وإقتصاد سلفي تلفي لا يعبر عنه إلّا بـ تك . . تك
      .. تك. فما تقول اليوم عن حيل جمع الأموال الجديدة؟

    • زائر 8 | 8:43 ص

      شكرا أستاذي المبدع
      حتى نحن الفتيات نتعرض للسخرية والضرب من المتنمرات
      ولكني شخصيا تعرضت لتنمر معلمة آذتني وقست علي أبلغ مما تعرضت له من زميلاتي
      لازلت وأنا أم أتذكر ما عانيته
      لذلك أحرص على الاصغاء لمعاناة أولادي
      ولا أسمح لهم بأذية الآخرين
      أو إذاء الآخرين لهم

    • زائر 6 | 4:32 ص

      ليسوا سواء

      فأحد المدرسين كان ﻻ يطيق رؤية مظلوم من متنمر. كانت هذه قضية مبدئية عنده وﻻ يكتفي بحماية المستضعف بل يغضب لدرجة ان يتحول نمرا على المتنمر مع ان الشدة لم تكن من طباعه. بل ﻻ يكتفي حتى يلتفت للمستضعف يوبخه على ضعفه ويثير فيه غيرة المواجهة اذا رآه أهلا..كان منظر الظلم يستفزه ..ولعل منا من رأي امثاله في المعلمين

    • زائر 3 | 1:22 ص

      لكي نجنب ابناءنا التنمر والتنمر عليهم هو تربيتهم تربيه اسلاميه والتسامح مع انهم لا يهدء لهم بال الا باخذ حقهم

    • زائر 9 زائر 3 | 8:45 ص

      رأي سديد
      كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
      التربية والوعي أساس الحلول

    • زائر 12 زائر 3 | 4:49 م

      ما يصير حل الا اذا التزم الاباء كلهم
      و ادارة المدرسة بالخصوص

    • زائر 2 | 1:02 ص

      كثير من الطلاب عانوا خلال تلك المرحلة وكان المدرسون لا ينتصرون للضعيف لضعف الوعي بالأسس التربوية الصحيحة رغم انهم كانوا قساة في العقاب على أمور تافهة

    • زائر 4 زائر 2 | 2:49 ص

      اوافقك الراي في هذا وهو ان المدرس كان يرى ويسمع وتصله اخبار من ذلك القبيل ولكن لم يساعد او ينتصر.
      ذكرتني بايام المدرسة حيث ان مربي الفصل كان يختار مراقب الفصل الاكبر سنا و الاطول والاقوى ويعامل الطلبة كأنه مسؤؤل عنهم في غياب او تأخر المدرس وقد يشي عليهم ان احد تسرب او عمل فوضى.
      الحمد لله مررنا من هذه التجارب كالخارج من عنق اللزجاجة .
      شكرا للكاتب المبدع الاستاذ محمد

    • زائر 5 زائر 4 | 4:11 ص

      أشكرك أستاذىمحمد على طرحك لهذا الموضوع المهم جدا. ..طبعا لا يزال نفس السلوك يمارس الى يومنا هذا ..اعتقد ان كل المجتمع متهم بالتمرد والكل مارسه ولا يزال يمارس بدرجات.. الاخ على أخيه وعلى ابن عمه وعلى الغريب..
      عانيت والآن يعانى ابني بصمت وصبر ...ولكن الأسوأ هو تنمر الشواذ من المدرسين سابقا ولم أكن اتوقعه يستمر الى يومنا هذا ..

    • زائر 1 | 12:58 ص

      احسنت

اقرأ ايضاً