العدد 5005 - الجمعة 20 مايو 2016م الموافق 13 شعبان 1437هـ

مَنْ حَلُمَ سَاد

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ماذا يعني أن يكون الرجل سيداً وذا سيادة؟ المعنى هنا أن يكون معظَّماً شريفاً مُطاعاً بين قومه وناسه. فنحن هنا لا نتحدث عن سيادة المرء بالقوة، كمقياس للسيادة «الحقيقية» بل حديثنا هو عن السيادة بغير القوة ولا الغَلَبَة. وبالتالي فليس كل مَنْ يحكم في أسرته أو عشيرته وغيرها هو سيد في كل تلك المواضع، فالسيد أشمل من أيّ وصف ولقب في التأمّر على الناس.

لكن ما هي الأدوات التي تجعل من المرء سيداً في أسرته وعشيرته وفي بلده؟ الحقيقة، أنني لم أجِدْ أحسن من أهل الحكمة والمنطق والتجربة قولاً كي يُرشدونا إلى الجواب التام النصوح مما احتوته كتب التراث والسِّيَر. وقد ظفرت بعدد جيد من الأقوال التي أسردها هنا، والتي تدور مدار الحلم والعدالة والرفق بالناس، المطيع منهم والمخالف، وكفّ الأذى عن دمائهم وخدمتهم كي تتحقق لهم السيادة، ويتحقق لهم التعظيم والشرف.

أبدأ بحادثة غاية في الحكمة رواها أسامة بن منقذ في اللباب، وهو أن أحد ملوك الفُرْس سأل حكيماً من حكمائهم: ما صلاح المُلْك؟ قال: «الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم في غير مشقّة، وأداؤه إليهم عند أوانه، وسدّ الفروج، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، وأن لا يفرط القوي على الضعيف». ثم سأله: «فما صلاح المَلِكْ؟ قال: وزراؤه أصُولُه؛ فإن هم فَسَدوا فَسَد وإن صلحوا صَلَح». ثم سأله: «فأية خصلةٍ تكون في المَلِك أنفع؟ قال: صدق النية».

وفي مثال الأحنف بن قيس حديث لا ينتهي في السيادة والطاعة. فقد عاش سيداً مطاعاً في قومه بني تميم أربعين سنة، وكان السّر في ذلك جواب خالد بن صفوان عندما سأله سليمان بن عبد الملك: كيف سَادَكُم الأحنف؟ قال: «إِنْ شِئْتَ في ثلاث، وَإِنْ شِئْتَ في خَصْلَتَيْن، وَإِنْ شِئْتَ فِي وَاحِدَة. أما في ثلاث فكان لا يحسد، ولا يَحْرِصُ، ولا يدفع الحق إذا وجب؛ وأما في اثنتين فكان يُلقِي الخير وَيُوَقِّي الشَّر. وأما في واحدةٍ فلم يكن أَحَدٌ له مِنَ السُّلْطَان على نفسه ما كان له على نفسه».

وقيل أنّ عمرو بن الأهتم «جعل لرجل ألف درهم على أن يُسَفّه الأحنف؛ فأقبل الرجل عليه فسبّهُ سبّاً ذريعاً؛ والأحنف ساكت. فرجع الرجل يعضّ أنامله، ويقول: واسوأتاه؛ ما منعه من جوابي إلا هواني عليه» كما ذكر اللحجي.

وقد سأل معاوية الأحنف نفسه بِمَ سُدْتَ قَوْمَك؟ فقال: «لا أَتَكَلَّفُ ما كُفِيت، ولا أُضَيِّعُ ما وُلِّيت. ولو عَابَ الناس الماء ما شَرِبْته». وسُئِلَ عَرَابَة الأَوْسِيّ: «بِمَ سُدْتَ قَوْمَك؟ قال: كنتُ أُعْطِي سائلهم، وأعفو عن جاهلهم، وأسعى في مصالحهم، فمن فَعَلَ مثل فعلي فهو مثلي، وَمَنْ زَادَ عليه فهو خيرٌ مني وَمَنْ قَصَّرَ عنه فأنا خَيرٌ منه»، كما جاء في الجليس الصالح للمعافى بن زكريا.

وقيل لقيس بن عاصم: «بِمَ سُدْتَ قومك؟ قال: ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القِرَى». وكان قيسٌ مشهوداً له بالحلم، فقد أتوه بابن أخٍ له قَتَلَ ابنه، «فجاءوه به مكتوفاً يُقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى (أي أخفتموه)، ثم أقبل عليه فقال: يا بنيّ نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتتّ في عضدك، وأشمتّ عدوك، وأسأت بقومك، خلّوا سبيله واحملوا إلى أمّ المقتول ديته، فانصرف القاتل وما حلّ قيس حِبْوَته ولا تغيّر وجهه».

وقيل لأبي سفيان كما في التذكرة الحمدونية: «بم سُدْتَ قومك؟ قال لم أخاصم أحداً قطّ إلاّ تركتُ للصلح موضعاً». وقد سئل أحد السادات: بأي شيء سُدْتَ قومك؟ فقال: «إني والله لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه».

ومما أوصاه قيس بن معد بن يكرب الكِّندي (وكان من حكماء الجاهلية) بنيه: «دعوا المكافأة بالشر يحببكم الناس، والزموا الأناة يَفُز قِدحكم». وقال القلمَّس، وهو أمية بن عوف لقومه: «لا تقتلن أسيراً فإنه ذحل (أي ثأر) عندكم ومصيبة فيكم». ومما قاله أحد الملوك لابنه: «عليك العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها. واستجلب مودّتها بالإنصاف لها».

وقد كتب أكثم بن صيفي إلى النعمان بن المنذر عهداً يعجب به أمام الفُرْس قائلاً: «لن يهلك امرؤ حتى يضيِّع الرأي عند فعله، ويستبدّ على قومه بأموره، ويعجب بما ظهر من مروءته ويغترّ بقوَّته». كما نصح ملك هجر قائلاً: «أخِّر الغضب فإن القدرة من ورائك» كما ذكر السجستاني.

الحقيقة، أن العدالة والرفق والحلم وخدمة الناس هي قوس يتعلق به كل مَنْ رام التأمّر والرئاسة، ويهِبه القبول والسيادة الحقيقية، بخلاف القسوة والعجلة، فهي ضارة سالبة لذلك القبول. فالطبيعة البشرية تأنس بمن يرفق بها، لذلك أصبحت القسوة، وأصبح الغدر والجفاء من الأشياء المذمومة التي يُنظَر لها كونها من الدناءة والوضاعة.

أختم حديثي بقول بليغ ومختصر للإمام علي بن أبي طالب بشأن مسببات السيادة الحقيقية قاله ناصحاً: «مَن حَلُمَ سادَ، ومَن تَفَهَّمَ ازداد».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5005 - الجمعة 20 مايو 2016م الموافق 13 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 5:36 م

      هناك ايضا قيس بن سعد بن عبادة الذي تربي علي الجود والكرم حتي صار يضرب به المثل في كرمه

    • زائر 5 | 1:42 م

      عندكم كل هذا التراث و القصص و العبر و لم تتوققوا؟!؟!؟

    • زائر 3 | 7:49 ص

      مقال في صميم الحياة

    • زائر 2 | 7:20 ص

      كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته العدل اساس الملك

    • زائر 1 | 4:37 ص

      مقال رائع
      مقال جميل ورائع، ياريت كل مسئول يقراءه ويطبقه.

اقرأ ايضاً