العدد 5032 - الخميس 16 يونيو 2016م الموافق 11 رمضان 1437هـ

«إدارة الخلافات»... بدلاً من القضاء عليها

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

يطمح الكثيرون إلى «القضاء على الخلافات» التي تنتج بين أي مجموعة بشرية، سواء كان داخل العائلة، أو بين مجموعة من الأصدقاء، أو في النادي، الشركة، الجمعية، المجتمع، الحكومة، الخ... وقد تسمع البعض يقول «لو أن كبار المجتمع يتفقون لكنَّا بخير»، وغيرها من المقولات التي تُردَّد هنا وهناك.

غير أنَّ «القضاء على الخلافات» لا يمكن تحقيقه إلَّا عبر «القوة الماردة الباطشة»، وهذا إن تحقق فإنما يكون لفترة من الزمن فقط.

ولعلَّ المسلسلات التركية، مثل «حريم السلطان»، و«السلطانة قسم»، وغيرهما، توضح كيف أنَّ تغليب القوة لحسم الخلافات، بما في ذلك القتل من دون رحمة لأي شخص مهما علا شأنه، إنما يحقق الغرض لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما تتولد الخلافات ذاتها، مما يتطلب استدعاء قوة البطش لإخمادها مرات ومرات.

البشرية طورت وسائل أخرى، غير القوة الباطشة، للتعامل مع الخلافات، وذلك سعياً منها للابتعاد قدر الإمكان عن تبديد الطاقات والقلاقل المنهكة... وبحسب ما طرحه كلٌّ من روبرت بلايك وجين موتون Robert Blake & Jane Mouton العام 1970، فإن هناك 5 انجازات للبشرية يمكن استخدامها لحل خلافاتها من دون استخدام القوة، وأن أفضلها «الإنجاز الخامس»، كما يأتي:

-الإنجاز الإنساني الأول هو العلم Science: يمكن حسم الخلافات عبر تثبيت الحقائق العلمية، فـ «قوة الجاذبية» ليست موضوع جدل بين أعضاء جمعية هندسية، مثلاً، لأنه تم إثباتها، ويمكن العودة إلى طريقة إثباتها، ويمكن لمن يتحداها أن يطرح البدائل، وأن يثبت ما لديه من اعتراضات بأسلوب علمي. والعلم الحديث قائم على التشكيك المستمر، ولذا فإن قوانين «نيوتن» انتظرت إلى أن جاء «آينشتاين» ليعيد النظر في جوانب منها، وجاء آينشتاين بالنظرية النسبية وغيرها من النظريات التي صححت الخلل في قوانين نيوتن. مهما يكن، فإن العلم هو الذي حسم الاختلاف في وجهات النظر.

- الإنجاز الانساني الثاني هو السياسة Politics: الإنسان حيوان عاقل، والعاقل يتميز عن الحيوان غير العاقل بأنه ينتصر عبر العقل أكثر منه عبر القوة الجسدية. ويتميز ذكاء الإنسان في قدراته السياسية، وكيفية التعامل مع الآخرين للوصول إلى ما يسعى إليه من دون استخدام القوة أو إشعال حرب واقتتال. ولذا، فإنه عندما تفشل السياسة تشتعل الحروب والأزمات ويعود الإنسان لاستخدام نمط القوة.

- الإنجاز الانساني الثالث هو التراتبية او التسلسل الهرمي Hierarchy: المجتمع الإنساني يتميز عن غيره بوجود تراتبية عملية، وسواء كانت التراتبية ديمقراطية أو دكتاتورية، فإن التسلسل الهرمي في القيادة والمسئوليات يمكن أن يحل الخلافات، لأنه يحصر عملية اتخاذ القرار الحاسم عبر الصلاحيات الممنوحة للمنصب الذي يشغله هذا الفرد أو ذاك.

- الإنجاز الانساني الرابع هو القانون Law: القانون المستمد من العادات والتقاليد، أو من الشرائع السماوية، أو من التشريع الوضعي، يمكن أن يكون وسيلة لحل الخلافات بين الناس. وحتى لو كان القانون خاطئاً، فإن سيادته عبر تطبيقه على الجميع بإنصاف، يمكن أن يحسم الأمور الخلافية.

- الإنجاز الانساني الخامس هو إدارة الخلافات Conflict Management: طرح العالمان روبرت بلايك وجين موتون أن هناك «إنجازاً خامساً» للبشرية، تطور في العصر الحديث وهو «إدارة الخلافات» عبر تسويتها بطريقة شاملة، تلتزم بأسس المجتمعات المتطورة، وأن هذا الإنجاز الإنساني يتميز بقدرته على تسوية الخلافات عبر «إدارتها»، وليس عبر السعي إلى القضاء عليها، لأنه لا يمكن القضاء على الخلافات. ويمكن القول إن «الإنجاز الخامس» يعتبر الخلافات (التي يمكن ادارتها) مصدر قوة، وإطارا عاما لتداول الآراء ووجهات النظر المتنوعة ضمن سياق يبتغي تحقيق رؤية مشتركة، ويسير على نهج رسالة يقتنع بها القائمون على أمر المؤسسة او النادي او أي تجمع بشري آخر. ونسمع كثيراً عن افتخار هذا البلد أو تلك المدينة بأنها «متنوعة»، أي انها حاضنة لتنوع الآراء على اختلافها، والاستفادة من التنوع عبر «إدارة الخلافات».

تأسيساً على هذا الفهم، طور كلٌّ من كينيث توماس ورالف كيلمان أنموذج Thomas-Kilmann في العام 1977 لتحليل أساليب إدارة الخلافات، واستنتجا 5 حالات تعتمد على مدى حزم الأشخاص، ومدى تعاونهم، وهي كالآتي:

- أولا، الحالة التنافسية Competing: هذه الحالة تنتج عندما يكون هناك حزم شديد من الطرفين المختلفين، مع انعدام في الثقة أو التعاون، وينتج عن هذه الحالة فوز طرف على حساب خسارة الطرف الآخر Win-Lose.

- ثانيا، الحالة الاستيعابية Accomodating: هي حالة تنتج عن قلة في الحزم من أحد الطرفين، وينتج عنها خسارة وتنازل طرف عن حقوقه وفوز الطرف الآخر Lose-Win.

- ثالثا، حالة تجنب المشاكل Avoiding: هي حالة تنتج عن قلة الحزم وقلة التعاون من الطرفين، وينتج عنها خسارة الطرفين Lose-Lose.

- رابعا، حالة المساومة Compromising: هي حالة في منتصف الطريق، وهي تسعى إلى حل مقبول للطرفين على حساب تنازل كل طرف عن شيء ما Tradeoff.

- خامسا، حالة التعاون Collaborating: هي الحالة التي يربح فيها الطرفان، وذلك لحزمهما الشديد والمشترك، ولتعاونهما إلى أبعد حدود، وهذا التعاون قد يأخذ شكل استكشاف الخلاف والتعلم من رؤى بعضهما بعضاً أو محاولة العثور على حل خلاّق للمشكلة يضمن فوز الطرفين Win-Win.

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 5032 - الخميس 16 يونيو 2016م الموافق 11 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 32 | 2:42 م

      مقال ممتاز يحتاج الى قراءة ما بين السطور لمعرفة المغزى و لكن اقول اننا وصلنا الى النفق المظلم الذي حذرنا منه بعد سنوات من الأزمة ..

    • زائر 29 | 10:27 ص

      إدارة الخلافات أو القضاء عليها ؟

      القضاء عليها أفضل بالتأكيد لأنَّ إدارتها تعني بقائها دون حل والي الأبد
      والانشغال الدائم بالخلافات البيزنطية سوف تكون علي حساب صحة المواطن النفسيه والجسديه وكذلك تقف حجر عثرة في وجه تقدم البلد وتطورها وإزدهارها فبدل الانشغال بأمور التنمية الحقيقه نكون دائماً منشغلين بالمناكفات السياسيه وتدبير المكائد أو إفشالها

    • زائر 28 | 10:23 ص

      أخ منصور
      وأنا أضيف إليهم حالة جديدة وهي الأنانية Selfishness
      والتي إن امتزجت بحالة العناد Stubbornness فلا حل لاي خلاف. وما يمكن عمله في هذه الحالة أن يؤتى بحكم من أهله وحكم من أهلها إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما .

    • زائر 27 | 7:42 ص

      كلام جميل جدا وسياسات فيها عبر وان دل فهو يدل على أن الكاتب هو شخص متعلم ومثقف
      سلمت اناملكم على هذا النقل

    • زائر 24 | 5:44 ص

      للاسف هناك اشخاص تفكر بأذانها لا بعقولها وتعتبر ماتسمعه قرأناً منزل ولا تتعب نفسها بالتفكير بعقولها والبحث عن الحقيقه فتكفر من تسمع انهو كافر وتحارب من تسمع بانهو عدو لها رغم تعايشهم لسنين مع بعض

    • زائر 22 | 5:16 ص

      كتاب الله افضل ...... ومن عفى و اصلح فاجره على الله.. انما المؤمنون اخوة فاصلحو بين اخويكم.. خطبة النبي في الشهر الفضيل.. ومن حسن منكم خلقه.......

    • زائر 19 | 4:12 ص

      عفوا تصحيج لزائر رقم 18 قابيل هو الذي قتل هابيل وليس العكس مع الاعتذار

    • زائر 18 | 3:29 ص

      أسعد الله صباحكم بالمناسبة يادكتور كل هاده المصنفات أو الأدبيات أو الطرق الحديثة لحل الخلافات ليس لها مكان او قاموس مصطلحات أو مفردات عند الدول العربية والإسلامية اطلاقأ مهما حاولت منذ قتل هابيل أخاه قابيل حتى ليوم القيامة اعتمدوا وتفننوا في البطشوتحقير بني آدم مهما ادعي البعض بالديمقراطية المطاطية

    • زائر 17 | 3:04 ص

      الطائفية مرض ابتلينا به بعد عام ... فقبل ذاك العام النحس لم نعرف الطائفية بل كنّا شعب واحد نناضل من اجل قضية واحدة لذلك لنبذ الطائفية يجب علينا كشعب ان نتفق ان نبعد رجال الدين عن الساحة السياسية و الشأن العام لأنهم سبب كل بلاوينا

    • زائر 16 | 2:46 ص

      أحسنت دكتور منصور! احنى في بلد واحد! المفروض علاقتنا ابعض هي علاقة تعاون مثل النقطة الخامسة! لكن اله صاير هي علاقة كل طرح يحاول يكسر طرف! واذا طرف بيتفاهم مع طرف ثاني فهم ما يتفاهمون في سبيل الله ومن خاطرهم! لكن يتفاهمون كعلاقة تجارة ومصالح! أنه تعطيني جذي وأعطيك جذاك! ولا كأنهم في بلد وحدة وحياتهم أهني مشتركة!

    • زائر 14 | 2:41 ص

      هذا ان كان خصمك عاقلا!

    • زائر 9 | 2:30 ص

      يصعب إدارة الخلافات مع الطائفية حتي الشعب الواحد لايستطيع أن يوحد صفوفه ويتصالح مع نفسه ويوحد كلمته هل استطاع لبنان أو العراق واليمن هذا حتى الكوارث التي إصابتهم لم تزيدهم إلا تمزقا أكثر

    • زائر 8 | 2:24 ص

      لم نرى هذه الحلول في ازمات البحرين السياسية او الاقتصادية او غيرها.

    • زائر 7 | 2:19 ص

      شكرا لك دكتورنا المربي

      وتبقى كلمة العدل والإنصاف والمنطق هي الفيصل مقال تربوي رائع لكل الناس وليس للسياسيين فقط انه برنامج عمل للتقدم لك مني الف تحيه دكتور

    • زائر 6 | 12:16 ص

      إضافة إنجاز إنساني

      ... ..القبضه ....... التي تؤدي إلى مزيد من الخلافات..

    • زائر 4 | 12:14 ص

      المشكلة لدينا أن هناك من يخلق الخلافات و المشاكل.
      في 2002 الى 2006 تقريبا لو اعطي الناس اعمال و وظائف و بيوت اسكان و تم زيادة الرواتب الى مستوى دول الخليج و وقف التجنيس الغير قانوني لسكت الناس أجميعين.
      و لكن الأمور وصلت أوجها في 2011 و هذا كان تنبؤ ذكي من معالي الدكتور منصور الجمري في احدى الندوات في 2004 و التي كانت بحضور ولي العهد و كبار المسئولين.
      السؤال لماذا لم يأخذ المسئولون ذلك على محمل الجد قبل أن يقع الفأس في الرأس و يتم صرف ميزانية كبيرة و قروض من أجل الأمن؟
      نحن بحاجة الى حكماء

    • زائر 25 زائر 4 | 6:16 ص

      Like

    • زائر 33 زائر 25 | 9:44 م

      شكرا على الرد الجميل فهو حاسم و في الصميم.

    • زائر 3 | 12:05 ص

      احسنت دكتور:ربما تنفعنا النقطه الخامسه. لأننا فى البحرين نعيش ومع الاسف فى حالة النقطه الاولى . وبارك الله فيك يادكتور.

    • زائر 2 | 10:38 م

      هذا يا دكتور لمن يفكر بعيداً ويعمل على حلول تبقى طويلاً.. أما من يأنس بالحلول السريعة والنتائج القصيرة فلا يتعدى فكره وعمله طريقة الإخماد بالقوة..

    • زائر 1 | 10:03 م

      هذا المقال يصلح للنظام السوري ليتعض منه مهما قتل بمساعدة روسيا و ايران و حزب الله من اجل القضاء على ثورة الشعب السوري و استمرار حكم عائلته لن ينجح ابدا بأدوات البطش و كذلك ينطبق على النظام الايراني و العراقي و شكرا للاخ الدكتور منصور على هذا المقال .

    • زائر 5 زائر 1 | 12:16 ص

      زائر واحد...
      شكلك مضيع الطريق يالحبيب .

    • زائر 15 زائر 5 | 2:45 ص

      هذا المقال يصلح لكل واحد مضيع البوصلة! ويا كثرهم عندنا في المنطقة!

    • زائر 11 زائر 1 | 2:39 ص

      بس

      والباقي ما يصلح ليهم ؟! عيوني في عيونك !!

    • زائر 12 زائر 1 | 2:40 ص

      مقال رائع ويصلح الى جميع من لا يعترفون بوجود رأي أخر مخالف الى رأيهم الإستبدادي في جميع مراكز اتخاذ القرار وفي جميع الدول

    • زائر 13 زائر 1 | 2:41 ص

      طيب ونظام جزر القمر ؟

      ما ينفع وياهم ترى شعبهم بعد محتاج يديرون وياه الخلاف مو يقضون عليه ويعادونه ويتعالون عليه .. شعب جزر القمر في محنة نسأل الله ان يفرجها عليهم

اقرأ ايضاً