العدد 5070 - الأحد 24 يوليو 2016م الموافق 19 شوال 1437هـ

تجهّلوا فتوحّشوا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يقول عبدالفتاح مورو (الذي أتينا على ذكره قبل يومين): إنَّ حديثاً بينه وبين وزير التربية التونسي ناجي جلول جرى بشأن تفسير تسلّل الفكر المتطرف إلى بعض الشباب التونسي (وربما غيره أيضاً). كان تفسير مورو في ذلك يختلف عن التفسير السهل والسائد الذي يقول إنَّ المساجد في تونس هي التي كوَّنت ذلك الفكر. ورؤيته تقوم على تحميل المناهج التربوية السبب في ذلك.

فهو يشير إلى أن «المنهج الجاف الذي لم يفتح آفاق الروح والعقل والضمير أمام التلميذ، والذي جعله لا يتلذَّذ بالدنيا ولا يُدلي بدلوه فيها» هو المشكلة. فـ «الذي لا يقرأ الشعر ولا يسمع الأغنية ولا يشارك في التمثيلية كيف تريده أن يكون قادراً على استيعاب الواقع؟ حتماً «سيكون مبتوراً في تكوينه، منقطعاً عن واقعه، يأخذ شهادة إن نجح ليكون آلة من آلات المجتمع لا إنساناً فيه».

ثم يشير إلى تجربة المدرسة الصادقية في تونس التي هي أول مدرسة ثانوية تونسية عصرية تأسست في العام 1875م. فهذه المدرسة (والكلام لمورو) في الوقت الذي حبَّبت طلابها للعروبة، إلاّ أنّها جعلتهم يدرسون الفرنسية، ولغتين اثنتين إما الإنجليزية أو الألمانية الأمر الذي جعلهم يطلعون على الثقافة الأوروبية، كالفلسفة في ألمانيا، والتجربة الحقوقية والسياسية في فرنسا.

كما فتحت هذه المدرسة لطلابها «مجال العمل الثقافي»، فكانت إلى جانب «دراستهم المواد العلمية كانت تُوفّر» نوادي ثقافية، ونوادي للشعر، وأخرى للتمثيل، ونوادي للغناء، ونوادي للرياضة»، وهذه الأنشطة «هي التي كمَّلت شخصية التلميذ الذي لا يُكوّنه مجرد درس يلقيه أستاذ ليحاسبه عليه بعد شهرين بعشرة على عشرة، لكن الذي يُكوّنه هو المناخ الذي يجعله متعاملاً مع الفكر ومع الثقافة ومع الفن ومع الأدب، أن نُربّي أبناءنا على منهج مُتسع يفتح لهم الآفاق» كما يقول.

وهنا يجب أن نشير، كتدليل على ذلك التميّز لهذه المدرسة، إلى أن أغلب القيادات التاريخية لتونس، السياسية منها أو الفكرية وخلافها هي من مُخرجاتها. فالزعيم التاريخي التونسي الحبيب بورقيبة تخرج فيها. والطبيب الأشهر في تونس ثم السياسي البارز مصطفى بن جعفر تخرج فيها. والنقابي والسياسي التونسي المخضرم أحمد بن صالح درس فيها، وأهّلته لأن يواصل دراسة الآداب في السوربون. والأديب والمفكر وأبو التعليم المجاني في تونس محمود المسعدي تخرّج فيها.

هذه التجربة لها جذور عميقة في أرض تونس، وفضاؤها يتجاوز مسألة التعليم إلى مسألة الانفتاح بصورة أكبر، حيث الفكر والفقه والنظرة للمشكلات الاجتماعية، التي كانت تونس رائدة فيها منذ القرن التاسع عشر وبغطاء ديني إصلاحي. وربما يمتد ذلك النَّفَس حتى القرن الرابع الهجري، إبّان حقبة أبي محفوظ محرز بن مخلف بن رزين (توفي العام 413 هـ)، وهو من كبار القادة الدينيين الذين اصطبغ بهم التاريخ الديني والفكري والسياسي التونسي طيلة قرون.

ولا بأس أن نشير هنا إلى ما ذكره الرجل بشأن جزء من تجربة بن رزين فيما خص العمل الاجتماعي المسنود براية دينية مختلفة. فهو يشير إلى أن أبا محفوظ «فتح بيته لكل فتاة أخطأت، وتبرأ منها والداها وأهلها». وقد جعل حول بيته بيوتات صغيرة متعددة تسكنها تلك الفتيات لمدة عام يخدمن خلالها زوار المقام، وهو أشبه ما يكون بإعادة تأهيلهن كي يعيدهنّ للاندماج في المجتمع من جديد.

ويضيف مورو أن بن مخلف كان يخرج بنفسه «إلى الأسواق» باحثاً لهن عن أزواج، حتى يظفر بأحد أعزب، فيدعوه للزواج «فإن وافق يعرض عليه واحدة من تلك الفتيات، شارطاً عليه ألا يسأل عن ماضيها وأن يأخذها إلى مكان بعيد لا يعرفها فيه الناس»فلذلك ردّ الأمل لكل مخطئة» بحسب توصيفه. وكان مثل هذا العمل يعكس تفكيراً وإجراءً فقهيّاً مختلفاً وجريئاً خطّه بن مخلف.

لقد كان لهذا التاريخ الممتد من ألف عام تقريباً مروراً بالقرون التالية تأثير كبير على الفكر الديني والاجتماعي في تونس. وربما أشِيْرَ في سياق الحديث الذي جرى ما بين الرجل ووزير التربية ناجي جلول إلى حالة القطع التي حصلت مع الأجيال التونسية الجديدة، التي لم تتشرّب في مناهجها ولا تعليمها ما كان يحصل في الصادقية واستلهام تاريخ بلادها العريق فيما يتعلق بالانفتاح، الأمر الذي أثر سلباً على أفكار شبابها، وانزلاقهم في التطرف الذي تقوده اليوم داعش وأخواتها.

لذلك، فإن دراسة تاريخ الحركة الفكرية (سواء الدينية أو العلمانية) في تونس يختلف عن غيره من البلدان العربية. فالإسلاميون التونسيون خلال حقب السبعينات والثمانينات لو لم يكونوا يطلعون على أحدث النظريات الغربية كالفرويديّة والنشوء والارتقاء لم يكن ليحصل لهم أدنى تأثير في المجتمع، الذي كان لا يُجارَى إلاّ بالتحدي الذهني والاستماع للغة العصر.

وهذه التجربة التونسية مهمّة جدّاً لأهل تونس (وللدول العربية الأخرى)؛ كي نتأمّل في أصل المشكلة التي ولَّدت لنا هذا الفكر الأسوَد، الذي لم يُبقِِ للإنسانية حرمة، وبات المعول الهدَّام لطموحات الشباب، الذي بدل أن يذهب إلى مراكز العلم ويخدم البشرية، بات يدلف إلى ساحات الذبح وإطلاق التهديدات والوعيد على الشاشات.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5070 - الأحد 24 يوليو 2016م الموافق 19 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:22 ص

      شكرا أستاذي فما اروع اختيارك للمواضيع وسبكها
      حقا مناهجنا بلا روح ولا تشكل جانب متعة للطالب

اقرأ ايضاً