العدد 5073 - الأربعاء 27 يوليو 2016م الموافق 22 شوال 1437هـ

سيدة العطس

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سنرافق في هذا المقال عالِمَة شابة في علم الأحياء بدل السياسة. إنها ليديا بورووِيبا الباحثة في علم رياضيات الأوبئة بجامعة يورك في تورونتو بكندا. هذه الفتاة هي بحق مكسب حقيقي للعلم واكتشافاته اليومية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وعلى رغم أنها فتاة وشابة إلاّ أنها وفي سبيل الاكتشاف جازفت وتجازف بحياتها من أجل الحصول على نتائج علمية جديدة.

فحسب تقرير مجلة نيتشر العلمية، فإن ليديا صعدت جبل كليمنجارو في تنزانيا (أكثر جبال إفريقيا ارتفاعاً) وذا الفوهات البركانية الثلاث، قبل 5 سنوات. كما أنها خيَّمت في أماكن وصلت فيها درجات الحرارة إلى 20 درجة تحت الصفر، وإنها تذهب في رحلة استكشافية بدراجة هوائية لمدة أسبوع متواصل إلى أماكن يتطلب البحث منها أن تذهب إليها.

قبل فترة قامت ليديا باختبارات قد نراها غريبة وبلا قيمة، حين قررت أن تُحلِّل العُطاس والسعال لتربطهما بالأمراض المُعدِية، حتى أطلق عليها أحد طلابها مازحاً بـ «سيدة العطس». لقد قامت ليديا بوضع كاميرا خاصة التقطت من خلالها آلاف الصور في الثانية الواحدة، وسجّلت أدق التفاصيل للحظة العطس، التي شبّهتها بالانفجار وما يخرج من الفم أثنائها من لعاب ومخاط مع قياس سرعته.

لقد ظهر لها بأن حبيبات العُطاس والسعال قوية في اختراقها فتحات التهوية في الغرفة، ما يعني أنها يمكن تُقذَف إلى مديات أبعد. كان هدفها الوقوف على قدرة تلك الحبيبات على حمل فيروسات إلى الآخرين. وهي تشير إلى أن هدفها هو «الاستدلال بالفيزياء والرياضيات» كي تعطي «توصيات مبنيَّة على أسس علمية»، وبالتالي التحذير من أشياء قد نعتقد أنها عادية في خطرها.

فالمنطقة المحيطة بالمريض ووفقاً لأبحاث ليديا باتت غير آمنة بوسائل الوقاية المعروفة أو التجاهل، وخصوصاً بالنسبة لمن هم في المستشفيات من أطباء وكادر تمريضي وزوار، والذين هم مؤهلون لنقل ما يتلقونه إلى التجمعات السكانية المفتوحة. وهو ما يجعل الأمر بالغ الخطورة أكثر مما نتصور.

لكن، ما هو الجديد الذي ظفرت به ليديا؟ في البداية بيَّن الفيديو الدقيق الذي صوّرته أن بعد العطس تخرج قطرات من الرذاذ مكوَّنة من اللعاب والمخاط تستطيع الانتقال إلى مسافة تصل إلى 8 أمتار، وفي حالة السعال إلى 6 أمتار، وأنها تبقى في الجو مدة 10 دقائق. لقد غيَّر هذا الرصد كل القناعات في فهم قوة العدوى. ففي السابق كان يُعتقد بأن المسافة التي يقطعها الرذاذ هي متر أو مترين فقط، وبالتالي فإن فرص العدوى بسيطة إن ابتعد المحيطون بالمريض عنه لثلاثة أمتار بحسب الاعتقاد الكلاسيكي.

بعدها قامت ليديا بتقريب عدسة من فم إنسان لتصوير عطسة «مدتها 150 مل/ ثانية» فحصلت على 8000 صورة في ثانية واحدة. وتبيَّن لها من خلال تلك الصور أن السائل المنفوث يتدفق على شكل «ألواح تتشكل فيها ثقوب، ثم تتكون حلقات تتمدد بفعل مسار الهواء، وتتكسر الحلقات بعد ذلك، مخلِّفة خيوطاً تتكون عليها حبّات صغيرة من السائل، وتتمدد هذه الخيوط وتتفتت».

لقد أظهرت كل تلك النتائج أن الاعتقادات السابقة فيما يتعلق بالعدوى يجب أن تتبدّل فوراً، للحد من انتشار الأوبئة في الجهاز التنفسي. وهي خلاصات يراها باحثون كبار ستساعد كثيراً في الحد من انتشار تلك الأوبئة بين الناس وبين الكادر الطبي والتمريضي، وخصوصاً في إفريقيا وأميركا اللاتينية والهند والصين والبلدان التي تشهد حروباً.

الحقيقة أن هذا هو أحد مشاريع ليديا الجديدة واللافتة في الصحة، لكن من المفيد أن نعرف أيضاً شيئاً عن سيرتها وبداياتها التي جعلتها عالِمة بارزة. عندما كانت صغيرة وتعيش في فرنسا كانت كتب العلوم والطبيعة وسيرة آنشتاين تحوطها. وعندما وجدت أن هذا المجال له ارتباط وثيق بالرياضيات والفيزياء أحبتهما واختارتهما كمادتين أساسيتين في مرحلة دراستها البكالوريوس.

بعد ذلك وجدت نفسها مدفوعة لدراسة ما يُسمّى بـ ميكانيكا الموائع في الدراسات العليا، على رغم خوفها من أن غموض علم الأحياء سيجعلها تفشل. لكنها وصلت إلى هذه القناعة: «ما الذي نستطيع أن نقدمه نحن كبشر لجَعْل العالَم مكانًا أفضل؟» لذلك وجدت أن علم الأوبئة هو المجال الذي يمكن أن تخدم من خلاله هدفها الإنساني، وذاكرتها مشدودة لمرض سارس وشلل الأطفال وانفلونزا الطيور. أكملت مشوارها ونالت الدكتوراه وحصلت على وظيفة باحثه مرموقة.

هذا الأمر وهذه السيرة مدعاة للتأمل فيما خص علاقة الرغبات الشخصية بتحديد المستقبل العلمي للطالب، وربط ذلك بالهَمِّ الاجتماعي العام، بعيداً عن أيّ تأثيرات أخرى. الملاحظ أن الكثير من الاختيارات العلمية للطالب تُحدِّدها فرص وجود الوظيفة التي يمكن أن ينالها الطالب، وكذلك الوضع الاجتماعي لتلك الوظيفة، وهو ما يجعلها واقعة تحت تأثيرات جانبية ما تلبث أن تتحوَّل إلى سطوة قاهرة.

فآفاق الناس والأجيال متبدلة، وهي تتولد من البيئة المحيطة وبقابلية الفرد، ما يجعل الخيارات متعددة بتعدد البشر. هذا التعدد في حدّ ذاته قيمة كبيرة تحصل عليها المجتمعات بصورة طبيعية، وهي ثروة لا تُضاهيها أيّ ثروة أخرى، لذلك، من المهم الاعتناء بها وعدم جعلها عرضة للتآكل تحت وطأة متطلبات الحياة وتوفير لقمة العيش، لصالح الإبداع العلمي، وهنا تأتي مسئولية الدول في ذلك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5073 - الأربعاء 27 يوليو 2016م الموافق 22 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:31 ص

      لو عرفت التربية عندك طموح لكيةتصبح عالم هكذا لمنعوا عنكم الهواء وﻷعطوا البعثه لمن لا عهد له بالمثابرة والنجاح فقط غل وحقد في صدور فئة متصدرة حاقدة

    • زائر 3 | 2:18 ص

      والزبدة :بتعدد البشر. هذا التعدد في حدّ ذاته قيمة كبيرة تحصل عليها المجتمعات بصورة طبيعية، وهي ثروة لا تُضاهيها أيّ ثروة أخرى، لذلك، من المهم الاعتناء بها

      فآفاق الناس والأجيال متبدلة، وهي تتولد من البيئة المحيطة وبقابلية الفرد، ما يجعل الخيارات متعددة بتعدد البشر. هذا التعدد في حدّ ذاته قيمة كبيرة تحصل عليها المجتمعات بصورة طبيعية، وهي ثروة لا تُضاهيها أيّ ثروة أخرى، لذلك، من المهم الاعتناء بها وعدم جعلها عرضة للتآكل تحت وطأة متطلبات الحياة وتوفير لقمة العيش، لصالح الإبداع العلمي، وهنا تأتي مسئولية الدول في ذلك.

    • زائر 1 | 10:28 م

      الكاسر
      تعال مر اي مركز صحي وشوف المريض لما يحضر يسجل عند الكاتب يمد رقبتة لحضنك يعطيك البطاقة لتسجيل خلها تقرا الوكيلة تقول ما تبي حاجز بين الموظف وبين المريض اهي قاعدة في مكتب ويش عليها الموظف صادة عدوة لو مات ما يهمها

اقرأ ايضاً