العدد 5075 - الجمعة 29 يوليو 2016م الموافق 24 شوال 1437هـ

الدَّم الفاسد

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أعدّت الـ «ديلي ميل» البريطانية تقريراً من نوع خاص. التقرير بالأساس جاء كتعليق على برنامج وثائقي بثته قناة «إم دي آر» جُمِعَ فيه أحفاد القادة النازيين (الذي حكموا ألمانيا منذ العام 1933م ولغاية العام 1945م) كي يتحدثوا ولأول مرة عن شعورهم، وهم ينتسبون إلى أجداد وآباء ارتكبوا جرائم وحشية، على رغم مُضِي أكثر من نصف قرن عليها.

كان حديث هؤلاء الأقارب يعكس معاناتهم التي قد لا نشعر بها نحن ولا 7 مليارات إنسان في هذا العالم، وكيف أنهم يعتقدون بأن عاراً ثقيلاً وقع عليهم؛ لموت عشرات الملايين من البشر، سواء خلال سياسات الهندسة الوراثية والعرقية التي جرت في ألمانيا النازية والدول التي احتلتها، أو إبّان الحرب العالمية الثانية التي أشعلها النازيون باحتلالهم معظم أراضي أوروبا.

أغرب ما قرأته في التقرير هو ما كشفته حفيدَتَا أحد أشقاء هيرمان غورينغ، مؤسس شرطة الغستابو السرية النازية، وأحد عرّابي الهولوكوست والهجوم على بريطانيا، من أنهما قامتا بربط رحِمَيهِمَا كي لا تَلِدا ما أسمتهما وحشاً ربما يشبه عمهما. وربما دفعتهما الظروف النفسية القاسية، وأحاديث الناس المستمرة؛ لأن يقوما بتلك الخطوة «القاسية» تعبيراً عن الندَم المُجتَر.

امرأة أخرى وهي كاترين هيملر حفيدة قائد القوات الخاصة النازية هاينريش هيملر، والرجل الأول في مشروع الإبادة الجماعية، قررت الزواج من يهودي إسرائيلي، تأكيداً منها على القطع الكلي بينها وبين ما كان يقوم به جدها ضد اليهود. هي تقول انها تحمل اسمه لكنها لا تحمل شرَّه، فهي ليست مسئولة عما فعل.

أيضاً، ممن شاركن في البرنامج مونيكا هيرتفيغ، ابنة آمون غوث، وهو قائد أحد معسكرات النازيين التي شهدت قتلاً جماعياً، ونيكولاس فرانك، وهو ابن هانز فرانك حاكم بولندا بعد أن احتلها النازيون، والمسئول الأول عن المعسكرات التي قُتِل فيها اليهود بأعداد غفيرة، كان يصف أباه بالوغد الذي كان يُعذب السجناء وهو يضحك.

لقد اختار نيكولاس (بحسب التقرير) أن يدخل في برنامج توعوي عبر إلقائه محاضرات عن والده كي يُحذر الشباب من خطورة الفكر النازي، الذي بات يستهدف اليافعين الألمان. وكان يقول: «لم أستطع أن أتخلص من ذكراه طوال حياتي، وأشعر بالخزي الشديد بسبب ما فعله»، وهو ما يزال «يحلم بأكوام من الجثث المرمية في المعسكرات، فهذه الحقبة (كما يعتقد) لن تستطيع ألمانيا التخلص منها».

أما مونيكا فقد اختارت أن تفضح أباها بالقول انه تسبب في قتل عشرات الآلاف، «بينهم 500 شخص قتلهم بيديه. لقد أحب قتل النساء اللاتي يحملن أطفالهن من شرفة منزله؛ ليعرف إن كان بإمكان رصاصة واحدة قتل شخصين». كانت تقول ذلك وتتساءل بألم وتضيف «كيف يمكنك فصل الأب عن القاتل؟». إنه اختبار صعب نجحت فيه مونيكا لصالح القيم الإنسانية.

الحقيقة، أن هذه التجارب هي تعكس مشهداً ألمانياً خاصاً، لكنها تمنح المرء فرصة للتأمّل والتفكير. إذْ كيف يمكن للأبناء والبنات أن يتخلصوا وبشجاعة من عار والدهم أو جدّهم أو عمهم حين يصبح ظالماً وسجاناً وقاتلاً. وإذا ما وسَّعنا الدائرة كما يجب فإن المسألة لا تتعلق بالنازيين فقط، بل بكل الظَّلَمَة والقَتَلَة في هذا العالم. هؤلاء الذين يُزيِّنون لأنفسهم بأنهم يُحسنون صنعاً من أجل بلدانهم وضد أعدائهم، في حين أنهم جناة وجزَّارون، لا يرحمون كهلاً ولا امرأة ولا طفلاً.

وهنا يجب أن نشير إلى أن من داخل «منظومة الشر» يتشكَّل عالَمٌ صغير تشترك فيه كل صور الأشخاص في الحياة الطبيعية ولكن بصورتهم الدموية. بمعنى، أنه لا يعتقد أحد أن هتلر أو غيره من الطغاة قد حكموا بلدانهم وشعوبهم بالعسكر والجنود فقط، بل حكموها بكل مَنْ وُجِدَت لديه القابلية كي يشترك في الجريمة الإنسانية مقابل المال والحظوة والامتيازات والحياة الرغيدة.

لذلك وجدنا في كل تجارب الحكم الظالم كان هناك أهل الفن الذي يُرَنِّمون للقسوة والقتل. وكان هناك الصحافيون وأهل القلم الذي يُدبِّجون ويُزيِّنون لآلة القتل والظلم بأن تستمر في تكسير عظام الناس. وكان هناك المذيعون الذي تلهَج ألسنتهم بالشتيمة والقذف في أعراض الناس. وكان هناك المثقفون الذي يُحوِّلون المشهد السوداوي إلى مدينة أفلاطون الفاضلة. وكان هناك أهل القانون الذي يُخرِّجون المخارج ويصنعونها صنعاً كي يُخلِي الظالم مسئوليته. وكان هناك أهل الفتوى كي يُعطوه مباركة معنوية ويُضفون على أفعاله هالة تقديسية لا تقبل الشك.

ألَم يكن يدافع لسان جوزيف غوبلز عن هتلر وعن آلة النازيين القاتلة؟! ألَم تُجمِّل ليني ريفنشتال صورة هتلر في أفلامها «ظفر العقيدة» و»انتصار الإرادة» و»يوم الحرية»، جاعلة منه ملاكا؟ ألَم يقم كلاوس غراف باودسين بتلميع صورة هتلر والنازية بالفن والرسم في متحف فولكفانغ؟! ألَم يكن هانز فرانك محامياً لـ هتلر ودليلاً له كي يفعل الأفاعيل وبالقانون؟! ألَم يكن عند هتلر الأسقف ملر، وألفرد روزنبرغ الذي قال للألمان بأن الجرمانية هبة من الله وأنت تطيع أوامره بالذهاب إلى الحرب؟!

هذه الجوقة هي المنظومة الصلبة لأي ظلم. وهي نماذج تتكرر في أي تجربة حكم منهجها الحَيْف والقسوة. وهؤلاء وأشباههم هم مَنْ سيستحي أبناؤهم وأحفادهم من فِعلة آبائهم على مر الزمن.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5075 - الجمعة 29 يوليو 2016م الموافق 24 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 1:51 م

      سيدي. بارك الله فيك. معلومة جديدة. كم تمنيت ان يقرأ الطغاة و السفاحين والمآزربن معهم هذا المقال. ليعلموا بثقل الارث الذي سيتركوه لاحبائهم.

    • زائر 12 | 8:36 ص

      و من چديه الواحد لازم يفكر عدل قبل لا يتهور و يقدم على اي تصرف لأن هذا التصرف أوقات تبعاته تتحملها الأجيال اللاحقة

    • زائر 11 | 8:22 ص

      لا اتفق ان الابناء او الاقارب عليهم حمل ذنب من أخطأ من أبائهم حيث يتعارض الطرح أعلاه والآية الكريمة قال تعالي ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ اي أن كل إنسان محاسب عن عمله، دون أن يكون لأحد علاقة بهذه المحاسبة، أي الوازرة النفس لا تحمل حمل غيرها، كل إنسان محاسب عن عمله، مسؤول عن خطئه ، وفي تفسير الطبري "أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى , أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها , بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها فلا يتحمل الاب جزاء الذرية او الابناء العاقين وهلم جرا..

    • زائر 15 زائر 11 | 8:52 م

      العقاب
      الكاتب لم يقصد ان ابناء المستبدين او احفادهم سينالهم العقاب لفعلة اباءهم وانما يقصد ان افعال اباءهم او اجدادهم ستسبب لهم العار وسيلاحقهم طوال حياتهم وتلاحق اولادهم من بعدهم

    • زائر 10 | 7:45 ص

      مقال موفق شكرا لكم

    • زائر 9 | 7:29 ص

      شكرًا ... موضوع اكثر من رائع

    • زائر 8 | 4:28 ص

      احسنت وشكرا جزيلا ، مقال رائع كما عودتنا

    • زائر 7 | 3:55 ص

      مقال ثري ومميز

    • زائر 5 | 2:48 ص


      هذه الجوقة هي المنظومة الصلبة لأي ظلم. وهي نماذج تتكرر في أي تجربة حكم منهجها الحَيْف والقسوة. وهؤلاء وأشباههم هم مَنْ سيستحي أبناؤهم وأحفادهم من فِعلة آبائهم على مر الزمن.

    • زائر 4 | 2:43 ص

      هل يستطيع ابناء وزوجات الدواعش ومن فرخهم وانتجهم فعلها

      الحقيقة، أن هذه التجارب هي تعكس مشهداً ألمانياً خاصاً، لكنها تمنح المرء فرصة للتأمّل والتفكير. إذْ كيف يمكن للأبناء والبنات أن يتخلصوا وبشجاعة من عار والدهم أو جدّهم أو عمهم حين يصبح ظالماً وسجاناً وقاتلاً. وإذا ما وسَّعنا الدائرة كما يجب فإن المسألة لا تتعلق بالنازيين فقط، بل بكل الظَّلَمَة والقَتَلَة في هذا العالم. هؤلاء الذين يُزيِّنون لأنفسهم بأنهم يُحسنون صنعاً من أجل بلدانهم وضد أعدائهم، في حين أنهم جناة وجزَّارون، لا يرحمون كهلاً ولا امرأة ولا طفلاً.

    • زائر 3 | 12:50 ص

      حتى ابناء الكتاب اللي وشو على الناس وزرعوا الفتنه راح يحسون بالعار، وراح يلعنون من اهلهم لانهم قمة العار!

    • زائر 2 | 10:48 م

      الاخ محمد الحيه ما تيب الا حيه جوف العراق وسوريا ولبنان باريس ....

    • زائر 1 | 10:07 م

      لا زال في هدة العصر .... كثيرون ...
      ..

اقرأ ايضاً