العدد 5082 - الجمعة 05 أغسطس 2016م الموافق 02 ذي القعدة 1437هـ

أيهما أخطر الرصاصة أم الكلمة؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حين تطلق النار، أو أن يُحرِّضك أحد على ذلك فهل هناك من فرق؟! هذا سؤال جوهري، والإجابة عليه لازمة كي ننتف الوبر من على وجه الحقيقة. فلفظة التحريض والحض على الكراهية، باتت إحدى سِمَات التهم الموجهة، سواء للأفراد أو الجماعات أو حتى للدول حين تسوء العلاقات السياسية، وربما هي الأكثر شيوعاً في زماننا.

لكن ذات اللفظ، له مسار آخر هو أكثر خطورة، وهو حين تبدأ الآلة الإعلامية «المسيَّرة» في استخدام التحريض على الحريات أو على الأفراد والطوائف الدينية والمؤسسات المدنية، وصولاً إلى مرحلة قد يكون فيها ذلك التحريض الإعلامي موصوفا بأنه استهداف عام يُجيِّش طرفين للمواجهة.

هذا النوع من التحريض الإعلامي هو صورة أخرى للنَّصْل أو الرصاصة أو حبال الإعدام، ولكن على هيئة قلم يتقيأ كلمات سوداء، يتم تسطيرها وترديدها لخلق جو من الأمان المعنوي وتحشيد وهمي للآلة العنيفة ضد الأفراد والجماعات والطوائف، وبالتالي فهو شريك أساسي في الجرم القائم.

سأتناول هنا قضية محددة لتقريب تلك الصورة. هل سمعتم برجل اسمه جوشوا أراب سانغ؟ حسناً، سأعرّفه لكم. إنه إعلامي كيني مولود في منطقة بالوادي المتصدّع تسمّى كيتالي عام 1975، وهو ينتمي إلى عِرق قبلي ما فتأ يتصارع لحكم البلد ما بين كالينجين وغريمتها كيكويو.

في الـ 15 من ديسمبر/ كانون الأول سنة 2010 تفاجأ العالم بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أصدر مذكرة استدعاء لمثول أراب سانغ أمام المحكمة، بتهمة المسئولية الجنائية عن التحريض على العنف ونشر الكراهية العرقية، خلال أعمال العنف التي أعقبت أزمة الانتخابات الكينية بين عامَيْ 2007 و2008 والتي راح ضحيتها أكثر من ألف قتيل وربع مليون مُهجَّر.

ومما جاء كذلك في الدائرة التمهيدية للمحكمة بشأن هذا الإعلامي الكيني، أن المواد المقدمة لهم من قبل المدعي العام، جعلتهم يعتقدون بأن سانغ استخدم موقعه الإعلامي لنشر ذلك التحريض، وبث شفرات محددة كي تُرتَكَب جرائم عرقية ضد الكيكويويين، وأيضاً جرائم سياسية ضد أنصار حزب الوحدة الوطنية (بي إن يو) لصالح الحركة الديمقراطية البرتقالية التي ينتمي إليها.

وقد حدَّدت المحكمة آنذاك جرائم سانغ تاريخاً ومكاناً بأنها كانت في: توربو (31 ديسمبر 2007) وإلدوريت (بين 1 و4 يناير 2008) وكابسابت تاون (بين 30 ديسمبر 2007 و16 يناير 2008) وناندي هيلز تاون (بين 30 ديسمبر 2007 و2 يناير 2008)، وهو ما لبّى عتبة الأدلة ضده وفق نظام روما الأساسي، حيث افتُتِحَت محاكمته في هذه القضية في الـ 10 من سبتمبر/ أيلول العام 2013.

اللافت في الأمر أن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي اتهمت إلى جانب سانغ مسئولين سياسيين كبارا في كينيا، حيث ساوتهم قاضية المحكمة الدولية ايكاتيرينا تريندافيلوفا بأنهم حرّضوا على «ارتكاب جرائم ضد الإنسانية»، وكان دور الإعلامي سانغ فيها هو التحريض والتجريح والحث على الاجتثاث.

وبعيداً عن مجريات تلك المحاكمة ونتائجها، إلاّ أن المسألة مهمّة كي نتأمّل فيها. فالإدانة هي معنوية قبل كل شيء. وهي تجعل من الشخص محل شبهة «دولية» ومحل متابعة من قِبَل المنظمات والقوى المدنية الفاعلة في الأحزاب الأوروبية. إنها نهاية حقيقة لـ سانغ في المجالين السياسي والإعلامي، وتسليط الضوء عليه وعلى مثل هذه الأدوار المجرّمة تجاه المدنيين.

إن مساواة «كلمة» سانغ الإعلامية، مع الجرائم السياسية الأخرى يعطي مؤشراً على خطورة التحريض على المدنيين والأنشطة السياسية السلمية، وعلى الآراء الأخرى التي لا تتفق مع السائد أو مع الأطراف المقابلة داخل البلد.

في السابق، ساوَى القانون الدولي، بين الجرائم التي ارتكبها الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي أشعل الحرب العالمية الثانية، وبين وزير دعايته جوزيف غوبلز. وعندما كان يذكر التحريض على بولندا، وعلى الأقليات اليهودية، والنيل من الروس، وعلى الأغيار في الداخل الألماني من سياسيين واقتصاديين وكَهَنَة، فقد كان يُنظر للرجل، على أنه أحد آلة القتل النازية الرهيبة والتضليلية.

في الجانب الآخر من القارة، كان الزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني والذي كان مُحرِّرًا لصحيفة «أفتاب» الإيطالية قبل ذلك، قد تمثل هو الآخر في شكل مُحرِّض على دعاة السلام، وعلى القوى الإيطالية الديمقراطية التي كانت تعارض دخول إيطاليا الحرب العالمية الأولى.

فالأذرع الإعلامية لدى الأنظمة المغلقة هي مُجرَّمة على ما تكتبه من تحريض وتخليق للأفكار العنفية كي تفعل آلة القتل ما تفعل ضد طوائف سياسية ودينية أو عرقية مهيضة الجانب. ولم يعد هناك فرق كبير بين مَنْ يُطلِق النار وبين مَنْ يقول يجب أن تُطلِق النار. فالأولى أن يقال: تمهّل وتأمّل قبل أن تفعل. فالكلمة قبل أيّ شيء هي مشورة، والاستشارة هي مسئولية.

أختم بحادثة ذكرها ابن عبد ربه في عقده، وهي أن عمر بن عبدالعزيز أرسل إلى سالم بن عبدالله ومحمد بن كعب كي يُشيرا عليه في سياسته تجاه رعيته. فقال له سالم: اجعل الناس أباً وأخاً وابناً، فبرّ أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5082 - الجمعة 05 أغسطس 2016م الموافق 02 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 2:07 ص

      اذا جائكم فاسق بنبأ فتبينوا...

      يا كثرهم عندنا . ويكتبون بدل الحبر سم طائفي بغيض ويبخون من حناجرهم بخ الحية

    • زائر 4 | 1:08 ص

      طبعا -( ال ك ل م ة )- سوي روحك ما تدري يا بوجاسم
      مع خالص تحياتي

    • زائر 3 | 12:55 ص

      الكلمة توعي الفكر وتثريه وتجعله غير قابل للاس.. لذلك هي اخطر بكثير ولذلك ايضا تتعامل معها الانظمة وفق هذا المنظور

    • زائر 5 زائر 3 | 1:27 ص

      وقد تكون العكس

      الكلمه تدمر مجتمعات وتبنى على اساسها احكام والكلمه تجعل من القاتل حمامة سلام ومن الضحية وحش كاسر لا يستحق الحياة

    • زائر 2 | 12:47 ص

      الكلمة اخطر
      الرصاصة طلقه وتموت
      الكلمة في اليوم تتذكرها عشرات المرات وخصوصا اذا أتت من اقرب الناس إليك. مثلا من الزوجة.

    • زائر 1 | 12:32 ص

      ما أروع ما كتبت
      إن من الأهمية قراءة التاريخ وأخد العظة
      فالتاريخ دائما يعيد نفسه

اقرأ ايضاً